التحوّل الأمريكي من “الشرق الأوسط الجديد” الى الشمال الافريقي والساحل والصحراء

التحوّل الأمريكي من “الشرق الأوسط الجديد” الى الشمال الافريقي والساحل والصحراء

بقلم هشام البوعبيدي |

لم يعد يخفى على أحد، أن هناك توجها جديدا صلب مركز القرار في الادارة الأمريكية يعمل على فك/ تخفيض الارتباط التاريخي والاستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط والخليج بناء على انحسار المصالح الأمريكية هناك، والكلفة العالية التي باتت تتحمّلها الخزينة الفدرالية جراء استمرار التواجد العسكري والاستخباراتي المكثّف في تلك المنطقة، خصوصا أنه ورغم قرابة القرن من الزمن على التغلغل الامريكي، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا في تلك البقعة والتي تعد شريان الطاقة العالمية، فإن رياح الصد والممانعة ومقاومة ذلك التواجد لم تتوقّف، أضف الى ذلك أن السيطرة الأمريكية على منابع النفط وتحديد مستويات انتاجه والتحكم في أسعاره والاشراف على معابره، لم تمنع قوى دولية من تقويض عرشها الاقتصادي والبحث لها عن طاقات بديلة أو أسواق “متمرّدة” على حسابات “وول ستريت” ومنفلتة عن قرارات واشنطن، كما رأينا مع الصين وروسيا وايران التي، ليس فقط “راوغت” قرارات الحظر والعقوبات الدولية المتعدّدة، بل واعتمدت في مرحلة أولى أسلوب المقايضة في مبادلاتها التجارية ثم باتت في مرحلة لاحقة تعتمد العملات المحلية، موجّهة بذلك ضربة قاصمة لهيمنة الدولار على دواليب التعاملات المالية العالمية.

ويبدو أن واشنطن ماضية في هذا الخيار، باعتبار القرارات والاجراءات التي اتخذتها طوال الفترات السابقة والتي تصب جميعها في اتجاه تبريد كل الملفات الحارقة والمتوارثة من عقود، على أساس أن مركز اهتمامها لم يعد الشرق الأوسط والخليج، وبتعبير أدق “الشرق الأوسط الجديد” كما نظّر لذلك كبار الاستراتيجيين الأمريكيين، وإنما في أقصى الشرق مع “التسونامي” الاقتصادي للمارد الأصفر الذي أزاح الاقتصاد الأمريكي عن مراتبه الأولى، وبات يهدّد السيادة الأمريكية على العالم باعتبارها إدارة “كوسموبولوتيكية” تدير شؤون الكوكب منفردة من خلال آلياتها الاجرائية والقانونية الامبريالية والنيوليبرالية، ممثّلة بصندوق النقد والبنك الدوليين والشركات متعدّدة الجنسيات التي هي واجهة النهب المعولم لمقدرات الشعوب وأدوات استعمارية تضمن اطراد التبعية الاقتصادية والولاء السياسي، وعلى ذلك قبلت الولايات المتحدة الانزياح مكرهة عن تفرّدها وأذعنت للتواجد الروسي كلاعب ـ شريك في ترتيبات أوضاع المنطقة، سواء في ما يتعلّق بالملف النووي الايراني وحتى الأزمة السورية، وهو الأمر الذي أثار فزع وحفيظة “حلفاء” واشنطن بالمنطقة: المملكة السعودية والكيان الصهيوني، تجسّدت في موجة الانتقادات المتبادلة وحدّة الخلافات مع الادارة الأمريكية في أكثر من مناسبة.

نحن نعلم أن ظروف نشأة الكيانين “السعودي” و”الصهيوني” متشابهة، فكلاهما صنيعة المملكة المتحدة التي كانت إمبراطورية “لا تغرب عنها الشمس” قبل أن ترث الولايات المتحدة نفوذها عقب الحربين الكونيتين، وتتعهّد بحماية ورعاية الكيان الصهيوني وضمان تفوّقه باعتباره ذخرا استراتيجيا وقاعدة عسكرية متقدّمة لها، وكذلك حماية سلالة آل سعود وسيطرتهم على نجد والحجاز، التزاما بمعاهدة “كوينسي” (نسبة للبارجة الحربية الأمريكية) أو معاهدة النفط مقابل الأمن، التي عقدت في فيفري 1945 بين الملك عبد العزيز بن سعود المؤسس والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، والتي بمقتضاها تم نشر عشرات القواعد العسكرية الأمريكية على الجزيرة العربية مقابل ضمان تدفق النفط للولايات المتحدة الذي هو شريان اقتصادها وعصب صناعتها إضافة لمنح الشركات الأمريكية شروطا تفاضلية على غيرها، وعليه فهاتان “الدولتان” لا تمتلكان رؤية استراتيجية بعيدة عن الفلك الأمريكي الذي هو ضمانة بقائهما واستمراريتهما، وكل فراغ قد يتركه الانسحاب الأمريكي من المنطقة لن يكون في صالحهما، لذلك تواترت الأنباء التي تتحدّث عن لقاءات ثنائية بين مسؤولين سعوديين ونظرائهم الصهاينة انتظارا لحين الاعلان عن تطبيع كامل للعلاقات بينهما.

