التصريحات الأخيرة لماكرون أثناء زيارته للصين…بقلم الدكتور بهيج سكاكيني

التصريحات الأخيرة لماكرون أثناء زيارته للصين…بقلم الدكتور بهيج سكاكيني

أثارت التصريحات التي ادلى بها الرئيس ماكرون أثناء زيارته الى الصين حول ضرورة الاستقلال الذاتي الاستراتيجي الأوروبي والى عدم انجرار الدول الأوروبية وراء الولايات المتحدة بنصب العداء للصين وفيما يخص قضية جزيرة تايوان   ردود فعل غاضبة وعنيفة أحيانا من قبل الولايات المتحدة ونخبها السياسية من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وأصبح الأمريكيون ربما أكثر فزعا عندما أكد ماكرون أن أوروبا يجب أن تصبح “قوة عظمى ثالثة” مستقلة وعلى إمكانية إزالة نظام الدولرة في بعض التعاملات التجارية العالمية.

هذه التصريحات اتت على خلفية وضع اقتصادي مترهل في فرنسا واحتجاجات شعبية وعمالية واسعة امتدت لأسابيع متتالية ضد تغيير قانون التقاعد المعمول به وما زالت الاحتجاجات قائمة وتهدد الوضع الداخلي ومكانة ماكرون المتهالكة على المستوى الشعبي. كما تأتي على خلفية ابرام عقود اقتصادية مغرية بين الصين والشركات الفرنسية. هذه التصريحات للرئيس ماكرون كان ان اطلق تصريحات شبيه لها في السابق فقد سبق وأن صرح قبل سنوات على ضرورة تشكيل قوة عسكرية أوروبية خارج نطاق حلف الناتو لتكون مسؤولة عن الامن الأوروبي كما وانه في بداية الازمة الأوكرانية دعا الى الحوار مع الرئيس بوتين وعدم الانجرار الى القطيعة الكاملة مع موسكو  وغيرها من التصريحات التي قد تبدو للوهلة الأولى انها موجهة ضد البيت الأبيض ومحاولة لفك الارتباط التاريخي مع الولايات المتحدة التي استعبدت أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص وضمتها الى استراتيجيتها ومصالحها الكونية سواء من الناحية العسكرية بتشكيل حلف الناتو كحلف عسكري ضد المنظومة الشيوعية التي كان يترأسها الاتحاد السوفياتي سابقا او السياسية والدبلوماسية والإعلامية وربما الأهم الاقتصادية.

ما نريد إظهاره هنا هو ان مثل هذه التصريحات الحديثة التي صدرت عن الرئيس ماكرون أثناء وبعد زيارته للصين تأتي ضمن التناقضات الداخلية للمصالح وخاصة الاقتصادية منها في المعسكر الامبريالي العالمي الذي تترأسه الولايات المتحدة فكل يحاول ان يجير لمصلحته أكبر جزء من الكعكة الذي يتناسب مع حجمه ومدى تأثيره ضمن هذا المعسكر. وبالتالي فإن هذه التصريحات تأتي ضمن هذا السياق وليس أبعد من هذا وليس كما يظنه البعض انه بداية تفكك أو تفسخ في المعسكر الامبريالي. وربما نستمد الدليل الأكثر حداثة هو الانجرار الأوروبي التام للموقف الأمريكي بشأن الحرب الدائرة في أوكرانيا والتجاوب مع كل الاملاءات الامريكية والانصياع التام للأوامر التي تصدر من البيت والبنتاغون بشأن أرسال الأسلحة وعلى جميع اشكالها وفتح أراضيها لتدريب عناصر من الجيش الاوكراني الى جانب تقديم الدعم اللوجيستي والسياسي، والاقتصادي، والإعلامي، والدبلوماسي. والرئيس ماكرون الذي تمتم في البداية عن ضرورة إبقاء الباب مفتوحا مع الرئيس بوتين صمت صمت القبور ومشى خلف الولايات المتحدة كالعبد الذليل والانحياز التام للموقف الأمريكي بالرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة للغاية لفرنسا نراه يغرف من الخزينة الفرنسية لصالح الحرب في أوكرانيا. هذه الحرب التي دفعت بها الولايات المتحدة كوسيلة في محاولة لتحجيم واحتواء الدور الروسي على المستوى الأوروبي والعالمي الى جانب وصول قوات الناتو الى حدود روسيا الاتحادية وإضعاف الاقتصاد الأوربي والهيمنة على مفاصل القرارات السياسية الأوروبية وإرجاعها الى الحظيرة الامريكية خاصة بعد ان ظهرت حالة تململ لدى بعض دول الاتحاد الأوروبي من التبعية المطلقة لإملاءات البيت الأبيض.

