«الحاج» محمد البْرَاهْمي رَجُلَ أَخْلَاقٍ وتديُّن وشاهدا متميزا على العصر

«الحاج» محمد البْرَاهْمي رَجُلَ أَخْلَاقٍ وتديُّن وشاهدا متميزا على العصر

استطيع أن أجزم أن الرجال الأخلاقيين والنساء الأخلاقيات من بين الممارسين للعمل السياسي نادرون جدا في تونس.

في رأيي المتواضع، بصفتي ممارسا للعمل العلمي للموظَّف في خدمة الحراك الإجتماعي الثوري، أستطيع أن أعتبر الشهيد الحاج محمد البراهمي من هؤلاءالقلة النادرة جدا ، والتي نحن في حاجة إليها اليوم وغدا من أجل استعادة «الثورة» الشبابية «المغدورة» من الطبقة السياسية غير الأخلاقية .

فلنتفهم أولا مدلول التدين علميا حتى نجوس خلال عالم الشهيد محمد البراهمي المتدين والمتخلق.

  1. الدين والتديّن:

«الدّينُ» حقل رمزي وممارَسي يَجْمع رُؤيةً للعالَم، ضمن سُنن وأنماط ممارَسية ومخيالية ومؤسساتٍ، تسعى لاكتساب «معنى للحياة والموت، مع ضمان ما يسميه ماكس فيبر خيرات السلام».

أكد علم الاجتماع منذ بداياته تَطابُق الاختيارات الدينية مع العالَم الاجتماعي، مِن خلال تنظيمها واشتغالها وبُناهَا، ونجاعتها الاجتماعية.

ذهب دوتُكْفيل إلى الارتباطات بين السياسي والديني، فاكتشف التماثل بين الديمقراطية (القوانين نفسها للجميع) والتوحيد الألوهي (الإله نفسه للجميع). واعتبر أن الكاثوليكية أميل إلى الانسجام مع مبدإ المساواة، بينما البروتستنتية أميل إلى أطروحة الحرية والرِّبْعة.

هذا، بينما ميّز ماكس فيبر بين النماذج المثالية للأخلاقيات الدينية المتجهة نحو التكيّف مع العالم، كالكُنْفُشْيوسية، وبين نظيراتها المتجهة نحو تحويل العالَم كالكَلْفينية. هذا في حين أن دُرْكايم اكتشف أن الدين يحمي من الانتحار، معتبرًا أن الدين «نسق تضامني من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقَدَّسة»، جامعاً مؤمِنِيهِ في جماعة واحدة.

سيكون من المناسب أن نتفهم أَشْكالِ التدينات ضمن مفهوم التديّن عند تْشارْلز غْلوك مُعَدَّلا. وهو السلوك ذُو التأويل الدينيّ، فرديًّا أو جماعيًّا، وذُو الارتباط بالجوهر الإلهي، «مع الله مثلا، مع الحقيقة الأولى، أو مع السلطة العليا».

إنه في بُعدهِ الخِبْريِّ «حياة روحية، وتجربة فعلية (..) فهو في أشكاله القصوى يتمثل في الاهتداء».

وهو في بُعْدِه الإدْيولوجي (أو «المِلّي» بالاصطلاح الخلدوني)، يُركّز «على الاعتقادات أكثر من ارتكازه على المشاعر الدينية. فهو يحوي جُملة من التصوّرات عن طبيعة الحقيقة الدينية والحقيقة الأولى وعن غايتها»؛ وحتى في طبيعة الإسلام بمَا هو نسق شامل أيضا.

وهو في بُعدِه الطَّقْسِيّ (أو الشَّعِيرِيّ) «الأفعال التي يقوم بها الناس في الفضاء الديني» أكثر ممَّا يتعلق بخبرتهم الفردية، أو الجَماعية، وأكثر مما يتعلق بإدْيُولوجيتهم (أي تأويلهم «المِلّي» بالاصطلاح الخلدوني)، أي الأنشطةُ المصنَّفَة دينيّةً بحتة، أو عبادةً، كالصلاة والصوم، والصدقة، وقراءة الكتاب المقدّس، وحضور خطب الجمعة…

أمّا التديّن في بُعْده النَّتِيجيّ، فيتعلق بما يقوم به الناس، و«المواقف التي يعتمدونها نتيجة اعتقاداتهم، ونتيجة خِبْراتهم الدينية». فهو ما يُقيم «علاقة الناس في ما بينهم» مؤوّلةً دينيًّا، أي الأخلاق مؤوَّلةً ومترجَمةً.

هذه الأبعاد مترابطة أكثر من كونها مستقلةً، و«كل تقدير داخل أحدها ينطوي غالبًا على تقدير داخل الآخر».

