“ضربة القرن” تنسف مشروع “صفقة القرن”…بقلم أ. د. فريد حاجي

“ضربة القرن” تنسف مشروع “صفقة القرن”…بقلم أ. د. فريد حاجي

يعدّ مشروع صفقة القرن 2018م، من مشاريع تصفيّة قضيّة فلسطين، وهي من إخراج أمريكا وحظيت بتأييد الغرب عموما، وبعض الأنظمة العربيّة الرسميّة. صفقةٌ جاءت لإسكات الصّوت العربي الحالم بدولةٍ فلسطينيّة مستقّلة، عاصمتها القدس الشريف، صفقة لإغلاق ملفّ حقّ عودة اللاجئين، صفقة لإبعاد العالم عن فكرة التمسّك بحلّ الدّولتين على أساس حدود 1967م. صفقة وضعت حدودا جديدة على الجميع الامتثال لها، بمن فيهم أصحاب الأرض مقابل امتيازات يتكفّل بها العرب لصالح دولة الكيان. وبالنتيجة، صفقة تنتهي بسلب تامّ ونهائي لأرض فلسطين ولهويّتها العربية الإسلامية.

لقد كشف الكاتب الإسرائيلي “دانيال مورغانش تيرن” طبيعة الصفقة في مقاله المعنون “ليست واحدة ولا اثنتين، بل ثلاثة” في صحيفة “هآرتس” بتاريخ 15/07/2017م، إذ قال: “… سعيُ أمريكا لتقسيم فلسطين، إذ تضمّ مصر قطاع غزّة إلى سيادتها، مقابل حصول الأردن على أجزاء من الضفّة الغربيّة، وضمّ باقي أجزاء الضفّة للكيان”.

هذه الصّفقة، تضمّنت أيضا عقوبات مفادها؛ أنّه في حال رفضت حماس ومنظّمة التحرير الصّفقة، فإنّ أمريكا سوف تلغي كلّ دعم مالي للفلسطينيّين وتعمل على منع أيِّ دولةٍ أخرى من مساعدتهم. وإذا وافقت المنظّمة على شروط الاتّفاق وتمنّعت حماس أو الجهاد الإسلامي، يتحمّل التّنظيمان المسؤوليّة، وفي حال أيّ مواجهةٍ عسكريّة بين حماس والكيان، ستدعم أمريكا هذا الأخير لإلحاق الأذى شخصيّا بقادتيهما، ولن تقبل أنّ يتحكّم عشراتٌ فقط بمصير ملايين البشر.

والجدير بالتّنويه، أنّ قطاع غزّة شكّل للكيان مرضا مستعصيّا علاجه. لذا، لم يبق أمامه إلّا العودة إلى المشاريع القديمة، وهي ترحيل ساكنته، باعتباره أنجع حلّ يفتح للكيان آفاق الحياة الآمنة في منظوره، خاصّة أنّ أمامه تجربة التّرحيل الجماعي في العام 1948م. لكن ذلك يقتضي التخلّص من المتمسِّكين بمقاومة الاحتلال.

لذلك، تعرّض قطاعُ غزّة لعدوان متكرّر، مثل عمليّة الرّصاص المصبوب (2008-2009)، وعامود السّحاب (2012)، والجرف الصّامد (2014)، ومعركة صيحة الفجر (2019)، وحارس الأسوار (2021)، والفجر الصّادق (2022) وصولا إلى السّيوف الحديدية وهو العدوان الذي يجري الآن كردّ على طوفان الأقصى.

من ناحيّة أخرى، ينظر الكيان إلى القطاع والضفّة الغربية كخطر إستراتيجيّ، وتهديد لفكرة الدّولة اليهوديّة، إذ سبق لــ”بن غوريون” أن قال: “… العرب يجب ألّا يظلّوا هنا، وسأبذل قصارى جهدي لجعل العرب في دولة عربية”، وهو ما يعمل الكيان على تجسيده اليوم من خلال عملياته العسكرية في القطاع والضفّة الغربيّة، وبرعاية أمريكيّة، وتحت غطاء بعض الدول العربية.

