الحسابات التركية من المبدأ إلى نقيضه…بقلم محمد الرصافي المقداد

الحسابات التركية من المبدأ إلى نقيضه…بقلم محمد الرصافي المقداد

لم تكن الدولة التركية بتعاقب رؤسائها لتخفي طموحاتها الهادفة إلى قيادة العالم السّنّي، بعقلية الحاكم العثماني الذي يقدّم مصالح بلاده قبل كل شيء، ولو كان لها مساس بالتزامها الإسلامي، خصوصا فيما صدر منها مناقضا لمبدأ البراءة من أعدائه، فقد كانت سبّاقة في الإعتراف بشرعية الكيان الصهيوني منذ قيامه سنة 1948، في وقت حسّاس كان الفلسطينيون بأمسّ الحاجة إلى من يقف معهم ويدعم قضيّتهم في مواجهة عملية اغتصاب خسيسة تعرضت لها أرضهم وشُرّد نتيجتها شعبهم، وفي مراوحة عجيبة وبين شدّ وجذب، ناور الطرفان التركي والصهيوني على علاقاتهما ببعض، بين فتورها وتجميدها، وعودتها أخيرا إلى مستواها الطبيعي في التبادل على جميع الأصعدة.

ففيما (أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد الأربعاء (17 أغسطس/آب 2022) أن حكومته ستستأنف العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع تركيا، وأن البلدين قررتا استعادة التمثيل الدبلوماسي بينهما، بعد سنوات من التوتّر بينهما. قال لابيد في بيان:”تقرر مرة أخرى رفع مستوى العلاقات بين البلدين، إلى مستوى العلاقات الدبلوماسية الكاملة، وإعادة السفراء والقناصل العامين من البلدين”، وأضاف البيان أن “إعادة العلاقات مع تركيا، مكسب مهم للاستقرار الإقليمي، ونبأ اقتصادي مهم جدّا لمواطني إسرائيل.((1)

تفعيل العلاقات بين الكيان الصهيوني وتركيا، وضع حركة الإخوان الموالية لتركيا والمطبّلة لسياساتها والرّافعة لشأنها في موقف حرج، ليس لأنه يسوءها كحركة مقاومة العدوّ، ويتناقض مع مبدء ظلّت متعلقة به منذ نشأتها، وهو معاداة الكيان الغاصب والعمل من أجل زواله، بل لأن القرار الذي إتخذه الرئيس التركي أردوغان سيجعل تموقعها في تركيا مهزوزا، وما حصل عليه أفرادها من سماح وحرية في وضع حرج غير محسود، بل من المنتظر أن تكون لعودة العلاقات التركية الصهيونية كما كانت سابقا تداعيات سلبية، على وجود حماس والإخوان اللاجئين من مصر وسوريا على الأراضي التركية، ومن غير المستبعد أن تكون صفقة إعادة العلاقات الدبلوماسية، قد بُنِيَتْ على أساس تجميد نشاط حماس والاخوان على الأراضي التركية .

وفي هذا الخصوص (قال الدكتور (تورهان شوماز) المستشار السياسي السابق للرئيس التركي، أن “أردوغان عقب تطبيع بلاده العلاقات بشكل كامل مع إسرائيل، لن يكون بعد الآن صديقا جيدا للإخوان كما كان من قبل، وسيبتعد عنهم، وبالسؤال عن تداعيات التطبيع الكامل على إخوان مصر في الداخل التركي، أجاب: أردوغان لن يسمح بعد الآن للتنظيم في أنقرة بمواصلة أنشطته السياسية مرة أخرى، لكنه استبعد تسليم تلك العناصر في الوقت الحالي، قبل تحسين العلاقات بشكل كامل مع القاهرة.)(2)

ولا يختلف اثنان في القول، بأن الرّكن الحصين الذي بَنَى عليه الإخوان بصفة عامة، آمال قيادة جبهة مفترضة سُنّية، مقابل جبهة المقاومة الشيعية تقودها إيران قد تهاوت جدرانه، بعد التطبيع الذي حصل بين القيادة التركية والقيادة الصهيونية، وسقوط القناع التركي حيال القضية الفلسطينية، الكاشف لزيف دعاوى هذا الجانب بشأن مناصرته لشعبها المظلوم،  ليس من السّهل إعادته إلى ما كان عليه من قبل، متخفّيا في علاقاته مع العدوّ الصهيوني، بعدما اقتضت صفقة المصالح المشتركة القيام بذلك، ولا عزاء لمن كان يرى في حكومة العدالة والتنمية التركية نموذجا إسلاميا يُحتذى به، ومثال طالما تباهى به قياداتهم بعاطفة بلغت حدّ التعصّب المفرط.

