المجال والجغرافيا الاقتصادية…بقلم د. فتحي بوليفه

المجال والجغرافيا الاقتصادية…بقلم د. فتحي بوليفه

ساهم التلاقح الذي حدده المجال بين الجغرافيا وعلم الاقتصاد في ولادة الجغرافيا الاقتصادية، في البداية عبر الخرائطية ثم من خلال تكميم تلك العلاقة بابتكار عدة نماذج ونظريات شارك فيها جغرافيون وعلماء اقتصاد وأصبحت مراجعا ومنطلقات لعدة بحوث ودراسات على الميدان أي المجال، أكثر واقعية وجدوى علمية. كيف يبرز دور دراسة المجال في ولادة الجغرافيا الاقتصادية؟

إن التفكير في المجال داخل الفكر الاقتصادي كان محدودا وعرضيا وهامشيا خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. وقد أنتج اقتصاديون أمثال ستيوارت وسميث وفون تونن وريكاردو وماركس ومارشال ولونهارد، أفكارا غنية كان حريا أن تؤسس لجغرافيا اقتصادية متينة، لكن ذلك لم يحصل إلا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فخلال بداية القرن التاسع عشر اهتمت مؤلفات الاقتصاد بالقضايا الماكرواقتصادية.

فدافيد ريكاردو المعاصر لفون تونن (القرن التاسع عشر)، لم يعر اهتماما للأبعاد المجالية في أعماله وأفكاره، فالبلدان في تصوره عبارة عن تشكيلة لموارد، وهي بلدان لا يهتم فيها بالتقسيمات الداخلية ولا بمميزات تلك التقسيمات، أي أنها بلدان بدون أبعاد مجالية. أما نظريته عن الريع فقد بناها أساسا على تنوع خصوبة الترب، بحيث لم يعط أي دور لتكلفة النقل في تنوع المجالات. وكارل ماركس بدوره لم يكن مباليا بالقضايا المجالية. وألفريد مارشال بيّن أهمية المناطق الصناعية. أما المهندس الاقتصادي الألماني ويلهيلم لونهارد فقد نشر مقالا سنة 1882 مهد الطريق لنظرية التوطن الاقتصادي في المجال. فهدف علم الاقتصاد في هذه الفترة كان هو بناء نظرية متماسكة للأسواق وللتوازن الاقتصادي. ونستثني من بين أولئك فون تونن الذي كان أول من تطرق إلى البعد المجالي وأول من تحدث عن نظرية اقتصادية مجالية. ففي مؤلفه “الدولة المنعزلة” الذي صدر سنة 1826، تحدث عن نظرية استعمال المجال الفلاحي، ووضح بشكل دقيق كيف أن العلاقات والروابط بين الريع العقاري وتكلفة النقل وأثمنة المنتجات الفلاحية تشكل دوائر متراكزة للاستعمالات المختلفة للمساحة الزراعية حول تجمعات سكانية كبرى.

يمكن اعتبار الجغرافيا الاقتصادية، المتداولة حاليا، بمثابة ثمرة تلاقح حصل بين مفهوم المجال جغرافيا، والمناولة الاقتصادية لهذا المجال، وقد شكلت بعض المفاهيم (مثل التشتت، التوطن، المسافة، …) أساس الجغرافيا الاقتصادية. بعبارة أخرى، يمكننا القول أن سياق ميلاد الجغرافيا الاقتصادية “الجديدة” حكمته الظروف الداخلية للجغرافيا ومناهج مساءلتها وتغير نموذجها من جهة، كما حكمته أيضا مؤثرات خارجية تعود أساسا للعلوم الاقتصادية ولتغيرات الظروف الاقتصادية والاجتماعية. ففي تاريخ العلوم الاقتصادية – علم الاقتصاد الكلاسيكي – لم يحض المجال باهتمام الدارسين. والمثير حقا أن المشكلة الاقتصادية كانت تدرس خارج أبعاد ومؤثرات المجال، رغم أن هذا الأخير ليس حياديا، بل له أثره الواضح في النشاط الاقتصادي، ومع ذلك أهمل. أما عامل الزمن فقد كان حاضرا منذ مدة طويلة في التحاليل الاقتصادية. والواقع أن المسافة – وهي مفهوم مجالي – تستهلك الزمن كما أنها تشكل عائقا يرفع تكاليف الإنتاج. وقد تكون المسافة، أحيانا، عنصرا إيجابيا حينما تبعدنا عن المنافسة وعن بيئة ما غير مواتية.

