تراجع الدور الامريكي في التأثير على مجريات الامور  في أكثر من بقعة في العالم

الدكتور بهيج سكاكيني |

هنالك أكثر من حدث وعمل دبلوماسي جاد ودؤوب يجري في بعض المناطق الاكثر سخونة جيوسياسيا في الكون في الفترة الاخيرة مما يبعث الامل في تخفيض حدة التوتر وفتح أفاق للحلول السياسية لبعض المشاكل الاقليمية والدولية التي شكلت بؤر توتر متصاعد ومهددة للامن والسلم الدولي. من هذه الاعمال الدبلوماسية البارزة نستطيع ان نذكر الاجتماع بين روسيا الاتحادية وإيران وتركيا على أعلى المستويات بالنسبة للشأن السوري الهادف الى تمتين السير على خط الحل السياسي في سوريا بما يضمن وحدة الاراضي السورية وإحترام سيادة الدولة السورية وحق الشعب السوري في تقرير مصيره دون تدخلات أجنبية من أية جهة كانت.

أما الحدث الدبلوماسي الثاني فهو الاجتماع بين رئيس الوزراء الهندي مودي مع نظيره الصيني والذي هدف الى تخفيض التوتر بين البلدين. أما الحدث الدبلوماسي الثالث فهو الاجتماع التاريخي بين القيادة السياسية للكوريتين الشمالية والجنوبية والاتجاه نحو حل الازمة فيما بينهما بشكل نهائي بما يحقق نزع فتيل التصعيد في شبه الجزيرة الكورية والتي اصبح يهدد نشوب حرب مدمرة في تلك المنطقة وتهديد السلام والامن الدولي في حالة تمددها خارج تلك المنطقة.  والذي يسترعي الانتباه ومن الضروري التأكيد عليه هو ان في كل هذه الاجتماعات الهامة هو غياب الولايات المتحدة عنها وربما هذا الذي فتح إمكانيات نجاحها والوصول الى نتائج إيجابية.  والمدقق في مجريات الاحداث العالمية والسياسة الخارجية التي تتبعها إدارة ترامب منذ دخولها في البيت الابيض يدرك جيدا أن الهيمنية والمكانة الامريكية على الساحة الدولية وتأثيرها على الاحداث في تراجع مستمر.

من الواضح ان في سوريا وبعد الفشل الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة وحلفاءها في التمكن من اسقاط النظام وإزاحة الرئيس الدكتور بشار الاسد بعد ان استخدمت الوسائل الغير مباشرة والتدخل العسكري المباشر فإنها تجد نفسها الان في وضع لا يحسد عليه ومعزولة دبلوماسيا خاصة بعد العدوان الثلاثي الذي شنته مع كل من بريطانيا وفرنسا تحت ذريعة استخدام الكيماوي في دوما قبل يوم من الموعد المقرر لدخول لجنة تحقيق دولية الى المنطقة التي زعمت المجموعات الارهابية انها تعرضت لهجوم بالكيماوي. هذا العدوان المبيت على سوريا الذي ما هو الا حلقة في سلسلة الاعتداءات على الوطن السوري أطاح بمؤتمر جنيف وعقد الحلول السياسية وجعل الذهاب الى جنيف والجلوس مع دول العدوان دربا من المستحيل في المرحلة الحالية. وهذا بحد ذاته اعطى ثقلا اكبر لاجتماعات شوتشي والتنسيق بين إيران وروسيا وتركيا بالنسبة للوضع في سوريا كما ان العدوان أدى الى دعم المواقف المتشددة والمحقة للحكومة السورية وخاصة تجاه المعارضة اللاوطنية التي تهيمن عليها الرياض وتملي عليها مواقفها وكذلك هو الحال مع المعارضة المحكومة من قبل تركيا .

