السلمانية آخر مراحل السعودية… بقلم: مصطفى السعيد

لم تكن شرارة قتل السعودية لجمال خاشوقجي قادرة على إشعال كل تلك النيران المحاصرة للعرش السعودي لولا الهشيم المتراكم من العداوات الداخلية والخارجية التي جاء بها الملك سلمان ونجله محمد، فالرغبة في الإستحواذ على العرش لأسرة سلمان وحرمان باقي عائلة آل سعود كان يستلزم دفع فاتورة باهظة، لا تقتصر فقط على مئات المليارات التي أخذها الرئيس الأمريكي ترامب، بل التحالف المباشر مع الكيان الصهيوني ضد كل أعداء إسرائيل.
جاءت السلمانية بأجندة حرب مفتوحة داخل المملكة وخارجها، وتلك السياسات الصدامية تختلف عما ألفه ملوك آل سعود منذ تأسيس المملكة، والتي كانت تتسم بالهدوء والحذر، بينما اندفعت الحقبة السلمانية بسرعة إلى أتون الحروب والمقامرات الكبرى، فكان عليها تأديب أكثر أمراء آل سعود نفوذا لفرض الهيبة والخوف والطاعة العمياء، ولم يكن احتجاز مجموعة من هؤلاء الأمراء بغرض جمع بعض المال، وإنما بالأساس فرض الولاء بالإكراه، وهو ما قاد إلى سابقة هي الأولى من نوعها في العالم باحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، ثم إعدام الشيخ نمر النمر، وآخرها السابقة التي هزت العالم بتقطيع جثمان ونشر عظام خاشوقجي في مقر دبلوماسي، فالشاب المندفع لا يرى أية إشارات حمراء أو صفراء، بل يقود قاطرة بلا جوامح وبلا مستشارين أكفاء، وليس أمامه إلا العرش ثم توسيع دولته، لتشمل الجزيرة العربية وما بعدها.
هكذا بدأت خطوات تأسيس الدولة السلمانية بالمقامرات الخطيرة، دون أن تكترث بالعواقب حتى لو وضعت الدولة في خطر وجودي غير مسبوق، فالملك الطاعن في السن كان هدفه الأول منذ اعتلاء العرش أن يمهد الطريق ليخلفه نجله المتهور، ولهذا تخطى لأول أعراف الأسرة الحاكمة، وسارع بانقلاب يخلع ولي العهد القوي محمد بن نايف ليضع نجله مكانه، ولم يكن لمثل هذا الإنقلاب أن ينجح بدون مشاركة أو ضمان من الولايات المتحدة الأمريكية على الأقل، ولهذا تحمل سداد الكثير من الفواتير الثقيلة لكل من الإدارة الأمريكية وإسرائيل، وجاءت حرب السيطرة على باب المندب كسداد لأول الأقساط في حساب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بالسيطرة على مدخل البحر الأحمر، وأن يدشن محمد بن سلمان أول إنتصاراته التي تمهد له الطريق إلى العرش، مع انتقال العلاقة مع الصهاينة من الظل إلى الشمس، في خطوة قال عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بأنها فاقت الخيال، ولم يتوقف الإندفاع نحو التحالف العلني بين السعودية والكيان الصهيوني عند هذا الحد، بل اتسع ليشمل إشعال الحرائق في كل المناطق المعادية للكيان، من لبنان إلى العراق مرورا بسوريا، بل التهديد بنقل المعركة إلى داخل إيران، والتي تجاوزت التهديد إلى التخطيط بل الشروع في التنفيذ، عندما كشفت مجلة أمريكية عن لقاء بين العسيري وممثلين عن المخابرات الإسرائيلية والإماراتية والأمريكية لوضع خطة الإنقضاض على إيران بهزات إقتصادية وهجمات إرهابية في ظل حملات دعائية على إيران تصفها بالعدو الأول للعرب، وربما العدو الوحيد بعد أن أصبحت إسرائيل الصديق والحليف.