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان الوضع بالنسبة للجغرافيا الاقتصادية، كما يلي : – من جهة، بدأ بعض علماء الاقتصاد – قبل الجغرافيين – في إدماج دور المجال في تفكيرهم : دور المجال عبر مختلف مظاهر الحياة الاقتصادية مثل التجارة والاتصال والمواصلات وتوطن الصناعات. – من جهة أخرى، قام الجغرافيون بوصف (وليس تفسير) توزع الأنشطة الاقتصادية على وجه الأرض. ودون تنسيق علمي بين الجانبين، بدأت تظهر بعض النظريات المؤسسة وبعض الدراسات التجريبية التي ستؤسس فيما بعد للجغرافيا الاقتصادية الحديثة.

في أوروبا الغربية وخلال نفس هذه الفترة كان حضور الجغرافيا الاقتصادية لا يزال ضعيفا. وبدأت تظهر كتابات لأمثال الجغرافي الألماني غوتز 1882 وكذلك فريديريك 1904. وظهرت مفاهيم المشهد الاقتصادي والمجال الاقتصادي على يد كريندر 1926 ووايبل 1933. وفي فرنسا ظهرت مساهمات هوسر (1905-1915) وكتاب فيدال دولابلاشمبادئ الجغرافيا البشرية” 1921 حيث اهتم فيه بالنقل وتوزيع العمل وهيكلة مجال التجمعات السكانية والتوزع الجغرافي للنوى الحضرية. وخلال ثلاثينيات القرن العشرين أبدى بعض الجغرافيين بفرنسا اهتماما بالجغرافيا الصناعية في إطار دراسات إقليمية (بلانشارد 1934 – كابو راي 1934 – بيران 1937).

يعود الفضل لجماعة من علماء اقتصاد ألمان، عملوا، خلال الثلث الأول من القرن العشرين، على امتداد وتوسع الحدود التصورية للجغرافيا الاقتصادية. من جملة هؤلاء نجد أساسا فيبر 1909 الذي بنى نظرية عن التوطن الصناعي (المثلث الشهير للتوطن الصناعي : السوق-الحديد-الفحم الحجري). هناك أيضا الجغرافي الألماني والتر كريستالار 1933، والاقتصادي الألماني أوغست لوش 1940، اللذان وضعا نظرية – نظرية الأماكن المركزية – للتوزع الجغرافي للمراكز الحضرية (الأسواق) التي تستقطب السكان أو الحرفاء الذين يتصرفون وفق المنفعة والثمن. واتفقا على ان البحث عن الثمن الزهيد والمنفعة المرتفعة من قبل المستهلكين، تؤدي إلى ظهور توزع جغرافي منتظم للمدن او “للأماكن المركزية“، يكون الشكل السداسي لتوزيعها سائدا. أما بالندر تورد 1935 فقد نشر كتابا يولي اهتماما اقصى لتكلفة النقل.

مع بداية القرن العشرين بدأت بعض شعب الاقتصاد في جامعات امريكية تعطي دروسا في الجغرافيا الاقتصادية. وبدأت تظهر، لدى الأنجلوسكسون خاصة، أولى الكتب في الجغرافيا الاقتصادية (1913) كما ظهرت مجلة الاقتصاد الجغرافي سنة 1925 في جامعة كلارك الامريكية. خلال نفس هذه الفترة، (الثلث الاول من القرن العشرين)، ساهم اقتصاديون امريكيون في بناء الاسس النظرية للجغرافيا الاقتصادية : رييي 1931 – زيف 1949 – الاقتصادي هوتيلينغ 1929.

والثابت أنه في مرحلة التشكل ساهم علماء الاقتصاد أكثر مما ساهم الجغرافيون في توسيع الحدود التصورية للجغرافيا الاقتصادية. فأعمال عدد قليل من الاقتصاديين أمثال فيبر وهوفر ولوش ورييي وزيف والجغرافي كريستالار شكلت الاساس والاصل لجغرافيا اقتصادية نظرية حقة. ووضعت هذه المساهمات قواعد لما سيتحول بعد الحرب العالمية الثانية الى علم الاقاليم والتحليل المجالي. هذه المساهمات اعتمد عليها جغرافيون بعد الحرب لتحدي أرثودكسية الجغرافيا الكلاسيكية. وعموما فان جغرافيي فترة ما بين الحربين اهتموا قليلا بتحليل تنظيم مجال الاقتصاد على عكس اهتمامهم بوصف بعض الوضعيات التجريبية.

يعتبر علم الاقتصاد المجالي بمثابة الأصل في نشأة الجغرافيا الاقتصادية، إذ استعارت منه معظم نماذجها التي تعود لفون تونن ولوش وهوفر ووينغو ولاحقا والتر إزارد وألنصو وبالندر. ويمكن القول أن الأبحاث العلمية التي جرت بين سنوات 1820 و 1950 ساهمت بشكل غير مباشر في تكوين الأساس والقاعدة للنظريات المعاصرة للاقتصاد المجالي.

