حاضنة الشرق تعود من جديد…بقلم حازم عواضي

حاضنة الشرق تعود من جديد…بقلم حازم عواضي

بمنطق الجغرافيا يمثل الشرق والغرب مجالان حيويان يقسمان العالم،  شهدا تطورات وتحولات حضارية  كبرى على مر التاريخ، أثرت بصورة كلية على  المشهد الحضاري للمشترك الإنساني . كما أنهما مصطلحان تختفي وراءهما الإستراتجيات والسياسات، الفلسفات والثقافات والتي رسمت خاصيات العلاقة بينهما، فكانت تراوح بين التنافس الى ما بعد حدود الصدام وتثاقف الى درجة الإنصهار. وإن كان الغالب في هذه العلاقة في عصرنا الحديث هو الصراع، فإن تجليات  الشد والجذب بين المجالين ضاربة في عمق التاريخ وهي أحد سيماته التي تشير إلى إسهامات كلا الطرفين في الحضارة الإنسانية  من جهة وفي مآسيها من جهة أخرى .

منذ فجر التاريخ أمسك الشرق بمشعل الحضارة وكان  ورشة متنوعة، شكلت كيانات حضارية قوية بمقاييس العالم القديم . ولا تزال آثار تلك الحضارات ماثلة إلى اليوم، تتنفس بريق أعين الزوّار والسوّاح وتمدُ عشاق التاريخ وكُتابه مداد أسرارها وريشة عظمتها. فقد أظهرت الحضارة الفرعونية جانبا مما بلغه الشرق القديم من إزدهار وإتقان لفنون المعمار وآلهندسة، فمثلت وحدها ثلث آثار العالم. بينما يكتنز العراق وبلاد ما بين النهرين  أقدم الحضارات التي شكلت منطلقا لتطور الحياة البشرية وتَنظُمها، فمن كهف شاندر ما قبل التاريخ مرورا بحيكال السومري وسرجون الأكادي موحد العراق بلاد الرافدين كان المهد، ومن بوابة عشتار تربع الملك حموراي فوق الحدائق المعلقة فوضع الشرائع والقوانين المُنطمة للناس، ثم ظهر على مسرح الشرق القديم الشعب الفينيقي ”سادة البحار  الذي نقل إبداعات حضارات هذا الشرق إلى مستوى العالمية بسبب التجارة والإبحار وجعل هذا الإرث في متناول الحضارات الأوروبية القديمة ولا سيما  منها  الإغريقية.ثم تلاقحت وتنافست الحضارات فيما بينها فظهر الفرس شرق بلاد الرافدين متأثرين بحضارات الساميين والصينيين القدامى اللذين هيمنوا على شرق آسيا ثقافيا بالأدب والموسيقى وفنون الدفاع عن النفس والدين ، مشكلين بذلك القيم  والفلسفة الآسيوية فظهرت الكونفوشسية وزرادشتية وغيرها من المعتقدات…و مرت العصور وإنكفأ الشرق وغرق في الأساطير وتعطلت القدرة على الإبداع لتسمح المجال لروما وأثينا فطوروا الأدب والعلوم …  وجاءت حقبة الإسلام لتبرزأهمية حركة الأنبياء وتأثيرها في هذا الشرق العظيم والعالم من جهاته الأربعة وقادت هذا التراكم الحضاري   لتؤكد على عمق الثقافات الشرقية التي خدمت المشترك الحضاري الإنساني.

وتلك الحضارات نداولها بين الأمم، سنن التاريخ، تضع الإنسانية في موعد تاريخي جديد تمثل في نهضة فكرية إجتاحت أوروبا إنطلاقا من إيطاليا بين  القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر أثمرت ثورة صناعية بأنجلترا 1750ـ1850 تزامنا مع ثورة التنوير في فرنسا 1789ـ1799 ..غيرت مجرى التاريخ وأعطت للغرب كل أدوات السيطرة والريادة على مستوى العالم .

كان ينبغي أن ننتظر نتائج  الحرب العالمية الثانية 1939ـ1945 وما ترتب عنها كي يشهد العالم بزوغ نجم أمريكا كقوة ليبرالية رأسمالية  ستتزعم الغرب وتنافس الإتحاد السوفياتي الذي تزعم معسكرالشرق بعد الثورة البولشفية 1917 . وفي ظل غياب حرب معلنة بين القطبين خيظت حروب الوكالة والدعاية والتحرش السياسي والإقتصادي بينهما، متزامنة مع  تسابق في التسلح والعسكرة والتهديد . وجاءت سنة 1991 وإنتهت الحرب الباردة كما سماها “جورج اورويل“ وإنهار الإتحاد السوفياتي المثغن بالأزمات رغم مبادرتي الإنقاذ  البريسترويكا ـ غلاسنوت  تاركا  الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة، في عالم أحادي القطب.

ذهب العقل الأمريكي بالعالم إلى أقصى حدود الإستغلال متفننا في إستنباط وسائل والطرق الهيمنة المتراوحة بين الصلبة وناعمة، وكان له اليد العليا في إدارة العالم وفرض أسلوبه وإستراتجياته الامبريالية وقد دفع الشرق  الفاتورة الأضخم بين الامم كما لم تصمد أوروبا امام هذه العولمة فالاختارت الانصهار .