الى جانب ذلك فإن السياسة المتهورة التي تقودها الولايات المتحدة في الساحة السورية أدت الى تصلب المواقف الروسية والايرانية والصينية وتمتين العلاقات الاستراتيجية بين هذه الدول التي أدركت أن السياسة الامريكية  العدوانية التي تتبعها في سوريا ليست موجهة الى سورية فقط بل أنها موجهة اليها بشكل مباشر وغير مباشر بهدف الحد من دورها وثقلها المتصاعد والمتنامي الاقليمي والدولي. ومن يلاحظ تطور المواقف والتصريحات الروسية وخاصة للرئيس بوتين ووزير الخارجية لافروف ووزير الدفاع شويغو منذ بداية الازمة يدرك ان روسيا الاتحادية تعتبر الان الدفاع عن سوريا ودعم الجيش العربي السوري والقيادة السورية انه جزء من دفاعها عن نفسها وعن مكانتها الاقليمية والدولية ودفاعا عن امنها القومي الى جانب الدفاع والالتزام بالقوانين والاعراف الدولية هذا بعكس المواقف الامريكية من مؤسسة الامم المتحدة التي لا ترى فيها الا مطية لتحقيق مآربها ومصالحها بالدرجة الاولى ولا تبدي اي إحترام لاي من القوانين الدولية وهي دائما على استعداد ان تتصرف خارج هذه المؤسسة الدولية.

أما الحدث الاخر فهو الاجتماع بين القيادة السياسية الصينية والهندية وقد أتى هذا الاجتماع مؤخرا على خلفية الاشتباكات العسكرية بين البلدين في شهر اوغسطس من عام 2017 وذلك في المنطقة المتنازع عليها في جبال الهمالايا. ولقد أدى الاجتماع على تهدئة الاوضاع بين البلدين وأرسى سبل للتعاون بين هاتين الدولتين العملاقتين الاسيويتين. ومما يجب التذكير به بأن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد بلغ ما يقارب 85 بليون دولار سنويا وعلى ان الصين هي أكبر شريك تجاري للهند. وكلا البلدين أعضاء في منظمات دولية آسيوية مثل البريكس والبنك الاستثماري الاسيوي للبنى التحتية ومنظمة شنجهاي للتعاون وهي منظمات إقتصادية جبارة تسعى الى تعميق التعاون والاستثمارات بين الدول الاسيوية الى جانب ثقلها السياسي على الساحة الدولية. وتسعى الصين الى إشراك الهند بشكل اكثر فعالية في مشروع “طريق الحرير الجديد” الذي ينفذ بمبادرة صينية والتي تبلغ تكلفته ترلييون دولار ويهدف الى أنشاء ممر ناقل عبر 60 دولة في آسيا واوروبا. ولا شك ان المشاركة الفعالة للهند في هذا المشروع الضخم سيعود عليها بفوائد تجارية جمة. وتعتبر الصين ان هذا المشروع الضخم الذي سيربط دول عديدة في العالم إقتصاديا سيؤدي الى تحقيق نوع من السلام والامن الدوليين. ولهذا فإن الولايات المتحدة تسعى الى وضع العراقيل امام تنفيذ هذا المشروع بالكامل فهي تعتاش على خلق بؤر للتوتر هنا وهناك وليس للاستقرار وخفض التوتر بين الدول. ولهذا السبب فهي تسعى ومن خلال بعض القوى السياسية الفاعلة في الهند لوضع العراقيل امام التقارب الصيني-الهندي في شقيه الاقتصادي والسياسي. كما تفعل مع دول الاتحاد الاوروبي بعلاقاته مع روسيا الاتحادية.

والحدث الآخر الذي اكتسب اهمية كبرى هو الاجتماع الذي ضم رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ اون ونظيره مون جيه إن رئيس كوريا الجنوبية. والذي إتضح من هذا الاجتماع التاريخي الاستثنائي بين الرئيسين ان النقاشات دارت حول العمل على توحيد شطري الجزيرة ووقف التجارب النووية في كوريا الشمالية وحتى التخلص من ترسانتها النووية نهائيا ولكن هذا يبقى مرهونا بتوقيع إتفاقية سلام مع الولايات المتحدة الى جانب انسحاب القوات الامريكية المتواجدة على اراضي كوريا الجنوبية منذ مطلع خمسينات القرن الماضي وإغلاق جميع المعسكرات والقواعد الامريكية في كوريا الجنوبية. لا شك ان هنالك اسباب رئيسية  استدعت قيادة الكوريتين لعقد هذا الاجتماع التاريخي بينهما ومناقشة مستقبل شبه الجزيرة الكورية.