من ثمّ، فإنّ ما يجري في غزّة والضفّة هو المسعى إلى تجسيد “صفقة القرن”، عبر عمليّة التهجير التي تنسجم مع قانون القوميّة العنصري للكيان؛ إذ أنّ مبدأ إقامة دولة يهوديّة، معناه تهجير الشعب الفلسطيني بأكمله، أو على الأقلّ معظمه، ومنذ الانتداب البريطاني، وخاصّة بعد قيام الكيان العام 1948م، لم تتوقّف عمليّةُ التهجير وقضم الأراضي وتهويدها، وذلك بموجب خطّة منهجيّة وضعها الكيان في 10/03/1948 عُرفت باسم الخطّة “د” أو “دالت”، وأفضت إلى اقتلاع نحو 800,000 فلسطيني وفلسطينية من أرضهم وترحيلهم خارجها، وتدمير قراهم. وعن مصير القرى المهجَّر أهلها، يقول “يسرائيل شاحك” (1933-2001م): “…إنّ الحقيقة حول القرى العربية التي كانت موجودة قبل العام 1948 ضمن نطاق الأراضي المُقامة عليها دولة إسرائيل، تعدّ من أشدّ الأسرار صونا في الحياة الإسرائيلية، فلا توجد نشرةٌ أو كتابٌ أو كرّاس يتحدّث عن عددها أو مواقعها وهو أمرٌ متعمّد، كي تصبح أسطورة “بلاد فارغة” رسميّة (أي أرض بلا شعب)، وعندها تكون قابلة للتعليم في المدارس الإسرائيلية ولروايتها للزوار والسياح”. كما ذكر قائمة بأسماء 385 قرية قام الكيان بهدمها وإزالة جميع معالمها من أصل 475 قرية كانت موجودة قبل العام 1948م.

مع ذلك، لم يستسلم الفلسطينيون بمختلف أطيافهم ومشاربهم للأمر الواقع، فقاوموا الاحتلال بما أوتوا من قوّة، طوال الفترة الممتدّة من 1948 إلى غاية توقيع اتفاقيّة “أوسلو” بين الكيان ومنظّمة التحرير في سبتمبر 1993، لكنّ جزءا من شعب فلسطين ظلّ – وما زال- يقاوم الاحتلال إيمانا بعدالة قضيّته، وهو لا يرى سوى الوعود والتّسويف، ولم يتحقّق منها شيء. وبالرّغم من هُلاميّة القرار (242) وافقت عليه منظّمة التحرير العام 1988م، ومع ذلك، ظلّت أمريكا تضع شروطا تلو الأخرى، منها مثلا (نبذ الإرهاب، قبول بحكم ذاتي خلال فترة انتقالية، اعتراف بالكيان، إلغاء مواد من الميثاق الوطني للمنظّمة، عدم التصالح مع حركة حماس…). مقابل ذلك، تفاوض لا ينتهي وتوسّع استيطاني لا يتوقّف.

المؤسف، أنّ بعض إخوانهم العرب تواطئوا مع العدوّ، أمّا حركته الوطنيّة “فتح” التي عوّل عليها لاسترجاع أرضه وسيادته فقد أخرجت اللّاجئين من إستراتيجيتها بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو. وما يزيده إيلاما، استمرارُ مسلسل التآمر لوأد قضيّته إلى الأبد، كيف لا وقرارات مجلس الأمن باتت جثثا هامدة، وطبْخا لمشاريع التهجير، وقضما للأراضي. وقد ضاق صدره لمعيشة الضنك، وحصار لا يطاق، وحريّة مسلوبة، وتهديد للهويّة.

 

ما يجري في غزّة من مذابح مروّعة، وتهجير قسري، واصطياد للعزّل بالطائرات وتدمير للبنى التحتيّة دون استثناء لاستحالتها إلى حيّز جغرافي غير قابل للحياة، يدخل ضمن مشروع التّصفية. وما يؤكّد المسعى، تلك المساندة المطلقة للكيان من أمريكا مبتكرة صفقة القرن والغرب عموما والخَدَمُ من العرب.

