“الكيانية” والهوية الوطنية…بقلم عماد خالد الحطبة

“الكيانية” والهوية الوطنية…بقلم عماد خالد الحطبة

تحتفل معظم الدول العربية بذكرى مرور مئة عام على تأسيسها؛ تشير هذه الذكرى إلى تاريخ انفصال الوطن العربي عن الاستعمار العثماني الذي رزح على صدره لأكثر من أربعمئة سنة، يحب البعض الإشارة إلى تلك الفترة باسم النهضة العربية، ويراها البعض الآخر نقطة الانطلاق لما يسمى مشروع التحرر العربي.

إذا قبلنا بأن المشروع التحرري العربي انطلق مع الانفصال عن الدولة العثمانية، لا بد وأن نلاحظ أنه اتسم بسمتين، الأولى طغت عليه عبر تاريخه ولم تكن حينها واضحة الملامح، كانت السعي نحو هزيمة الآخر وليس بناء الذات، والانطلاق منها نحو تحقيق الأهداف المنشودة والتي تمثلت في حينها بإنشاء دولة الوحدة العربية في بلاد الشام والحجاز لتكون إقليم القاعدة الذي ينطلق باتجاه وحدة عربية أكبر.

أما السمة الأخرى لهذا المشروع فكانت غياب الوعي السياسي عن قيادته، فلجأت إلى الاستعانة بالقوى الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا) معتقدة أنها ستقدم لها يد العون في تحقيق أهدافها. ما زالت هذه السمة تطارد معظم من يعتقدون أنهم يحملون برنامجاً وطنياً حتى اليوم، حتى أصبحوا ألعوبة في يد القوى الاستعمارية تسلطهم على مشاريع الدول الوطنية التي حاولت مغادرة الفلك الاستعماري كما حدث ضد مصر وسورية.

بسبب هذه الظروف الموضوعية والذاتية التي سادت الوطن العربي منذ مطلع القرن الماضي، لم يستطع هذا المشروع هزيمة الآخر في أي مجال (عسكري، اقتصادي، ثقافي.. إلخ)، بل الحقيقة أن هذا المشروع تعرض لسلسلة من الهزائم أوصلته إلى حالة من الاستسلام للعدو. تجلى هذا الاستسلام في أكثر من محطة من محطات تاريخنا. المحطة الأولى والأهم كانت استسلام مناضلي مشروع التحرر الوطني لفكرة الكيانية، وتحولهم إلى منظرين لها تحت مسمى الهوية الوطنية.

عاد هذا المشروع ليُعلن استسلامه أمام الهزائم المتلاحقة التي ألحقها به العدو، ليصل إلى ذروة هذا الاستسلام من خلال موجة «السلام» الأولى التي افتتحها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وتبعه الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية. وها نحن نعيش اليوم الموجة الثالثة من الاستسلام من خلال ما يعرف باتفاقيات التطبيع بين العدو الصهيوني والعديد من الدول العربية.

ما بين هذه الموجات، استسلم المثقف في تبعية كاملة للآخر، في فكره ولغته وثقافته واقتصاده، فغابت أي خصوصية عامة للمشروع، وتحول إلى محاولة لفرض مجموعة من الهويات المتخيلة المنفصلة عن الواقع والتاريخ.

الحديث هنا عن محاولة تحويل الهوية الوطنية المرتبطة بالجغرافيا والثقافة إلى هوية سياسية تمنح المبرر لنشوء كيان سياسي مستقل عن امتداده التاريخي. في هذا السياق لا يمكن التجاوز عن الخصوصية الثقافية التي ارتبطت بالتوزيعات الجغرافية (صحراء، سهول، ساحل، جبال) والتي انعكست بمجموعة من العادات المرتبطة بالغذاء واللباس وبقية العادات الاجتماعية. لكن هذا التنوع لم يُراعَ من قبل الاستعمار عندما شرع بتقسيم مناطق نفوذه.

العيب الأبرز في مشروع التحرر الوطني العربي كان غياب النظرية الثورية المرتبطة بالواقع. لقد جاء هذا المشروع ليُبشر بما«يرغب بأن يكون» دون الأخذ بعين الاعتبار ما هو «كائن» كمعطيات على أرض الواقع. لقد أدرك مثقفو المشروع ما لا يجب أن يكون، ما هم ضده، وما ينكرونه؛ ولكنهم لم يُدركوا ما يجب صنعه لتحويل الأمنيات إلى واقع مُعاش. في غياب الإرث الثوري النظري كان لا بد من استيراد هذا الإرث من الفكر الثوري العالمي، فكانت الماركسية والماوية والقومية. المشكلة في استيراد هذا الإرث النظري كانت في أنه اعتمد حرفية التجربة الخارجية، دون إعادة قراءته وتكييفه بما يتناسب مع شروط الواقع.

بالتأكيد كانت هناك استثناءات سياسية؛ مثل تجربة جمال عبد الناصر الذي حاول بناء مشروع نهضوي بإمكانيات البلاد الذاتية، وتماشياً مع شروط الواقع وهو ما برز في عام 1964 عندما قال لوفد من منظمة التحرير الفلسطينية أنه “يمتلك مشروعاً لبناء مصر وتقوية الأمة العربية ولا يملك مشروعاً لتحرير فلسطين”. وتجربة القائد المؤسس حافظ الأسد الذي رفع، بعد حرب 1973 وخيانة السادات، شعار تحقيق التوازن الإستراتيجي مع العدو. في كلتا الحالتين لم يلقَ هذا التوجه قبولاً عند المثقفين الثوريين حينها. كما برزت حينها استثناءات ثقافية في تجارب ياسين الحافظ، ومهدي عامل، وسمير أمين وغيرهم، لكنها لم تلقَ هي الأخرى قبولا أو عملاً على تطويرها لتتناسب مع تطورات الواقع وتحدياته.

مع انطلاق موجة ما سُمي «الربيع العربي» حاول الاستعمار تسويق ما يحدث على أنه “الثورة المنتظرة”، ووراء الاحتجاجات والهبات الشعبية التي سادت الوطن العربي، حشد جماهير متعبة تواقة إلى التحرر من التخلف والاستبداد والتبعية. لكسب المشروعية الثورية كان لا بد “للثورة” المزعومة من إسقاط بعض الأنظمة المعروفة بتبعيتها للغرب وتنصلها من قضايا الأمة. كانت البداية في تونس ومصر، وعندما نجحت التجربة، وتحولت المؤامرة إلى “ثورة” بعين الكثيرين، أسقطت المؤامرة قناعها، وانتقلت لاستهداف الدول ذات الأنظمة التي ترفض الامتثال للمشروع الاستعماري، وتحاول شق طريقها خارج دائرة الاستعمار. الهدف الحقيقي كان سورية ومحور المقاومة عموماً، وليبيا الثروة، والنزوع نحو مشاريع وحدوية عربية أو إفريقية. وسقط مشروع التحرر الوطني العربي في الفخ الاستعماري مرة أخرى.

لعل هذا السقوط المتوالي لمشروع التحرر الوطني العربي يتطلب منا طرح أسئلة مفصلية. هل كان هذا المشروع وطنياً وتحررياً فعلاً.. هل تكفي مئة عام من تهويمات الهويات الوطنية والكيانات السياسية المستقلة، وما رافقها من فشل وهزائم متكررة لتقنعنا أننا كنا نناضل في سبيل مشروع غيرنا (الاستعمار) وليس مشروعنا؟

كاتب من الأردن

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023