وكل بُعد منها، له مؤشراته الخصوصية، أي«الوسائل المستخدمة لتعيين المواضيع داخل بُعْد معيَّن، اي لترتيبها حسب درجة التديَّن».

وقدْ نجد الأبعاد الأربعة في تأويل المبحوث واضحةً، متراتِبةً، وقد نجد فيه مَرْكزةً لواحد أو أكثر فيها، وقد نجد تأكيدًا لواحد أو أكثر وإلغاءًا لأخرى. وهنا تظهر الخصوصيّات الفردية والجماعية.

2- البعد الرمزي في التجربة الدينية لمحمد البراهمي:

لعلَّ «الحاج» محمد بن أحمد البْراهْمِي (1955-2013)، هو من تأكيدات التيار العربي- التقدمي في تونس ،على الحرص على لقب «الحاج» بما هو مؤشر في البُعْد الطقسي للتدين فلقد حَجَّ 4 مرَّات، واعتمر عديد المرات، ولم يكن عمله بالحِمَى السعودي خارج «حبه الشديد للنبي محمد». إنه من أصل شريف، تمامًا كالعْوَايْنِيَّة (أصل زوجته)، «ملتقين في جدّ واحد هو إدريس الأكبر».

كان بشهادة زوجته، السيدة مْبَارْكة عْوَاينيّة، و3 من المقرّبين إليه (راهنًا، واحدٌ منهم من التيّار الشعبي؛ وآخر من حركة الشعب، وآخر مِنْ مُكوَّنِيه سياسيًّا، وهو مستقل الآن) كان «تقيًّا جدًّا». لم يقرأ الكثير من الكتب الدينية، ولكن كان حريصًا على خَتم القرآن الكريم عدة مرات في السَّنَة، وهو يحرص على أن تكون الخَتْمة بمعيّة زوجته و وُلْده. وكان محافظا على الصلوات الخمس منذ طفولته، ويصُوم كثيرًا خارج شهر رمضان.

كان يحب الأولياء الصالحين، ويقرأ عليهم الفاتحة، وله أصدقاء في بعض جماعات الطرق الصوفية، وخاصة من القادرية و الشاذلية. ولكنه لم ينخرط فيها توقيفيًّا.

3-التجربة التصوفية لمحمد البراهمي:

يعود احترامه للطريقة القادرية إلى أن بلدته سوق الجديد  لها مقام قادري قديم وتقديس تاريخي للشيخ عبد القادر الجيلاني، فكل أبناء البلدة يكونون متدينين قادريبن بأسلوب البلدة إذا كانوا مقيمين فيها، فإذا خرجوا منها قد يكونون متدينين بأساليب أخرى بل قد يكونون علمانيين أو غير متدينين.

يكُن القادرية  الذين تواصل معهم الشهيد من الخط القادري المتحالف مع السلطة القائمة أو مع تيار الإخوان المسلمين، بل مع الخط القادري المستقل.

لقد كان محمد البراهمي في تصوفه مشترعا، فهو ليس مشتطا في ميوله الصوفية بل كان يجعلها خاضعة إلى القواعد الشرعية .

وقد كان شاذلي خارج بلدته، سوق الجديد بالأسلوب الشعبي لا بالأسلوب الطريقي_ الانتظامي .

 فله تمثل كبير لأبي الحسن الشاذلي ، و كان يرتاد جبل سيدي بالحسن للإحتفال الشاذلي في الصيف الذي يدوم 27 جمعة (ثم أصبح 15جمعة) . وما يجمع بين عبد القادر الجيلاني وأبي الحسن الشاذلي هو أنهما مؤسسان لحركة اجتماعية تغييرية ،جذرية، قامتا بإدارة أزمتين،  واحدة في المغرب العربي وأخرى في المشرق الإسلامي. فالرجل لا يميل إلا إلى التصوف ذي البعد الإجتماعي-السياسي والنزعة العدالية ، لا إلى التصوف الانزوائي .

ولكن كاد يصبح تصوفه طريقيا بل كان في السبيل إلى ذلك ، بواسطة الشيخ محمد علي كيوة منذ 14 جانفي 2011. فلقد كانت علاقته بالشيخ علاقة سطحية قبل ذلك التاريخ، إذ كانا يتصادفان في مقام سيدي بالحسن أو في ملتقيات ثقافية أو فكرية أو ربما سياسية، ولكن الشهيد بادر إلى التقرب من الشيخ وزيارته في منزله منذ فيفري .2011  وقد كان الشيخ شاذليمنذ أن كان في مصر، ثم اصبح مقدما في الطريقة التجانية. وقد كانت له زيارتان دوريتان كل أسبوع تقريبا بمنزل الشيخ محمد علي كيوة إذ يزوره بمفرده ليلا. ولقد كان لا يكتفي بالأدعية القصيرة معه بل كان يأتيه خاصة من أجل « المذاكرة»، أي التباحث الذي يعتمد السؤال والجواب والمناقشة والإضافة مع الشيخ، وخاصة في تفسير الكثير من الآيات القرآنية التي يطلب فيها الشهيد محمد البراهمي تعمقا وبحثا باطنيا عرفانيا من شيخه.

