التثمين السياحي للمدينة العتيقة بتوزر (الجنوب الغربي التونسي): الاستغلال والمخاطر…بقلم د.فتحي بوليفه*

التثمين السياحي للمدينة العتيقة بتوزر (الجنوب الغربي التونسي):  الاستغلال والمخاطر…بقلم د.فتحي بوليفه*

*أستاذ-باحث في الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

في نهاية هذه السلسلة من المقالات الجغرافية التي خصصتها هذه الصائفة للجغرافيا الاقتصادية، أقدم لكم هذه الدراسة في شكل مقال خامس تخص أحد أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد التونسية، وهو السياحة من خلال تقييم التثمين السياحي للمدينة العتيقة بتوزر ومخاطره. أرجو لكم الاستفادة وقراءة ممتعة.

 

تمتد توزر المدينة الواحية بالجنوب الغربي التونسي وتمثل قطبا للسياحة الصحراوية. تتميز عن بقية المدن الصحراوية بمدينتها العتيقة التي تمّ إنشاؤها خلال الحقبة الإسلامية الأولى في شمال إفريقيا. تمثل المدينة العتيقة أكثر المواقع الحضرية هشاشة واستقطابا للسياح. تمثل التراث المعماري لمدينة توزر وتتطلب تخطيطا للمحافظة على مكوناتها وإعادة تهيئتها دون المساس من جماليتها لجعلها قادرة على استقبال أعداد إضافية من السياح دون التسبب في تدهورها. في إطار بحوثي التي تخص السياحة الصحراوية، أنجزت بحثا ميدانيا للإدراك الحسي للسكان للتراث المعماري لمدينة توزر. فماهي أشكال التثمين السياحي لهذه المدينة العتيقة؟ ماهي الأخطار التي تهددها؟ وكيف يدرك السكان والسياح حسيا ذلك التثمين السياحي لهذه المدينة؟

1- التثمين السياحي للمدينة العتيقة بتوزر

يتردّد السياح على المدينة العتيقة منذ الستينات من القرن الماضي، لكن ذلك التردّد تنامى خاصة منذ التسعينات تزامنا مع تضاعف عدد السياح الوافدين على السياحة الصحراوية. دفع هذا التنامي للتردّد السياحي الأطراف المتدخلة في المجال السياحي إلى إنجاز أشغال كبرى لإعادة تهيئتها وتجهيزها مع المحافظة على طابعها المعماري الذي يميزها، خاصة بعد الفيضانات التي أضرت بها كثيرا سنة 1990.

دفع أيضا تزايد التردّد السياحي على المدينة العتيقة بعض سكانها إلى تحويل مساكنهم أو أجزاء منها إلى مشاريع سياحية (إقامات أو مقاهى للسياح) أو حرفية أو تجارية مثل مغازة بيع المنتوجات الحرفية التقليدية “دار عاشور” التي تتركز وسطها.

1- مغازة كبرى لبيع المنتوجات الحرفية التقليدية “دار عاشور”

المصدر: تصوير شخصي 2020

 

دفع أيضا إعجاب السياح بالطابع المعماري المميز لهذه المدينة بعض المستثمرين في النشاط السياحي إلى شراء بعض المساكن القديمة لإعادة تهيئتها وتحسينها و تحويلها إلى “إقامات ضيافة سياحية” أكثر رفاهة لاستقبال السياح في إطار حميمي شبه عائلي. نذكر من هذه الإقامات مثلا “دار توزر”، دار الكبة”، دار زهرة”…

2- إقامة الضيافة “دار توزر”

المصدر: تصوير شخصي 2020

 

عوّضت هذه الإقامات السياحية في المدينة العتيقة بعض الفنادق القديمة المحاذية للمدينة كالفندق غير المصنف “الرونق” المغلق منذ سنوات حتى بدأت حالته تتدهور شيئا فشيئا.

3- فندق “الرونق” المحاذي للمدينة العتيقة مغلق و في حالة متدهورة

المصدر: تصوير شخصي 2020

 

رغم غلق هذا الفندق لا تزال فنادق أخرى محاذية لهذه المدينة تستقبل السياح كفندق “الواحة” (4 نجوم) وفندق “دار غوار” (3 نجوم).

