الهوية في الحرب التونسية على الكورونا: رفضًا لِتدمير ثقافتنا  والإنسان

الهوية في الحرب التونسية على الكورونا: رفضًا لِتدمير ثقافتنا  والإنسان

بقلم  د.عادل بن خليفة بالكحلة  (باحث أنثروبولوجي)                 

  • في اللغة:

يتكلم جل الأطباء التونسيين في صُحون (= «بْلاَتُوَات») القنوات التونسية بلغة، أكثر من 75% من مفرداتها فرنسية. هل إذا كانوا أطباء مهاجرين في ألمانيا سيتكلمون الفرنسية؟ هل إذا كانوا مهاجرين في مقاطعات كندية تتكلم الإنكليزية سيتكلمون بالفرنسية؟ هل إذا كانوا مهاجرين في روسيا، ألنْ يُجْبِروا أنفسهم على تكوين في اللغة الروسية؟!

إنهم بذلك يجعلون بعض الشعب التونسي ، إن لم يكن عددٌ أكثريٌّ من أفراده ، يحسّون أنهم متكبرون عليهم، وعلى لغتهم وثقافتهم.

وبذلك -أيضا- لن تَصل رسائل الأطباء كما يجب، لأنها لم تكن بلغة قريبة من الناس. أن ابن الجزار، ابن وطنهم، لا يعرفون أنه كتب «طب الفقراء» وكتب «طب المسافر» ليكون الطب في متناول الجميع، وبلغة يفهمها الجميع، وبإمكانيات في متناول الجميع، وبأسلوب يجعل العامة تشارك الطبيب والصيدلاني نجاحهما، وتمارسه حين يعز الطبيب والصيدلاني.

  • في الدين:

رئاسة الدولة تمارس «الفاروقيّة» بطريقة «رومنسية»، عاطفية. فهي «تُصدّق» دون تقصّ، وتَهَبُ دون بحث. وهل الفاروقيّة الحقة هي «الإطعام»، أم«إطعام الطعام»؟! إن إطعام الإنسان إهانة له، لأننا آنئذ سنعتبره طفلا قاصرًا، أما إذا أطعمنا طعامَهُ (أي  وفرنا أسباب العيش الكريم له وبنينا نظام تغطية اجتماعية ونظام أوقاف حداثيا  تقدميا) فذلك هو المطلوب!

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾

﴿أَرَأَيْتَ الذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟! فَذَلِكَ الذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ

3-في الجغرافيا التمثلية:

ما هي الجغرافيا التي يتمثلها جماعة الصحون (= «البْلاَتُوَات») عندنا أثناء أزمة الكورونا؟

إنها لا تتجاوز:  تونس + إيطاليا + فرنسا + ربما الولايات المتحدة وبريطانيا

إنها جغرافيا اكتئابية باعتبار واقع إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة…

تخيلوا خريطة التونسيين. إنها خريطة محدودة جدًّا، ليس فيها المغرب الكبير، ولا الوطن العربي، ولا إفريقيا، ولا آسيا ولا أمريكا الجنوبية، وجزء كبير مِن أوروبَّا!!

إنها جغرافيا تزرع الاكتئاب، وتكرّس التجزئة، وتعمق الإنفصال عن الجسد العربي والمغربي… لا نعرف فيه مقاومة الجزائر والمغرب للجائحة فنتفاءل، ولا واقع أختنا ليبيا الصحي… هل نستطيع أي شيء إقتصادًا وأمْنًا وصحة وبيئة مستديمة ، دون جغرافيا وحدوية!! يا للعار! إن جل قنواتنا وجل ساستنا قطريّون تابعون للبوصلة التبعيّة!

إنه حَظْر غير صحي، يحظر علينا التنفس مغربيا وعربيا وإفريقيًّا… يَحظر علينا الوحدة والامتداد وحل مشكلاتنا الاقتصادية والأمنية والنفسية والثقافية والحضارية…

 

4- في البث من أجل التعليم:

يا للعار… سوريا، رغم أنه ليس لها دعْمُ قطر والسعودية وفرنسا والولايات المتحدة، وربما «الصديق العظيم» (كما قال المرحوم محمد مُرسي)، لها قناة طِبّيّة، وقناة تربوية، وقناة أطفال، وقناة مسرح وسينما، لم تنقطع رغم الحرب… واليمن المسكينة لها قناة تربوية منذ عقود…