في الأثناء ومنذ سنة 1949 كان “الرئيس ماو“ ينسج تفاصيل الجمهورية الصين الشعبية ببأس ثوري شديد، حملت تجربته إخفاقات وتجاوزات، مع إنجازات كبيرة وإصلاحات عميقة، كما إتسمت  بإنفجارسكاني رهيب سيجعل من الصين ثقل ديمغرافي كبير سيكون من أهم مميزات قوتها وحضورها الدولي  مستقبلا  كدولة عصرية دينامكية ومصنعة . وجاءت سنة 1972 معلنة سياسة إنفتاح الصين نحو العالم إثر إستقبال ماو سيتونغ لرتشارد نيكسون رئيس أمريكا في بيكين، وقَبْلَها بسنة تم إعادة مقعدها الدائم مع الدول الخمس في الأمم المتحدة .

في العشرية الأخيرة ومنذ 2001 إشتغل الصنيون تدريجيا على تغيير هيكل الإقتصاد بلدهم من “المصنع العالمي “ إلى قوة عالية التقنية، تصدر رأس المال خارج البلاد مع إشراك أكبر عدد ممكن من الدول، فتأسست مجموعة البريكس سنة 2009(برازيل ـ روسيا ـ الهند ـ الصين ـ جنوب إفريقيا)، وحديثا طورت في معاملاتها لتشمل دول ما بعد الاتحاد السوفياتي وجنوب شرق آسيا وجنوب آسيا وشرق أفريقيا،ولم تعد تقتصر معاملاتها التجارية  على الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة…و بدأت تظهر معالم تغيّر في الخارطة الإقتصادية للعالم بعنوان كبير لطريق الحرير الجديد “الحزام والطريق“ ووجدت بعض الدول مقاربة تخفف من سطوة العولمة التي تتحكم بخيوطها الإدارة الأمريكية، كما صمدت بعض الدول الأخرى أمام العقوبات والتحرش الغربي عليها.

بدأ الربيع العربي كحلم تَنْفَذُ عبره الشعوب العربية  للحرية ثم الإزدهار، لكنه سرعان ما إنقلب إلى كابوس أسقط دول  بعينها في دوامة الإرهاب الموجه والإستنزاف الطويل، المدعوم غربيا والممول خليجيا، بغية إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على شكل كونتنات ضعيفة على عدد القوميات والإثنيات. كان هذا مخططا أمريكيا صهيونيا إصطدم بصخرة الشام  وأسقطه محور المقاومة، صمود سوريا في الحرب الكونية التي شُنت عليها كان بمثابة منعرج تاريخي، دفع بروسيا بوتين للعودة الى الأضواء العالمية كقوة عسكرية مناهضة للهيمنة الأمريكية،  كما أخرج الصين من قمقمها ليبرزها كدولة عظمى لها رؤيتها الإستراتجية المنحازة للموقف الروسي،فكان الفيتو المزدوج في مجلس الأمم المتحدة سنة 2012 الرافض للقرارت الأمريكية ـ الأوروبية في ما يخص سوريا، الإشارة الواضحة لهذا المنعرج الذي ينبأ بزوال أحادية القطب ويمهد لإصطففات جديدة وتوازنات مختلفة على ما عهدناه، تعيد لشرق بريقه ومكانته في عالم متعدد الأقطاب زادت في تعجيل تشكله جائحة كورونا وما تبعها من أحداث أبرزها الحرب الروسية الأطلسية على الأراضي الأكرانية  أثبتت أن النظام الدولي القائم الذي تقوده أمريكا قد دخل مرحلة العجز وربما الإحتضار.

لا نقول سرا ولا نضرب الكف ولا نقرأ قاع الفنجان، حينما نقول أن العالم يتشكل من جديد وكأن الأحداث تقوده إلى مستقر ما، تنكمش فيه الهيمنة المنفردة لصالح التعاون المشترك، الشرق وآسيا ينهضان من جديد بأبواب مفتوحة، أقطاب إقتصادية تشكلت تضم أسواقا مهمة وأقطاب تتشكل تمثل مصادر لإستثمارات كبيرة، البريكس، الاتحاد الأوراسي، منظمة التعاون الإقتصادي آسيا والمحيط الهادي، منظمة شنغهاي للتعاون، منظمة آسيان …إضافة إلى التعاونات الثنائية أو الثلاثية بين البلدان المتحررة والسيادية كلها تمثل أفاقا جديدة وتطلعات تتجول في مساحة جغرافية كبيرة وغنية وتضم أكثرمن نصف سكان العالم…

كنت قد تساءلت في أحد المقالات السابقة هل يكون للعرب دورا في ظبط نواميس العالم الجديد والإنخراط فيه بتشكيل قطب إقتصادي يعيد هندسة مستقبل الشعوب  العربية ويعطيها دورحضاريا. هذا التساؤل مازال قائما، هو فالحقيقة حلم أو لنقل رؤية ربما تتحقق يوما، أظيف إلى هذا التساؤل شيئا من الواقع، هل ينتبه العرب إلى هذا آلموعد التاريخي ويُنظر إليه بأبعاد إستراتجية فيتوجهون شرقا ومدلول هذا المصطلح يتجاوز آسيا ليصل معه أمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوب شرق آسيا.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023