رافق هذا التثمين السياحي للمدينة العتيقة بروز عدة مشاريع خاصة وعمومية لم ينجح جلها في الصمود أمام تراجع وتذبذب توافد السياح على مدينة توزر في ارتباط وثيق بتوافد السياح على البلاد التونسية عموما. نذكر من تلك المشاريع مقهى ثقافيا خاصا لم يصمد وأغلق أبوابه نظرا لتراجع توافد السياح على المدينة.

4- مقهى ثقافي يتوسط المدينة

المصدر: تصوير شخصي 2020

تأوي المدينة أيضا مقر”جمعية حماية مدينة توزر” ومتحف صغير يحوي بعض القطع الأثرية والمخطوطات الأدبية والعلمية الثمينة مثل “مخطط توزيع مياه واحات توزر” لـ “ابن الشباط” وبعض المجوهرات وأثاث الزينة وبعض الأدوات الحرفية والفلاحية التقليدية المميزة لأهالي الجريد. هذا المتحف الصغير والقديم يعاني من تدهور حالته.

5- تواضع تجهيزات المتحف الصغير وسط المدينة العتيقة

المصدر: تصوير شخصي 2020

لاحظنا أيضا أن الولوج إلى المدينة العتيقة صعب، نظرا لغياب وتواضع تجهيزات الاستقبال والارشاد السياحي، كما تفتقر إلى أدلاء سياحيين قادرين على مد السياح بالمعلومات التاريخية المميزة للمدينة.

6- تواضع تجهيزات الارشاد السياحي بالمدينة العتيقة

المصدر: تصوير شخصي 2020

 

قامت الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) في إطار دراستها للسياحة التونسية بتقييم مختلف تجهيزات المدينة العتيقة بتوزر وتوصلت إلى النتائج التالية:

1- تقييم الوكالة اليابانية للتعاون الدولي لمختلف تجهيزات المدينة العتيقة بتوزر

التجهيزات التقييم
لافتات المواقع والمؤسسات متواضعة
مأوي السيارات متواضعة
المتحف متواضعة
 

الارشاد

اللافتات متواضعة
المعلومات غير متوفرة
اللغات المتوفرة
الراحة مرحاض غير متوفر
محطة للاستراحة

المصدر: الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) 2001

 

2- المخاطر المهددة للمدينة العتيقة بتوزر

مثل كل المواقع الأثرية بالجنوب التونسي الهشة المهددة بالتقلبات المناخية القاسية (حرارة شديدة، رياح رملية قوية، فيضانات، برد شتوي ليلي صحراوي…) وبالاستغلال العشوائي ولا مبالاة “الوكالة الوطنية لتنمية واستغلال التراث الأثري والتاريخي”، تعاني المدينة العتيقة بتوزر من كل هذه المشاكل وتحتاج باستمرار لعمليات تهيئة وتحسين ظروف عيش سكانها الذين ينتمون إلى الطبقة الفقيرة والمعدمة في جلهم.كابدت هذه المدينة خسائر الفيضانات المتعددة والمتتالية (أهمها في سنوات 1969، 1975، 1990…) التي تسببت في جرف وهدم أجزاء هامة من هذه المدينة. بعد فيضانات سنة 1990 التي تزامنت مع بداية انتعاشة السياحة الصحراوية تدخلت عدة أطراف محلية و جهوية و وطنية (صندوق النهوض بالمناطق السياحية، برامج التنمية الإقليمية ، الادارات الجهوية للتجهيز والإسكان والبلديات…) لإنجاز برامج ترميم و إعادة تهيئة و تحسين لحماية طابعها المعماري المميز تمثلت خاصة في تجهيزها بشبكة صرف مياه الأمطار و التطهير و تبليط أنهجها و ممراتها الضيقة و إعادة إكساء واجهات منازلها بالآجر التقليدي للمدينة “القالب”رغم توسع مدينة توزر على أحياء جديدة أكثر تجهيزا ورفاهية، يتمسك بعض سكان المدينة العتيقة بمساكنهم المتداعية للسقوط والتي تفتقر في أغلبها لأبسط تجهيزات رفاهية العيش. لذلك وحتى تتمّ المحافظة على هذه المدينة وجب على السلط المحلية لمدينة توزر تحسين ظروف عيش سكانها حتى يحافظوا بدورهم على ما تم ترميمه وتهيئته.نذكر أيضا من المخاطر التي تهدد هذا الموروث المعماري التاريخي:-         انتقال بعض سكان المدينة إلى الأحياء الجديدة في أطراف المدينة وتركهم لمساكنهم التي أصبحت في حالة متدهورة،-         استعمال جل سكان هذه المدينة لمواد بناء حديثة (آجر أحمر، اسمنت، دهن، ومواد تبليط خزفية…) لا تتلاءم مع ظروفها المناخية وتشوه طابعها المعماري التاريخي.