أما قضية التصريحات الأمريكي الوقحة والفجة خاصة من قبل بعض النواب في الكونغرس والتي قامت بالهجوم على الرئيس ماكرون شخصيا والتي ادعت على ان الولايات المتحدة حافظت على الامن الأوروبي لعقود وان على القادة الاوربيين الان التعامل مع أوكرانيا لان الولايات المتحدة مشغولة الان بالتصدي الى “الخطر” والعدوان الصيني فمن الممكن تفهمها أنها تعكس القلق المتزايد في أمريكا من الوهن الذي أصابها على الساحة الدولية وتصاعد قوى ممثلة بالصين وروسيا وإيران ودول أمريكا اللاتينية وتوجه العديد من الدول التي كانت تدور أساسا بالكامل في الفلك الأمريكي الى إقامة علاقات اقتصادية مع الصين لما في ذلك من منافع اقتصادية لبلدانها والتي ترى فيها الولايات المتحدة تهديدا لدورها ومكانتها على الساحة الدولية وخاصة مع بروز مظاهر واضحة من صعود قوى باتت تهدد أحادية القطب الواحد الذي تمتعت به أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي

وتفكك جمهورياته في مطلع تسعينات القرن الماضي. هذا بالإضافة الى اهتزاز دور الدولار عالميا مع بدء دول مثل الصين وروسيا والهند وإيران وبعض دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل وفنزويلا استخدام عملاتها المحلية في التعاملات التجارية فيما بينها.

القوة الامريكية نابعة بالأساس من التبعية والاستجابة لإملاءاتها وأوامرها وبث الرعب حتى في حلفائها من أعداء وهمين لان هذا يعطيها الفرصة للسيطرة والهيمنة المطلوبة على هذه الدول لا بل واستخدام مقدراتها الاقتصادية وإمكاناتها العسكرية في خدمة المشروع الأمريكي للسيطرة على العالم تحت إيهامهم انهم بحاجة الى الولايات المتحدة لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم. وعندما يظهر رئيس أوروبي يغرد بين الحين والأخر خارج السرب ولو لأغراض تكتيكية ترى الولايات المتحدة ان هذا يشكل خطرا عليها وخاصة في مرحلة الوهن الذي تحياه وتتخوف من ان تمدد هذه الظاهرة ومثل هذه التصريحات الى الغير. بمعنى ان الهجوم الشرس من قبل الطبقة السياسية الامريكية ووسائل الاعلام الامريكية على ماكرون إنما يأتي ضمن هذه الرؤيا ويعكس القلق والمخاوف الامريكية من تدهور مكانتها العالمية. وربما دفع أوروبا بقوة الى معاداة روسيا والدعم اللامتناهي لأوكرانيا التي تمليه أمريكا على أوروبا وخاصة منذ عام 2014 والحرب الدائرة الان يأتي في سياق الإبقاء على التبعية الأوروبية لها.

 وفي هذا السياق دفعت الإدارة الامريكية وزيرة الخارجية الألمانية بالقيام الى زيارة للصين على أعقاب زيارة ماكرون وتصريحاته المثيرة للجدل للتخفي من حدة هذه التصريحات والتاكيد على ان الموقف الأوروبي موحد تجاه الصين وقضية تايوان حيث ذكرت إن نقاط القوة في الاتحاد الأوروبي تكمن في حقيقة أننا ” لسنا قريبين من بعضنا البعض فحسب ، بل نتبع مقاربات استراتيجية مشتركة بشأن القضايا المركزية لمصالحنا وقيمنا” وهذه المقاربات الاستراتيجية بالطبع لا تخرج عن الخط والمواقف العدائية الامريكية للصين واعتبارها العدو الرئيسي لها ولمصالحها الاستراتيجية وعلى انها القوة التي تهدد المكانة العالمية لها. الى جانب ذلك وردا على تصريحات ماكرون قامت الولايات المتحدة بإرسال بوارجها البحرية لعبور مضيق تايوان كرسالة واضحة لدعم تايوان.

ما نريد التأكيد عليه في النهاية ان تصريحات ماكرون لا تتعدى على كونها زوبعة في فنجان سرعان ما تهدأ لان ماكرون ونظامه لا يخرج عن كونه نظاما ضمن المنظومة الرأسمالية والامبريالية العالمية وأن ردود الفعل الامريكية على هذه التصريحات تأتي لتعكس حالة الخوف من إحداث مزيد من التصدع والوهن للدور الأمريكي على الساحة العالمية.

* كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023