في ذات الوقت تسعى الولايات المتحدة لقطع الطريق أمام “التوسّع” الاقتصادي الصيني المتنامي، وإذا كانت قد قبلت على مضض بدور روسي في الشرق الأوسط فلأن تلك المنطقة تعد جزءا من مجالها الحيوي، كما أن روسيا –رغم أن اقتصادها لم يتعافى 100%- الا أنها تمتلك من القدرات والامكانيات العسكرية واللوجستية ما يمكن أن يسبّب القلاقل لواشنطن كما حدث في الأزمة السورية، إضافة لسعي واشنطن تقليص اعتمادها على النفط الشرق-أوسطي نحو بدائل أخرى ومحاولاتها طمر الهوة بين معدل الاستهلاك 19 مليون برميل ومعدل الانتاج 13 مليون برميل (والاكتفاء الذاتي)، غير أنها غير مستعدّة لتقاسم النفوذ في المنطقة الافريقية، وخاصة شمالها والصحراء الكبرى والساحل التي تعتبرها مجالا بكرا وأرض ميعاد لمستقبلها الجيو استراتيجي، مع أي كان ولو أدى الأمر الى نزاع إقليمي، وهي مطمئنة أنه عكس روسيا، فالاقتصاد  الصيني رغم أنه بلغ مستويات قياسية في النمو الا أن قدراتها العسكرية غير مكتملة ولا يمكنها أن تجاري القوة العسكرية الأمريكية (الطفرة الاقتصادية التي لا قوة عسكرية تعادلها وتحميها نوع من الخلل والوهن)، لذلك نشطت الدبلوماسية الأمريكية بأذرعها المختلفة: الاقتصادية والمالية والعسكرية والثقافية وحتى الدينية، في التبشير بـ”العهد الأمريكي” كمقدمة لتغلغلها في شتى المجالات الحيوية لدول المنطقة، إضافة للتسهيلات التي تسعى للحصول عليها سواء في التحويلات المالية وحرية التنقل وكذلك حصانة لقواتها العسكرية –الأفريكوم- بعدم المساءلة والملاحقة الا في الأراضي الأمريكية.

وبما أن العقل الاستراتيجي الأمريكي لا يتحرك عن “عبث” وإنما يبحث دوما عن مبررات ومسوغات للتدخّل، فقد بدأ الحديث مؤخّرا يتعاظم عن “داعش” والجماعات الارهابية بليبيا، بعدما خبا ذكرها أو يكاد بالعراق وسوريا، وضرورة التدخّل الخارجي (الناتو) لانهاء الأزمة التي تعصف بهذا البلد منذ الاطاحة بالعقيد معمر القذافي على يد الناتو(!!)، في ذات الوقت الذي أشارت فيه تسريبات الى تواجد قوات استخباراتية أجنبية، بريطانية وفرنسية وايطالية في التراب الليبي، دون أن ننسى الاتفاقيات مع دول المنطقة التي أثقلتها الديون وكبّلتها “المكرمات” الأمريكية على تقديم تسهيلات لوجستية واستعلاماتية عند الضرورة، ويصبح المجال نقطة ارتكاز وهيمنة للولايات المتحدة.

وبالتالي فالمنطقة مقبلة على موسم ساخن وأحداث دموية ومؤلمة، يتم تحضير ميدانها وتهيئته عبر استجلاب مزيد من العناصر الارهابية والجماعات المتطرّفة ليصبح التواجد الأمريكي ضرورة ملحة وذو مسوّغات مبرّرة في نظر الناخب الأمريكي، كما حدث قبل في أفغانستان والعراق.

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023