الآن فقط… بَعد مضيّ نحو شهر يفكر وزير التربية في مساحة مدرسية على هامش القناة الرسمية… وهي مساحة تكرّس واقع توجهنا التعليمي لا التربوي، وتكرّس توجهنا نحو إعادة إنتاج دوابّ امتحانات…

هذا كله رغم أن عندنا عددًا «مَهولاً» من القنوات… ولكنها كثرة دون بركة… كلها قنوات «بْلاَتُوَات» الصِّياح والمحدوديّة والاستزلامِ… كلها متشابهة، ليس بينها توزّعٌ اختصاصيٌّ… وهي إما تزرع دينًا سلفيًّا، أو إحباطًا علمانيّا، وكلاهُمَا موتٌ خارج رحابة الألوهية، رغم حضارية الإسلام، ورغم المعقولية المعتزلية والرشدية، ورغم إنسانية التصوف…

… كلاهما لا يعرف أنّ الطبيب، ألكسي كاربل، صاحب جائزة نوبل في الطب يقول: «يحتاج الإنسان إلى الله كما يحتاج الماء والأكسجين. يَصِلُ الحدْس، بالمعنى الأخلاقي، بمعنى الجميل، ويصل نور الذكاء، فمعنى المقدس يعطي الشخصية كامل تفتحها».

كلاهما لا يعرفون أن أبا القاسم الشابي لا يعرف الوجود بدون الجمال الإلهي والعَدْل الإلهي. هذا يُكفّره، وهذا يُسقط عليه علمانيتهُ.

إذ هذي الحياةَ قيثــــــــارةُ الله      وأهْلُ الحَيَاةِ مِثْل اللُّحُــونِ

نَغَمٌ يَسْتَبِي المَشَاعِرَ كَالسِّحْرِ،      وصوتٌ يُخلُّ بالتَّلْحِيـــــنِ

فالحرية لا تكون، إلا والله بها:

خُلقتَ طَليقاً كَطَيفِ النَّسيـــــمِ      وحُرًّا كَنُورِ الضُّحى في سَمَاهْ

تُغَرِّدُ كالطَّيرِ أَيْنَ اندفعــــــتَ      وتشدو بما شاءَ وَحْيُ الإِلــــهْ

كذا صاغكَ اللهُ يا ابنَ الوُجُودِ      وأَلْقَتْكَ في الكونِ هذي الحيَاهْ

فما لكَ ترضَى بذُلِّ القيــــــودِ      وتَحْني لمنْ كبَّلوكَ الجِبَـــــاهْ

أهل عِلْمَانِيّتنا يرفضون الله الجميل، لأنّ كونهم محدود، ينتهي بالموت.. وأهل تديننا في قنواتهم المتدينة يعرفون إلها محدودًا، إذ هم يجسّدونه (وجهًا ويدًا وساقًا) ويعتبرونه إلههم وحدهم، يَقْتُل «الكفّار»، وهم الذين لا يشاركونهم عقيدتهم، حتى وإن كانوا مسلمين… ولذلك تحالفوا مع القتَلة في سوريا، وبكوا عليهم عندما حوصِرُوا في حلب وادلب والموصل… وينشرون اسلاما متخلفا منحازا إلى الدكتاتورية واللا عقل التاريخي، والمنحاز ضد الطبقات الشعبية والعدالة والمنحاز للمهادنة العربية للإمبريالية.

5-حظر صلوات الجماعة:

غضب متعصّبونا في كل العالم الإسلامي من قرار وزارات الصحة حظر صلاة الجماعة، في البداية…

إن الله تعالى لا يريدنا أن ندخل بيتَهُ حتى نتطهّر، أخلاقيّا وإجتماعيّا… وحتى تتطهرتلك البيوت التي دنسناها سنوات بالتكفير على منابرها طيلة سنوات، وكم حرمنا منها ناسًا مِن الصلاة فيها والتدريس فيها لأنهم «كفرة»، لأنهم رشديون أو سينويّون أو إقباليّون أو اعتزاليون…

يريد الله تعالى أن يكون بيته مستقلا عن الدولة، مستقلا عن المكفّرين… يريده أن يكون ﴿مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾… يريده أن يكون بيتًا للناس، لكل الناس، يدخلون ﴿فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾… لنقف… فلندعْ الله صاحب البيت: ﴿فَلاَ تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾، أن يفتح لنا بابه، ولا يتركه موصُودًا أمام قلوبنا…

كم عمّرنا المساجد، تاركين منازلنا دون صلاة، دون حبّ، تاركين زوجاتنا واولادنا نهبًا لمسلسلات الإبعاد عن الدين، أو مسلسلات الدعوة إلى دين عثماني-تسلطيّ أو دين تعصبي-تكفيري.