بالنسبة لكوريا الشمالية هنالك ضرورة ملحة لتطوير وتحسين الوضع الاقتصادي للبلد الذي عانى من عقود من العزلة الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية ومحاصرتها دوليا وخاصة من قبل القوى الامبريالية الغربية. ويقال ان كيم جونغ أون قد  وضع خطة عريضة تهدف الى تطوير الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية حال الانتهاء من إمتلاك القوى النووية الرادعة لاي هجوم أمريكي محتمل على كوريا الشمالية، وهو ما كانت الولايات المتحدة تهدد به بين الحين والاخر وكان آخرها تهديد ترامب بمحي كوريا الشمالية وتدمير البشر والحجر بها. ما أريد تأكيده هنا ان لكوريا الشمالية مصلحة حقيقية في تحقيق السلام والامن مع كوريا الجنوبية ولا ننسى أنهم شعب واحد. ولا شك ان الصين قد لعبت دورا ربما في إقناع رئيس كوريا الشمالية للتسريع في منحى تحقيق السلام في تلك المنطقة وقطع الطريق على الولايات المتحدة ومشاريعها العدوانية.

أما بالنسبة لكوريا الجنوبية فإن لها مصلحة كبيرة ايضا في التصالح مع كوريا الشمالية أو على الاقل خفض التصعيد وتأجيج الصراع والسياسة العدوانية التي تنتهجها الولايات المتحدة في تلك المنطقة تجاه كوريا الشمالية والتي ادت بكوريا الشمالية على تطوير ترسانة نووية وتحويل البلد الى بلد نووي كوسيلة لدرء اي اعتداء عليها. كوريا الجنوبية التي استطاعت أن تحقق نجاحا كبيرا في المجال الاقتصادي والتكنولوجيا بعد ان كانت تصنف ولغاية السبعينات من القرن الماضي بأنها دولة نامية فقيرة وأصبحت تنيجة الاستثمار في الانسان وتطوير المناهج التعليمية فيها سادس اكبر دولة مصدرة في العالم عام 2012 وهي دولة ضمن مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم، ترى انه إذا ما تحولت التهديدات الامريكية الى نشوب الحرب في تلك المنطقة فإنها ( اي كوريا الجنوبية) ستكون الخاسر الاكبر نتيجة هذا ومن المحتمل ان تختفي عن وجه الارض فيما إذا ما استخدمت كوريا الشمالية ترسانتها النووية كرد فعل على العدوان الامريكي. وحتى في حالة استخدامها الاسلحة التقليدية فإن هذا سيودي الى تدمير هائل للبنى التحية وقتل مئات الالاف من مواطنيها. وهذا ما يفسر وقوفها ضد الولايات المتحدة وتهديداتها بقصف كوريا الشمالية وبدء الحرب في تلك المنطقة.

وما يجب التنبه له ان البرنامج الانتخابي لرئيس كوريا الجنوبية قد احتوى وعود  بالعمل الى التوصل الى حل النزاع مع كوريا الشمالية والعمل على توحيد شقي الجزيرة الكورية . وربما مجيء ترامب الى البيت الابيض والتهديدات التي أطلقها بمحي كوريا الشمالية عن وجه الارض وإرسال قطع من الاسطول الامريكي الحامل لصوراريخ ذات رؤوس نووية الى مياه شبه الجزيرة الكورية الى جانب القاذفات ب-52 الضخمة وتحليقها في الاجواء القريبة من كوريا الشمالية وخلق أجواء الحرب قد ارعب القيادة السياسية في كوريا الجنوبية. وقد وصلت الوقاحة بالولايات المتحدة بإرسال ونصب منظومة صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ ونصبها على أراضي كوريا الجنوبية بحجة التصدي لصواريخ كوريا الشمالية دون أخذ الاذن أو إبلاغ حكومة كوريا الجنوبية بذلك. هذا الى جانب الطلب من كوريا الجنوبية ان تدفع مليار دولار ثمن هذه المنظومة مما اثار غضب الحكومة التي رأت ما يقوله ترامب ان على الدول التي تحميها الولايات المتحدة عليها ان تدفع ثمن حمايتها وعرفت كوريا الجنوبية ماذا يعني هذا ولقد رأت حلب أبقار الخليج. ومن الجدير بالذكر أن كوريا الجنوبية ومنذ انتهاء الحرب الكورية عام 53 لم تقم بدفع اية مبالغ تجاه التسلح وكانت الولايات المتحدة تتكفل بدفع تكاليف إقامة القواعد الامريكية على اراضيها والتي لا تمتلك كوريا الجنوبية الحق في مساءلة الولايات المتحدة على هذه القواعد وما يجري بداخلها.