7- استعمال مواد بناء حديثة دخيلة عن المدينة العتيقة

المصدر: تصوير شخصي 2020

بالإضافة إلى سعي السلطات المحلية للمحافظة على الطابع المعماري المميز للمدينة العتيقة بإكساء الجدران الخارجية لبعض المساكن بالآجر التقليدي “القالب” حاول بعض السكان انجاز بعض الأشغال الخاصة لترميم مساكنهم وجعلها أكثر رفاهية وجمالية، لكن جل سكان هذه المدينة غير قادرين على ترميم مساكنهم وتحسينها، نظرا لفقرهم وارتفاع أسعار مواد البناء، خاصة الآجر التقليدي “القالب”.

 

 

8- تقليد للطابع المعماري في أكساء الجدران بالآجر التقليدي “القالب”

المصدر: تصوير شخصي 2020

 

نظرا لتهديد التوسع الحضري المتسارع لمدينة توزر لطابعها المعماري التقليدي، عمل “صندوق حماية المناطق السياحية” على المحافظة على هذا التراث المعماري، لكن تلك المحافظة اقتصرت على المدينة العتيقة وترك عدة أحياء أخرى لا تشملها الزيارات السياحية دون عمليات ترميم وإعادة تهيئة، مما تسبب في تدهور حالتها واندثار أجزاء كبيرة منها.

3- الإدراك الحسي للمدينة العتيقة من طرف سكانها و من طرف السياح

تختلف زاوية رؤية صورة المدينة العتيقة بين سكانها من ناحية والسياح من ناحية أخرى. لذلك أعددت استمارتين، الأولى لاكتشاف الادراك الحسي للمدينة العتيقة من طرف سكانها والثانية لاكتشاف ذلك الادراك الحسي لدى السياح الذين يزورونها.

في الاستمارة الثانية سألت السياح عن ترتيبهم التفاضلي لخمسة (5) مواقع سياحية يتردّد السياح أكثر عليها في منطقة توزر وهي: الصحراء، الواحات، المنشآت المائية، المدينة العتيقة والشط فتحصلت على النتائج التالية: احتلت الصحراء المرتبة الأولى بتردّد 95.5 % واحتلت المدينة العتيقة المرتبة الرابعة بتردّد 55.5 %.

2- الترتيب التفاضلي للمواقع السياحية الأكثر استقطابا للسياح في منطقة توزر

الترتيب المواقع السياحية عدد السياح التردّد
1 الصحراء 191 95.5 %
2 الواحات 171 85.5 %
3 المنشآت المائية 123 61.5 %
4 المدينة العتيقة 111 55.5 %
5 الشط 103 51.5 %
مجموع العينة 200 100 %

المصدر: استمارة 2

تمثل المدينة العتيقة في الجدول الموقع السياحي الوحيد غير الطبيعي. حسب الاستمارة مثّل 95 % من السياح المستجوبين المدينة العتيقة كموقع تاريخي وثروة تراثية ومثّلها 87 % منهم صورة جميلة للطابع المعماري للمدينة.