 

غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد     يملؤ أضلعي عيـــــــــــــــدا

فرحوا فلألأ تحت كل سما بيت    على بيت الهدى زيـــــــــــدا

وعلى أسم رب العالمين علـى      بنيانهم كالشهب ممـــــــدودا

يا قارئ القرآن صليِّ لـــــــهم     أهلي هناك و طيّب البيــــــدا

من راكع ويداه أنساتـــــــــــاه     أليس يبقى الباب موصــــودًا

أنا أينما صلى الأنــــــام رأت     عيني السماء تفتحت جــــودا

ـــــــ*ـــــــ

الأرض ربي وردة وُعــــدت     بك أنت تقطف فَارْوِ موعودا

و جمال وجهك لا يزال رجًا     ليرجى وكل سواه مــــــردود

ـــــــ*ـــــــ

إلهي بحق محمد الحكيم، العادل، الجميل، الرحمة لكل العالَمين… لا تترك بيوتك بيوتًا غير بيوتنا إلى الأبد.. نستأنس بك، بمحمد الجميل حبيبك، فنسلّم عليه لأنه أهل تلك البيوت الأوّل والأخير… فأذن لنا يا ربّ، يا واسع، يا رحمان، يا قدّوس، يا عَدْل، بالدخول مرة أخرى … سامح نفاقنا… سامح تكفيرنا وعلمانيتنا الفظّة.. سامح تقصيرنا في حق أوطاننا إلى حد بيعها.. سامح تقصيرنا في حق شعبنا إلى حد بيعنا لسيادتنا وفقرائنا وشيوخنا وشبابنا.. سامح تقصيرنا في حق فلسطين إلى حدّ مراسلتنا لـ«الصديق العظيم» ومنع التطبيع دستوريّا…

لا تتركنا يا الله أمام باب بيتك… شهرًا آخر… لا تَبْتلِنا أكثر بهذا الوباء… انظر لأطفالنا الفقراء… انظر لشيوخنا ينهشهم المرض والجوع… انظر لأسرانا لدى عدوّتك الصهيونية… انظر لذُلّنا أمام الولايات المتحدة الأمريكية… يا الله… ليتقدس اسمك… ليأت ملكوتك… اجعلنا إرادتك التي لا تعرف ظلم الآخرين…

يا إله محمد، الرحمة للعالمين… ها نحن ندق على أبواب مساجدك… اِفتحها يا إله الرحمة للعالمين.. لن نعود لخطايانا التي قمنا بها فيها سنة 2011 و2012 و2013 و2014…

بيتي أنا بيتــــــــــك     وما الي حـــــــــــــــدا

من كتر ماناديتــــك     وسع المــــــــــــــــدى

نطرتك ع بابـــــــي     وع كل البـــــــــــواب

كتبتلك عذابـــــــــي     ع شمس الغـيــــــــاب

لا تهملني لا تنساني     ماالي غيرك لاتنساني

نقف أمام بيوتك بذل العاشقين… مع أبي مدين الغوث وأبي الحسن الشاذلي وعائشة المنوبية وأم الزين والدهماني وعلي بن غذاهم وأبي القاسم الشابي، الذي قاوموا باسمك المجيد الفقر والأزمة والاحتلال والوباء والتسلط (رغم أن علمانيينا ومتدينينا يكرهونهم)… نطرق أبواب مساجدنا بقوة الشوق لك ولصاحب مسجدك (محمد)… اِفتحها… الآن الآن…

صبح الصباح فتــاح يا عليــم

ـــــــ*ـــــــ

لا تهملني لا تنسانــــــــــي      يا شمس المساكين

من أرض الخوف منندهلك      يا شمس المساكين

ـــــــ*ـــــــ

يا مصر قومي وشدّي الحيل

كل اللّي تتمنيه عندي

لا القهر يطويني ولا الليل

ـــــــ*ـــــــ

 

 رمضان 2020

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023