والى غاية الحرب العالمية الثانية بقي المجال والمشاكل المرتبطة بتدبير المجال متغيرات يجهلها الباحثون في العلوم الاقتصادية. أما الجغرافيون فعلى الرغم من انهم وضعوا الاصبع على القضايا المتعلقة بدور المجال في تنظيم الحياة الاقتصادية الا انهم لم يتعمقوا في ذلك.

بدأت الجغرافيا الاقتصادية تتطور خلال سنوات 1950-1960 حينما انفصلت تدريجيا عن الجغرافيا البشرية، ونحتت مفاهيمها ونظرياتها الخاصة. وهي عبارة عن تخصص “ملتقى” يستعير مادته وأدواته من عدة تخصصات مثل علوم الطبيعة والاقتصاد وعلم النفس الاجتماعي. وهذا لا ينفي كونها تتوفر على شخصيتها المتميزة وأدواتها الخاصة. ورغم كونها تستعمل مقولات الاقتصاد فهي تتميز عنه كليا. والجغرافيا الاقتصادية تختلف عن الاقتصاد الكلاسيكي حيث يغيب المجال وتختلف عن الجغرافيا البشرية حيث البعد الاقتصادي محدود. كما تتميز عن الاقتصاد المجالي الذي يتخذ المجال كموضوع للدراسة. وخلال سنوات 1970 بدأت تظهر اولى الكتب الفرنسية في الجغرافيا الاقتصادية العامة، كما بدأت تظهر كتب في الجغرافيا الاقتصادية القطاعية.

وتشترك هذه التخصصات في معالجة موضوعات (مثل: التنمية الاقتصادية الاقليمية – توطن النشاط الاقتصادي – التنظيم الاقتصادي للمجال – الأنظمة الحضرية – التفاعلية المجالية)، على مستوى الوصف والقياس والتفسير. ساهم علم الاقتصاد المجالي كتخصص جديد في إثراء الجغرافيا الاقتصادية، إذ مدها بمعظم النماذج التي تعتمدها في الدراسة. في هذا السياق تبنت الجغرافيا الاقتصادية نماذج الرواد الأوائل مثل فون تونن وألفريد فيبر وكريستالار ولوش، وذلك قبل ظهور والتر أزارد ومدرسته خلال سنوات 1950.

كان الأنجلوسكسون هم من شكل هذا التخصص لا سيما والتر ازارد وادغار هوفر. يعتبر والتر أزارد أب الاقتصاد المجالي ومؤسس علم الاقاليم خلال سنوات 1950. علم الأقاليم، أو علم الاقتصاد المجالي، يهتم بمشاكل وموضوعات اجتماعية واقتصادية ذات أبعاد إقليمية ومجالية، وذلك بإعمال مختلف التصورات والمناهج ونماذج التحليل النظرية والتجريبية.

تقاسمت الجغرافيا الاقتصادية مع التخصصات القريبة منها، جملة من المواضيع مثل: الإقليم والإقليمية والإقليم المتجانس والإقليم الواقع تحت نفوذ قطب ما. وتعتبر نماذج توطن الأنشطة الإقتصادية التي تعتمدها الجغرافيا الاقتصادية، دليلا واضحا على أثر هذه العلوم في الجغرافيا الاقتصادية. واذا كان بول كلافال قد ساهم بأعماله في انفتاح الجغرافيين (الفرنكفونيين خاصة) على التحليل الاقتصادي، فإن “جمعية علم الأقاليم باللغة الفرنسية” التي أسست سنة 1961 من طرف الاقتصاديين فرانسوا بيرو وجاك بودفيل ومعهما والتر أزارد، قد ضيقت مساحة التباعد بين المقاربات الجغرافية والاقتصادية، وإن لم ترق إلى مستوى هذا الانفتاح في البلدان الأنجلوسكسونية.

على صعيد فرنسا كان الجغرافي بول كلافال وحيدا في علاقته بالجغرافيا الأنجلوسكسونية من جهة وبالاقتصاد الإقليمي العصري وبعلم الأقاليم من جهة اخرى. وقد انفتح على أبعاد جديدة في التحليل المجالي واقترح تجديد الجغرافيا الاقتصادية عبر الاقتصاد المجالي.

