العراق.. البؤس وصراع النفوذ… بقلم د. الهذيلي منصر

العراق.. البؤس وصراع النفوذ… بقلم د. الهذيلي منصر

هناك في العراق، وقد زرته منذ فترة، ما يكفي من أسباب لانطلاق ألف ثورة في اليوم الواحد. بلد مدمّر ومزاج عام سمته الحيرة والإحباط وفي الخلفية بطالة وضيق رزق. في عراق الغاز والبترول الكهرباء على أقساط. هذا المؤشر لوحده يكفي. وضع معقّد جدا وتتداخل فيه العوامل والأسباب. كنت أعتقد شخصيا أنّ أزمة العراق بدأت في سبتمبر 1980 تاريخ اندلاع الحرب العراقية الايرانية. عراقيون كثر يعودون الى الوراء أكثر والى فترة الستينيات وموجة الانقلابات التي أتت بالبعثيين الى الحكم واستقرت على صدام. لا تكاد تجد في الأسواق العراقية منتجا عراقيا واحدا وهذا يفنّد مقولة العراق المصنّع. لم أمرّ بمنشأة واحدة تثبت هذا الإدعاء. لا يشيع بين العراق حلم كما يشيع حلم الهجرة وتتشكل جاليات عراقية ضخمة في كلّ قارات العالم.

هذا العراق ورغم ما عانى في السابق ويعاني اليوم لا تفسّر الأمور فيه بالعوامل الذاتية البحتة. لا. مستحيل. هو على حدود تركيا وايران والكويت والسعودية واسرائيل بفضل أكراد مسعود. على العراق بنى الأمريكيون أضخم سفارة لهم في العالم وعلى ارض العراق نشروا سنة 2003 أضخم حشد عسكري منذ الحرب العالمية الثانية. الفساد هناك عابر للطوائف والجهات والوصوليون من شيعة وسنة وأكراد على حدّ سواء كما الحرص على رؤية العراق يشفى وينهض. الشيعة والسنة هناك متصاهرون وفي الحشد الشعبي شيعة وسنة وأكراد وخصومه من شيعة وسنة وأكراد. تلتقي عراقيا مناطات الطاقة من بترول ومناطات النفوذ الإقليمي والدولي ومناطات صراع الغرب والشرق. إياكم والإعتماد على تقارير الشاشات وما تبثه. الأوضاع هناك معقدة جدا لا يأتي عليها ريبورتاج ولا يفكّ طلسمها تحليل. اذا اهتدى العراقيون الى حلول لمشاكلهم الداخلية دخلت عليهم العواصم الاقليمية وأبعد منها وإذا بنوا بعضا من علاقة بطرف دولي أغضبوا طرفا آخرا. اذا ارضوا الجيران السعوديين أغضبوا الايرانيين واذا أغضبوهم لا يقدرون على مؤامراتهم وكذلك مع كلّ ما يبتغي نفوذا في العراق. بعض الاطراف الاقليمية تتصرف هناك بمنطق النكاية ببعضها البعض من دون حب وكره للعراقيين.

هناك شيعة عراقيون مصالحهم سعودية وهناك سنة مصالحهم ايرانية وهناك اكراد مصالحهم صهيونية وهناك اكراد آخرون مصالحهم بين تركية وايرانية. أسهل السهل هناك أن يتشكّل تيار سياسي وتظهر ميليشيا لا ولاء لها للعراق وللعراقيين. طبيعي، دولة مفككة وادارة فاسدة وخصاصة وشباب يائس. لماذا تندلع الأحداث هناك الآن؟ فقط لأسباب اجتماعية؟ لا. الأسباب الإجتماعية قائمة الذات منذ سنوات ولن يتغير الوضع قريبا. بقدر ما ستستقرّ الأوضاع سوريا بقدر ما يحمى الوطيس عراقيا وبقدر ما تُبتز السعودية يمنيا بقدر ما تحاول المناورة عراقيا. هناك مشاكل العراق وتنضاف اليها مشاكل الإقليم والعالم وكلّ يحاول تسجيل نقاط هناك ولما لا الانتصار بالضربة القاضية وهذه الأخيرة مستحيلة. اعتقد الأمريكيون أنهم بغزو العراق ينجحون في اعادة تشكيل العراق وتشكيل محيطه. فشلوا لبنانيا وفشلوا سوريا وفشلوا ايرانيا ويعسر عليهم هضم أنهم يقشلون عراقيا.