9- صورة مميزة لممر ضيق بالمدينة العتيقة

المصدر: تصوير شخصي 2020

أما رؤية السكان المحليين للمدينة العتيقة فتختلف عن رؤية السياح. حيث مثلها 91.1 % من المستجوبين في العينة في الاستمارة الأولى كمشهد تاريخي أو تراث، بينما مثلها 54.2 % منهم كموقع سياحي.

استنتجنا أن كل المستجوبين الذين مثلوا المدينة العتيقة كموقع سياحي مثلوه أيضا كمشهد تاريخي أو تراث، وهو ما يعكس تأثير النشاط السياحي على الادراك الحسي للسكان لمدينتهم. يبدو أيضا أن هذا الاستقطاب السياحي جعلهم يولون أكثر أهمية لمدينتهم.

3- تمثيل المدينة العتيقة من طرف سكانها

التمثيل عدد السكان التردّد
مشهد تاريخي (تراث) 195 91.1 %
موقع سياحي 116 54.2 %
إطار عيش 168 78.5 %
مجموع العينة 214 100 %

المصدر: استمارة 1

 

بيّنت الاستمارة الأولى أيضا أن 47.7 % من المستجوبين من سكان المدينة يعتقدون أن انعكاسات النشاط السياحي على مدينتهم إيجابية، بينما اعتقد 52.3 % منهم أن تلك الانعكاسات كانت سلبية. أغلب الذين تبنوا الرأي الأول هم من المسنين (أكبر من 50 سنة) أو ذوي مستوى دراسي ابتدائي او أميين. برّر هؤلاء اختيارهم بمساهمة النشاط السياحي في دفع السلطات المحلية والوطنية للعناية بمدينتهم وحمايتها والمحافظة على طابعها المعماري حتى تكون قادرة على استقطاب السياح.

10- صورة مميزة لساحة مركزية في المدينة العتيقة

المصدر: تصوير شخصي 2020

أما الذين اعتقدوا في الانعكاسات السلبية للنشاط السياحي على مدينتهم فينتمي أغلبهم إلى فئة الشباب (أقل من 35 سنة) أو لهم مستوى تعليمي ثانوي أو عالي. برّروا رأيهم بمخاطر تزايد توافد السياح على مدينتهم الهشة التي تعاني من مخاطر الظروف الطبيعية وهجرة سكانها التي تسببت في تدهورها أكثر.

تحدّت المدينة العتيقة بتوزر منذ عصور الظروف الطبيعية القاسية واستغلالها سياحيا واهمال ولامبالاة سكانها لتصمد حتى اليوم. لا تزال تمثل نخوة سكانها، رغم عدم وعي عدد كبير منهم بأهميتها التاريخية وجهود السلط المحلية والوطنية لحمايتها والمحافظة على طابعها المعماري المميز. لكن هل يتحتم التحكم في تدفق السياح نحو هذه المدينة الهشة واحترام طاقة تحملها لأعداد متزايدة منهم؟

المصادر والمراجع: Références bibliographiques  

1- BAILLY (A) ; 1977 : La perception de l’espace urbain : théories et modèles. CEDEX, 272p

2- BOULIFA (F) ; 2010 : Le tourisme saharien et le développement régional dans le Sud-Ouest Tunisien. Thèse de doctorat, F.S.H.S. Tunis, 619 p.

3- CAZES (G) ; 1992 : Fondements pour une géographie du tourisme et des loisirs. AMPHI.

Géographie, Bréal, 189 p.

4- FENDRI (M) ; 1976 : La protection des villes anciennes face à l’expansion du tourisme culturel

en Tunisie. Séminaire. Tunis, 14 p.

5- LACOSTE (Y) ; 1977 : A quoi sert le paysage. In Hérodote n° 7.

6- MIOSSEC (J-M) ; 1973 : L’image touristique comme introduction à la géographie du tourisme.

In Annales de géographie n° 454. pp 55-70.

7- LEMAITRE (A) ; 1996 : Réflexion sur le paysage : paysage et patrimoine historique.

In Information géographique. n° 60, pp 117- 183.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023