مشروعية “علم الاقاليم” كعلم جديد تتجسد في كون الإقليم أصبح مقرا لعرض وحل المشاكل والقضايا الاقليمية. وكان لظهور “جمعية علم الأقاليم” التي أسسها الاقتصادي الأمريكي والتر أزارد، فضل كبير على الجغرافيا الاقتصادية. هذه المؤسسة انضم إليها اقتصاديون ومتخصصو جغرافيا اقتصادية وعلماء اجتماع وعلماء سياسة وأنتربولوجيون ومتخصصو عمران وغيرهم. ويصعب التمييز بين المناهج الخاصة بعلم الأقاليم وبعض مقاربات الجغرافيا الحضرية والاقتصادية وكذلك الاقتصاد الحضري والإقليمي والمجالي، إذ تتداخل ضمن بوتقة واحدة. وهناك عدة تعاريف لعلم الاقاليم أو علم الاقتصاد المجالي، وذلك لانفتاح هذا التخصص على الاقتصاد والبيئة والايكولوجيا والانسان. وقد اعطاه والتر أزارد في كتابه “مقدمة في علم الاقاليم” سنة 1975 ثلاثة عشرة تعريفا…

من جهة اخرى وبشكل عام فان “الجغرافيا الجديدة” أو “الجغرافيا الكمية” سهلت على متخصصي الجغرافيا الاقتصادية بناء جسور منهجية نحو أعمال الاقتصاد المجالي وفتحت الباب نحو جغرافيا تطبيقية تتجه خصيصا نحو قضايا التهيئة الإقليمية.

في هذه الفترة ظهر الأستاذ وليام غاريسون وطلبته بجامعة واشنطن وبدؤوا يشتغلون على أفكار المدرسة الألمانية في تحليل التوطن وقالوا بإمكانية إخضاع بعض التساؤلات الجغرافية للتحليل الرياضي والاحصائي (الجغرافيا الجديدة أو الكمية). أخذوا يطبقون الأدوات الكمية على مختلف نظريات التوطن وتحليل المواقع المركزية. فدرسوا بعض القضايا الرئيسية في الجغرافيا الاقتصادية مثل التوطن والتدفقات المجالية والسلوكات الاستهلاكية والبنى الشبكية. أما الثورة النظرية والكمية التي عاشتها الجغرافيا الجديدة (على صعيد المقاربات والأدوات) خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فقد جعلتها قريبة ومقبولة أكثر من قبل الاقتصاديين.

كانت المسافة في هذه الفترة وإلى حدود السبعينات من القرن العشرين العنصر الأساسي في تنظيم المجال وتوطن مختلف الأنشطة تبعا لمبدإ القرب والمدى المسافي الذي يحدد منطقة تداول السلع وإشعاع الخدمات، ولذلك كان النقل، وبصفة غير مباشرة تكلفة النقل، من أهم العناصر المحددة. عملية توطن الأنشطة الاقتصادية في المجال هو فعل منظم ومرتبط بعوامل محددة؛ إذ يخضع لضغوطات تملي على صاحب القرار الاقتصادي أن يتلاءم معها، كما يخضع لنوعية الأهداف والطموحات التي يرمى إليها. عموما، وعادة فإن توطـّن الأنشطة الفلاحية سهل التفسير، إذ هو يخضع قبل كل شيء إلى ضغوطات البيئة، فهي التي تحدد نوعية النشاطات وأماكن توطّنها.

ومن عوامـل جذب الـتوطـّن الصناعي والخدمي توفر وتنوّع وسيولة وسائل النقل التي تربط ما بين المؤسّسة والمزوّدين، أو ما بين المؤسّسة والمستهلكين. ووجود يد عاملة مختصة وذات كفاءة مع جودة المحيط الإداري، وجودة الخدمات الاقتصادية في محيط قيام النشاط الاقتصادي، كالبنوك، وشركات التأمين، ومؤسّسات الاستشارة… ووجود تشجيعات وحوافز تمنحها الدولة في المناطق المهمشة اقــتـصاديا، أو في المناطق الحرّة. ويتمثل التوطن في تحديد المكان المناسب لنشاط اقتصادي ما وكيفية توزع ذلك النشاط في المجال والمسافة القصوى التي يمكن فيها تعاطي هذا النشاط.

أنشأ الاقتصاد في بدايته نماذج مجردة تتجاهل بعد التباين المجالي لكنه أخذ هذا الاعتبار بعد ذلك في حسبانه، ومن ثم أنشا نماذج حديثة تتضمن التباين المجالي. وكانت نماذجه الأولى ثابتة أو جامدة فأنشا حاليا أخرى ديناميكية. وركز الاقتصاد في البداية على الاسواق والاستهلاك إلا انه يتناول حاليا موضوع الإنتاج والإنتاجية. ويوازن بين محتواه وبين ما يسفر عنه التقدم التقني (ثورة الاتصالات وتراجع أهمية النقل)، كما يوازن بين أساليبه اللفظية والرياضية مع الميل للملاحظة التجريبية على الميدان (المجال).

*  أستاذ-باحث في الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة  

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023