وقد يستتبع هذا التطبيع التركي الكامل مع الكيان الصهيوني، تسليما كاملا لملف تدخّلها في سوريا، بعدما صرّح أردوغان (عقب عودته من أوكرانيا، إنه لا يسعى للتوسع في الأراضي السورية، مضيفا عبر تصريحات نقلتها وسائل إعلام تركية: “ليست لدينا أطماع في الأراضي السورية، لأن الشعب السوري شقيق لنا.)(3)، وعلى هذا الإحتمال يمكن القول بأن الحكومة التركية بصدد مراجعة سياساتها السابقة في سوريا والتي كانت داعمة بقوّة لتنظيم الإخوان، فمن أراضيها ابتليت سوريا والعراق من تجميع للعناصر الارهابية من مختلف أنحاء العالم وما يستلزمه ذلك من إيواء وتدريب وتسليح وتنظيم، وتورّط تركيا في ما حدث في البلدين المتجاورين أمر لم يعد خافيا على أحد منذ بدء مؤشراته.

فهل هذه القرارات السياسية من صياغة الدبلوماسية التركية أم أنها تبيعة لموقف أمريكي غربي جاء أخيرا نتيجة قناعة بأن الأوضاع في سوريا وصلت الى طريق مسدود، وأنّ مخطّط اسقاط النظام السوري لم يعد له بصيص أمل في النجاح، وعلى من كل من عادى وأزّم الأوضاع هناك، وساهم بقسط في الاضرار بسوريا، أن يعود إلى جادّة التعقّل، ويستفيق من أحلام يقظته، وعلى أيّة حال أيّا كان مصدر التحوّل التركي بشأن سوريا، فإنّ كل عاقل يرى فيه الأسلوب الانجع لمعالجة ملفّها بدل تأزيمه أو التورّط فيه عسكريا بشكل مباشر، وقد بان فيها فشل امريكا في تدخّلها هناك فشلا ذريعا، بل لقد كشف لنا تورط الجانب الأمريكي في دعم وحماية الجماعات الإرهابية من أجل تمديد فترة الفلتان الأمني واستمرار الفوضى في المناطق التي هي حارج سيطرة النظام السوري، وسواء اقتنع أردوغان أو أمريكا بسلبية مواصلة طريق استنزاف النظام السوري وإيذاء شعبه، فإن تلك النتيجة لم تكن لتحصل لولا بواسل الشعب السوري وحلف مقاومته.

ولا يمكننا أن نمرّ على اتهام أردوغان أمريكا، بأنها مع حلفائها تقوم بتغذية الإرهاب في سوريا، دون اعتبار أنّ خلافا حادا نشب بين المتحالفين سابقا، دفع بالجانب التركي الى مهاجمة حليفته الكبرى وتوجيه اتهامه الخطير لها، وهو اقعا ليس اتهاما بقدر ما هو توصيف للدور الأمريكي في المنطقة، الثوابت والمتغيرات على الساحة تحكمها دائما المصالح، وسياسة تركيا المتقلّبة بين تطبيع مع عدوّ غاصب لأرض إسلامية، ينتظر منها شعبها أن تقف إلى جانبه لا أن تخذله هكذا، ومراجعة لمواقف خاطئة بشأن الملفّ السّوري، جملة من المتغيرات تجعلنا لا نثق كثيرا في سياسة رجب طيب أردوغان، وما نثق به فقط هي إرادة الشعوب، إذا ما صمدت وواجهت مؤامرات أعدائها، فإن الكفة سترجح لفائدتها، والغلبة ستكون حتما لها.

المصادر

1 – اسرائيل تعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع تركيا

https://www.dw.com/ar/62837779

2 – التطبيع الكامل بين إسرائيل وتركيا ..الإخوان وحماس المتضرر الأول

https://al-ain.com/article/normalization-israel-turkey-brotherhood-hamas

3 – أردوغان ينفي أن تكون لدى بلاده أي أطماع في سوريا ولا يستبعد الحوار مع دمشق

https://www.france24.com/ar/20220819-

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023