ويبقى السؤال هل ستترك الولايات المتحدة الامور تجري لصالح الكوريتين وتقبل بهذا التقارب الذي سيفتح آفاق تحقيق السلام في شبه الجزيرة الكورية؟ وهل ستقبل الولايات المتحدة ان تسحب قواتها من كوريا الجنوبية في حالة توقيع إتفاقية بين الكوريتين وهي التي تستخدم أراضيها لاحتواء الصين القوة الصاعدة الاقتصادية على الساحة الدولية؟ الذي يبدو ومن خلال تصريحات مستشار الامن القومي للولايات المتحدة بولتون ان أمريكا ستعمل بكل جهدها وثقلها لافشال هذا التقارب ووضع اللوم على كوريا الشمالية وهذا ما سينفذه ترامب عند إجتماعه المرتقب فيما إذا تم مع رئيس كوريا الشمالية قريبا. وهنالك حملة إعلامية من قبل الصحافة الرسمية الامريكية الى جانب بعض مراكز الفكر الذي تروج للصدام مع كوريا الشمالية والتشكيك في نواياها والقول بأن الرئيس كيم جونغ أون يسعى لكسب مزيد من الوقت لاتمام برنامجه النووي. على ما يبدو ان زيارة ترامب الى شبه الجزيرة الكورية تهدف الى وضع الشروط التعجيزية على الكوريتين وخاصة على كوريا الشمالية لافشال التقارب بينهما الى جانب تبيان على ان الولايات المتحدة ليست بعيدة عما يحدث في شبه الجزيرة من تطورات وأن لها يد في ذلك وما زالت تلعب دورا فاعلا ووازنا. بينما المعروف والثابت ان الولايات المتحدة لم يكن لها يد في الاجتماع الذي عقد بين القيادتين في شطري البلد الواحد الذي مزقته الدول الامبريالية في الحرب الكورية.

بالاضافة الى ما ذكر هنالك نقطة إضافية متعلقة بالاتفاق النووي الايراني. ما يجب ان يذكر انه بغض النظر عما سيكون موقف الرئيس ترامب من الاتفاق النووي الايراني الموقع بين إيران والستة دول الكبرى فإنه من الواضح من التصريحات ومواقف الدول الاوروبية الفاعلة المتمثلة بالمانيا وفرنسا وبريطانيا أن ادارة ترامب تقف لوحدها الى جانب الكيان الصهيوني والسعودية ضد الاتفاق وتريد فرض عقوبات جديدة أو إرجاع العقوبات التي كانت قبل توقيع الاتفاقية عام 2015 . بمعنى ان الولايات المتحدة تقف الى حد كبير معزولة عالميا ضمن هذا الاطار حيث يقف “المجتمع الدولي” في مجلس الامن والامم المتحدة ضد الموقف الامريكي ويرى الخروج عنه يشكل خطرا على الامن الدولي. وبالرغم من المحاولات المستميته للادارة الامريكية لجر دول الاتحاد الاوروبي لتبني مواقفها لا انها لم تفلح في هذا لغاية الان. ويجب ان نذكر بأن الدول الاوروبية وخاصة المانيا وفرنسا والى حد أقل بريطانيا قد مضت على عقود بعشرات المليارات مع إيران وهذا ما يجعلها أكثر تمسكا بالاتفاقية هذا الى جانب ان الانسحاب من الاتفاقية قد يؤدي الى تدهور الاوضاع الامنية والعسكرية وزعزعة الاستقرار والامن في منطقة إستراتيجية أقرب الى أوروبا منها الى أمريكا وما قد يجلب هذا من كوارث على الدول الاوروبية من الهجرة الغير شرعية الى جانب اللاجئين وتهديد أمن الطاقة الاوروبي.

في النهاية نقول ان أمريكا وخاصة تحت إدراة ترامب قد خرجت أو اخرجت نفسها نتيجة السياسة الخارجية التي تميزت بالغباء لعدم فهمها جملة التطورات والتغييرات على الساحة الدولية وتعنتها وعنجهيتها ورعونتها وعدم قبولها بالوقائع على الارض وتتصرف كالنعامة التي تطمر رأسها في التراب لكي لا ترى حقيقة ما يدور أو تقبل نتائجه. وهذا ما أدى ويؤدي وبشكل تدريجي لمزيد من عزلتها على الساحة الدولية. وهذا ليس حلم أو تمني بل هو حقيقة قائمة على الارض كما تشهد الكثير من الاحداث في أكثر من بقعة في العالم.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023