الإندفاع الجنوني السعودي نحو الصدامات العنيفة الرامية لمواجهة محور المقاومة تفوق قدرات المملكة، التي تنحصر في عنصرين فقط، الأول هو توافر المال الكافي لشراء أسلحة متطورة من الولايات المتحدة وأوروبا، وإمكانية شراء حلفاء ومرتزقة، والعنصر الثاني هو مساندة الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن هل هذا يكفي لكي تحقق مملكة آل سلمان ما تصبو إليه؟ التجربة القاسية في اليمن تكشف مدى فشل القدرات المالية والتسليحية الهائلة والمؤازة الأمريكية الصهيونية عن تحقيق ذلك الهدف، رغم أن اليمن دولة فقيرة للغاية، وليس لديها أي أسلحة حديثة، بل تفتقر إلى قوات جوية ودفاع جوي أو قوات بحرية ذات قيمة، ورغم الحصار البري والبحري والجوي الشامل المفروض على اليمن لما يقرب من 4 سنوات لم تحقق قوات ما يسمى “التحالف العربي” أي إنتصار ملموس، وفشلت قواته في دخول الهضبة اليمنية، التي تضم أغلبية السكان، وتواجه مشكلات كبيرة في المناطق الجنوبية والشرقية التي احتلتها، وعجزت عن إدارتها، لضعف خبرتها بشأن “إدارة المستعمرات”، ولم تفعل شيئا سوى تقاسم مناطق النفوذ مع الإمارات، وإنشاء ميليشيات خاصة مدفوعة الأجر لتحل محل القوات التابعة لحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، المشكوك في قدرته على الإنتقال إلى عدن، والمرجح أنه تحت الإقامة الجبرية، ومنزوع منه اختصاصاته، سوى التوقيع على ما يتراءى لقوات الغزو، وكانت معركة الحديدة كاشفة عن مدى ضعف قوات الغزو وأتباعها من المرتزقة المحليين أو الأجانب، فعلى مدى ثلاثة أشهر لم تستطع القوات التقدم إلى مطار الحديدة، رغم كل ما تمتلكه من قوات جوية تحمي المشاة وتمهد لها الأرض للتقدم الآمن على طريق ساحلي منبسط، يسهل على القوات البرية المحمية التقدم فيه بكل سهولة، لكن بإمكانيات بسيطة استطاعت القوات الوطنية اليمنية من قطع الطريق الساحلىي في عدة نقاط، لتقطع أوصال القوات المتقدمة نحو الحديدة وتلحق بها خسائر جسيمة.
وأمام عجز تلك القوات المتفوقة تسليحيا بما لا يقاس أمام قوات بائسة التسليح رأت أن السبيل الوحيد لتحقيق إنتصار هو ارتكاب المذابح لإشاعة الخوف بين المدنيين والضغط النفسي على القوات المحاربة، إلى جانب حرب التجويع بمنع توصيل الغذاء والمشتقات البترولية إلى المدن اليمنية، وهو ما أدى إلى أسوأ كارثة إنسانية في التاريخ الحديث وفق توصيف الأمم المتحدة.
لم تفقد المملكة في حرب اليمن واحدة من أهم مقومات دورها الوظيفي فحسب، بل أكدت أن المملكة التي تملك جيشا قويا من حيث الشكل، تفتقر إلى مقومات الدفاع عن نفسها، وظهرت على أنها عالة، تحتاج لمن يحميها، ولهذا كشف الرئيس الأمريكي عوراتها بكل فجاجة، وأخذ يعايرها على الملأ بضعفها، ويطلب منها الكثير من المال مقابل حمايتها، مؤكدا أنها يمكن أن تسقط خلال أيام وربما ساعات لولا الحماية الأمريكية.
تجسد العجز أيضا أمام قطر عندما وجهت لها المملكة إنذارا بتنفيذ شروطها، وانقضت المهلة دون أن تتمكن المملكة من تنفيذ تهديداتها أمام دويلة لا تمتلك مقومات عسكرية أو جغرافية أو سكانية، لتسقط هيبة المملكة السليمانية في اختبار آخر أمام قطر.
وكاد الأمر يتكرر مع الكويت عند سعت المملكة إلى إبرام اتفاق مع الكويت يسمح لها باستخراج البترول من أحد آبار المنطقة المحايدة، ولما اشترطت الكويت أن يتم أولا التوصل إلى اتفاق برسم الحدود النهائية بين البلدين قبل الشروع في استخراج النفط، رفضت السعودية وحاولت الضغط على الكويت لكنها فوجئت بتحدي الكويت للمطالب السعودية، وإقدامها على عقد اتفاقية أمنية مع تركيا، إلى جانب التوسع في مشروعات مشتركة مع الصين.
كما لم ينجح استعراض القوة أمام لبنان، سواء عند احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري لإجباره على الإستقالة، بهدف إحداث أزمة سياسية في لبنان، أو بالتهديد الإقتصادي، أو حتى بإثارة فتنة مذهبية، وجميعها حققت فشلا ذريعا، بل أساءت بشدة إلى المملكة، وقلصت من رصيدها ونفوذها، وتراجع تمثيل حلفائها في الإنتخابات البرلمانية اللبنانية الأخيرة، وهو ما تكرر في الإنتخابات البرلمانية العراقية، لتضاعف من فشل السياسة السلمانية.
هكذا كان تراكم المغامرات السلمانية الفاشلة، وتأجيج الأحقاد والمرارات الناجمة عن الإكراه والإذلال والقتل في الداخل، والحروب الفاشلة في الخارج، وتبديد الأموال بسرعة وسفه من أجل حماية العرش أن تجعل السلمانية آخر مراحل حكم آل سعود.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023