قاوم الشهيد اعتداءات الوهّابية الجهادية على مقامات الأولياء علنا، فكان ذلك من أسباب حَنقهم عليه، في ولاية سيدي بوزيد وخارجها. ولكنْ رغم ذلك، نجد الخطيب الإدريسي، الدَاعية السلفي في سِيدي علي بنْ عُون، بلدة السيدة مَبَارْكة عْوايْنية، يبعث إلى أتباعه الرسائل القصيرة أثناء انتخابات 2014: «انتخبوا بنت عمكم!»

كان إصرار عائلة الحاج محمد البْراهْمِي والتيّار الشعبي على أن تكون جنازته مُمْتَثِلةً للدين والألوهية من مؤشراتٍ على تدينيّة التيّار العربي- التقدّمي. وكان اختيار الشيخ محمد فريد الباجي، يعود إلى أن «الشيخ» يشترك مع «الحاجّ» «في اعتدالية التديّن، وفي الروح التصوفية المُحِبّة لله تعالى»، و«تبادل الإعجاب بشخصيّتيْها»، حسب الشيخ محمد فريد الباجي. و«كذلك إلى اشتراكهما في معاداة «الوهّابية الجهادية» وحربها مع المسلمين والعرب، وخاصة في سوريا وليبيا»، كما أعلنت لي زوجته. لقد التقى الشيخ بالحاجّ، لأوّل مرة صُدْفة في جانفي/يناير 2012 بمقهى بشارع بورقيبة في العاصمة، فتعارفا، وشكا له الشيخ آنئذ من التهديدات والعنف الذي يتلقاه، فتعاطف معه الحاجّ و«بيّن له اشتراكه معه في فهم الإسلام معتدلا، ومحاربة التطرّف وتشويه الدين»، ولكنني لم أجدْ من يؤكد تلاقي الرجلين مرات أخرى بعد ذلك. ولم يكن صديقه الشيخ كيوة بالعاصمة آنئذ إذ كان كما قال لي في رحلة إلى الجنوب.

4- في البعد العلائقي للتديّن:

كان إذا غضب على وُلْدِه، «خَفَّض صوته»، ولم يكن عنيفًا، جسديًّا ولفظيًّا؛ وكان «كريمًا جدًّا»، لا ينقطع قِرَاهُ واستضافاتُه أسبوعًا؛ وهو في ذلك وارثٌ لتقليدٍ عائلي، ولقد كان «أبوه، سي أحْمَد، يُشعل النار لما يجنّ الليل- إذ كانت القرية قبل نهاية التسعينيات دُون كهرباء- ليأتيه الباعة المتجولون، وقد كان دائم الاستضافة بلحم خرفانه». ولكن كرم أبيه، كان كرم غنًى، بينما كان كرَم الحاج محمد البْرَاهْمي في منزل كراء، ممَّا أرهق زوجته، ولكنها لم تنزعج لذلك، فهي وريثة كرم عائليّ أيضا. تكفّل «الحاج» بالكثير من الطلبة، الذين لم تَخْل دارُهُ من واحِدٍ منهم يومًا، ولقد أغاث قريبا ملهوفًا مرة بِعِدَّة ملايين من العملة التونسية، بتسلفه من بعض الأصدقاء، فلمَّا لمْ يُرجع له المبلغ بعد مدة طويلة، اضطر لبيع سيارته. وعندما نتابع اللقاءات التلفزيونية التي حضرها الشهيد نلاحظ هدوء أعصابه ودماثة اخلاقه ، وعدم خضوعه للاستفزاز والغضب وعدم استعماله للعنف اللفظي السائد بين جل السياسيين.

5- تديّن محمد البراهمي في علاقته بالنضال السياسي:

كان منذ بداياته الطالبية مع ما سماه «خط المقاومة ومناهضة التطبيع»، إذ كان منخرطًا في الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين، وزار دمشق والرئاسة السورية عام 2008 بمناسبة الملتقى الدولي للعودة، وقد زارتْه عديد الوفود من حزب الله اللبناني عاميْ 2012 و2013. وكان من أسباب استقالته من حزب حركة الشعب رغم أنه أمينه العام، لأنّ جلّ مؤسّسِيه «كانوا مع ما سُمّي ” الثورة الليبية” و” الثورة السورية”، كما أعلنت السيدة مْبَاركْة عْوَاينية، فهما في رأيه «ليستا ثورتين، وإنما «تحالف إرهابي مسلّح بتمويل خليجي وتخطيط أمريكي- أطلسي»، كما تروي زوجته.