في مثل هذه الفترة من كلّ سنة يقصد الملايين من بلاد كثيرة كربلاء ويكون تجمع ضخم وذروة ذلك بعد ايام قليلة. هناك خطط لإرباك هذه المناسبة التي ينظر اليها، بعيدا عن الطّقس الديني، مناسبة سياسية تصبّ في مصلحة الايرانيين وما يقيمون من حلف عابر لحدود كثيرة منها حدود العراق. العراق أرض ثأر اقليمي ودولي ومنذ التحول الذي كان في ايران سنة 1979. رأى الأمريكيون ورأى عرب الخليج أن يكون الثأر من الخميني وثورته بالعراق ومنه ووافقهم صدام ومنذ ذلك الحين دخل العراق في ما يشبه الحلقة المفرغة. كل طرف يريد للعراق أن يكون له وعلى خصومه. لا حلف الأمريكيين يريد للعراق افلاتا من قبضته ولا ايران تقبل أن يكون جارها الواسع العريض عليها وتحرص على أن يكون لها. طبعا المرجو والمأمول أن يكون العراق للعراقيين ولكن هذا من الصّعب العسير. هل يكون العراق مستقلا عن الإيرانيين من دون أن يكون أمريكيا صهيونيا سعوديا؟ هنا المشكلة وهي مزمنة. يسعى الإيرانيون الى توسعة نفوذهم في العراق بقدر ما يشعرون بزيادة نفوذ الأمريكيين وتوابعهم هناك. كذلك يفكر ويخطط الأمريكيون وانزعاجهم من نفوذ الايرانيين يزيد ولا ينقص هذه الأيام.

هل تكون دولة عراقية قادرة على التخطيط والاهتمام بهموم الناس في هكذا سياق؟ لا. مستحيل. تتشكل نخب بين مخترقة وضعيفة تمرّ بمؤسسات دولة ضعيفة مستضعفة. في العام تتشكل النخب على أساس الارتباط بالخارج وعلى أساس ما يتسرّب الى العراق من مال. الوطنية العراقية متوفرة احساسا وشعورا فقط ومن الصعب رؤيتها تتشكل قوة فاعلة ومؤثرة. لا يمكن منع شرائح واسعة من العراقيين من الرهان على ايران والارتباط بها وهي التي أنقذت هذه الشرائح من سكاكين داعش التي تسلّحت أمريكيا وتمولت خليجيا. كذلك لا يمكن منع شرائح أخرى تعودت بالاعتماد لتحقيق المصالح بمال الخليجيين وتبجيل الأمريكيين.

اعتقادي أنّ أزمة العراق لن تنتهي قبل حسم الصراع الايراني السعودي والذي هو أوسع من صراع ايراني سعودي أو شيعي سنّي. هو صراع النفوذ الذي يشقّ كل المنطقة ويدميها منذ سنوات طويلة. أين تيار مقتدى الصّدر وهو الشيعي من الأحداث الحالية في العراق؟ لا يمكن له الا أن يكون سعوديا ولا تعني العناوين المذهبية في العراق الكثير مقارنة بالمصالح والوجاهات والقبليات وحسابات النفوذ. هذه العناوين لاستدراج المغفّلين.

يختلف الشرق كثيرا عن مغربنا العربي والإسلامي والذاهب منا هناك يكتشف مسافة واسعة بين السياقين. شخصيا يثير العراق فيّ ولقد حرّك فعلا حسرة كبيرة. هناك دول تجمع بينها الجغرافيا وجمع بينها تاريخ عميق. دخل عليهم الاستعمار فشرّد بهم وفتتهم وقد يذرّيهم. ولا يعتقدن أحد أنّ الاستعمار لا يفكر لمنطقتنا المغاربية كما يفكر لمشرقنا. نفس الروح ونفس الحسابات. نقطة الضوء الوحيدة في العراق هي أنّ الايرانيين والأتراك هناك ينسقون ولا يتصادمون. الصدام هناك بين ايرانيين وسعوديين. هناك عراقيون يطلبون خروج الايرانيين ولكن هؤلاء لا جرأة لهم على قواعد الأمريكيين في العراق والتي سهّلت لمسيّرات صهيونية قصف عراقيين وقتلهم. ذلك أنهم خطر على أمريكا واسرائيل. السؤال الصّعب استراتيجيا هو التالي: كيف اعتقد السعوديون والصهاينة والأمريكيون أنهم يستفيدون من غياب صدّام حسين الذي استدرجوه للكويت ثم ذبحوه حصارا فحربا مفتوحة ذهبت به.

إذا كانت الغاية البعيدة مما يشهده العراق اليوم سحب العراق بالفوضى من الكتلة المتشكلة انطلاقا من ايران وصولا الى فلسطين فإنّ هذه الغاية عسيرة. مناورة السعوديين وحديثهم عن مفاوضة الايرانيين والبحث معهم عن حلّ سياسي لا غاية منه غير تحييد وقتي لساحة اليمن علها بعد “نصر في العراق” تنجح في الاختراق يمنيا وأبعد من ذلك. أو لعلّ السعوديين يريدون مزيدا من أوراق القوة اذا كانت مفاوضات مع الإيرانيين. الحملة الاعلامية السعودية المستثمرة في ما يشهد العراق من حراك سعودية وهذا مفتاح مفيد لفهم ما يجري وما قد يفتح عليه. تقديري أنّ آل سعود يتحركون نحو هزيمة أخرى في العراق وسيكون منها ثأر عراقي كبير. منذ فترة قال السعوديون أن مسيرات أرامكو اتت من عراق لا من يمن. جيد وفكرة عبقرية. ستكون مسيرات عراقية تكمل المشوار السعودي. اسأل الله الفرج للعراقيين ولن يكون فرجهم قريبا مع كلّ الأسف.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023