 

لهذه الاعتبارات، لم يكن أمام الفلسطيني سوى ما وصفه بـ”ضربة القرن” في السابع من أكتوبر 2023، لأنّ الحقَّ يُؤخذ انتزاعا، وليس بالمهادنة والتوسّل، وما قام به الفلسطيني ليس بِدعا، وأبى أن يكون استثناء في دفع ضريبة الدّم والبذل والتضحيّة والمجاهدة كعربون من أجل تحرير الوطن من دنس الصهاينة. وكما قال “شوقي”:

وما نيلُ المطالب بالتمنّي

ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا

لقد رأى الفلسطيني، أنّه الطريقُ الأوحد إلى الحريّة، ووضع حدّ للحالمين بتصفيّة قضيّته، وما يجري في غزّة من مذابح مروّعة، وتهجير قسري، واصطياد للعزّل بالطائرات وتدمير للبنى التحتيّة دون استثناء لاستحالتها إلى حيّز جغرافي غير قابل للحياة، يدخل ضمن مشروع التّصفية. وما يؤكّد المسعى، تلك المساندة المطلقة للكيان من أمريكا مبتكرة صفقة القرن والغرب عموما والخَدَمُ من العرب.

وبغضّ النظر عن هيمنة أمريكا على النظام الدولي بكلّ مؤسّساته، ثمّ استمالتها لبعض دول الطّوق، وبعض دول الخليج وتأكّدها من قبضتهم على شعوبهم، فإنّ ما شجّعها أيضا على مسعى تمرير صفقة القرن هو أنّها خبِرت الشّارع العربيّ بشكل عام، انشغال بلقمة العيش، ونظرة وطنيّة ضيّقة، ولامبالاة بما يشكّل الضّمير الجمعي، وروح الانتماء. وبالتالي، يكفيها التصريحات والوعود والتسويفات، وأنّ كلّ الّلعبة في يدها كما أوصى بذلك السادات!؟ لاحتواء غضب هذه الشّعوب؛ وهي مستمرّة في هذا النهج، فعندما صرّح وزيرا الكيان يوم 03/01/2024 بضرورة تهجير سكّان غزّة، ردّت خارجيّتُها، مطالِبة بسحب تصريحيهما فورا، وأنّها ترفض التهجير، فقط أنّها ترفض بقاء حماس. لكن، أليست هي صاحبة الصفقة أساسا!؟ إنّه نفاق بواح كنفاق خدَمها من بعض حكّام العرب.

لذا، فإنّ “ضربة القرن” على حدّ تعبير “أبو عبيدة” جاءت لتقول: كفى تصريحا، وتسويفا، وكذبا، ونفاقا، وضحكا على الأذقان، لتقول –كما جاء في نشيدنا الوطني: وعقدنا العزم أن تحيى الجزائر- لا شيء غير تحرير أرض فلسطين لتكون حرّة، أبيّة، فلسطين ذات الهويّة العربية الإسلامية، فلسطين مسرى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلسطين بقُدسها ومسجدها الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين، لتقول للمتآمرين على فلسطين منذ أواخر القرن 19م، وللمطبّعين والمستسلمين مثلما قال”ليون تروتسكي”: أنتم مفلسون، اذهبوا إلى حيث تنتمون من الآن فصاعدا، إلى مزبلة التاريخ. ويكفي ضربة القرن، أنّها أعادت للرّأي العامّ العالمي وعيه، واستفزّت فيه الضّمير الإنساني وأسقطت الأقنعة عن الكثير من النّخب والبعض ممّن يسمّون أنفسهم “دُعاة”. بكلمة واحدة: أليست ضربة القرن، هي التي بعثت الرّوح في القضيّة -وأراد المتآمرون تحويلها إلى الأرشيف- لتُصبح محطّ أنظار العالم كلّه؟

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023