و زادت مُعارضَتهُ لاحتلال حلف شمال الأطلسي للدولة الليبية ولتسليح «الحراك» المطالب بالتغيير في سوريا وتحالفه مع القوى الوهّابية والإخوانية ومع تركيا الإخوانية والإمبريالية الأمريكية، حنق من التيّارات السلفية والإخوانية بتونس عليه، فهددته بعضُ مواقعها الإلكترونية بالقتل منذ نهايات عام 2011. ولقد كان أوّل الحريصين على تدوين مشروع الفصل 27 لمناهضة التطبيع، «ولكن الإخوان المسلمين النوّاب في المجلس التأسيسي أسقطوه».

إنه لا يميّز بين «شيعي» و«سُنّي»، وإنما يميّز برواية زوجته-« بين تَطْبِيعيّ أو رجعي، أو مؤيد للصهيونية والاستبداد والإمبريالية». ومرجعيته لعصمت سيف الدولة ومرجعيته التسامحية-التصوفية مؤثرتيْن هاميّن جدًّا في توجهه هذا.

تعتبر السيدة مْبارْكة نَفْسَها «مواصلةً لخطه، وليست مؤسِّسة لأمر جديد»، فزياراتها «للقيادة السورية ولقيادة المقاومة في لبنان وفلسطين، هو لضرب القطيعة الرسمية التونسية معها، ولإعلان الوجه القومي وغير التعصبي طائفيًّا للشعب التونسي»، كما أعلنتْ لي. وتؤكد أنّ التيّار الشعبي، حزبها، هو الذي «زاد المكوّن الوطدي والمكوّن العمّالي- الشيوعي اقتناعا بخط المقاومة، حتى زارت ممثليها الرئاسة السورية، بينما صمت المكوّنان البعثيان حرصًا منهما على التوازنات». وتقول إن المسائل ذات الصبغة الدينية، كالمساواة في الميراث تخضع للتصويت، ورأينا ليس محدّدًا فيها.

كان إصرار عائلة الحاج محمد البْراهْمِي والتيّار الشعبي على أن تكون جنازة مُمْتَثِلةً للدين والألوهية من مؤشراتٍ على تدينيّة التيّار القومي- التقدّمي. وكان اختيار الشيخ محمد فريد الباجي، يعود إلى أن «الشيخ» يشترك مع «الحاجّ» «في اعتدالية التديّن، وفي الروح التصوفية المُحِبّة لله تعالى»، و«تبادل الإعجاب بشخصيّتيْها»، و«كذلك إلى اشتراكهما في معاداة «الوهّابية الجهادية» وحربها مع المسلمين والعرب، وخاصة في سوريا وليبيا» كما أعلنت لي زوجته. لقد التقى الشيخ بالحاجّ، لأوّل مرة صُدْفة في جانفي/يناير 2012 بمقهى بشارع بورقيبة في العاصمة، فتعارفا، وشكا له الشيخ آنئذ من التهديدات والعنف الذي يتلقاه، فتعاطف معه الحاجّ و«بيّن له اشتراكه معه في فهم الإسلام معتدلا، ومحاربة التطرّف وتشويه الدين»، ولكنني لم أجدْ من يؤكد تلاقي الرجلين مرات أخرى بعد ذلك.

خاتمة:

1-أعتقد أن التونسيين مقصرون في حق رجالهم الرشيدين ونسائهم الرشيدات، ومن هؤلاء الحاج محمد البراهمي،  الذي لم تكتب سيرته الأخلاقية إلى حد اليوم. فالثورة مثلما تحتاج إلى مشروع تحتاج إلى قيادة أخلاقية وشعب أخلاقي.

2 -لقد حدس الشهيد القوة الثورية في العرفان ، وهنا يلتقي موضوعيا مع اطروحة هادي علوي في الطاقة الثورية في الحركة الإجتماعية التصوفية (كتابه : مدارات صوفية). ولعل ذلك ما كان يفتقر إليه الحراك العربي عام 2011. وهنا يمكن أن ننظر في الإنجازات الإجتماعية والتنموية للحركة المريدية في السنغال والحركة النورسية في تركيا…

لقد كان الشهيد فرصة في الحراك التونسي، ينبغي أن تستعاد بأسلوب إبداعي .

رحم الله محمد البراهمي!

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023