عالم اللامساواة: التفاوت في التقدم في العالم (ج-2)…بقلم د. فتحي بوليفه

عالم اللامساواة: التفاوت في التقدم في العالم (ج-2)…بقلم د. فتحي بوليفه

 2- عوامل التفاوت في التقدم

لئن اختلف تفسير التفاوت في التقدم فإنّه يعزى عموما إلى عوامل متّصلة بالوضع الذاتي لبلدان الجنوب و أخرى لها صلة بطبيعة العلاقة التي تربطها ببلدان الشمال المتقدّمة.

2-1-  العوامل البشرية     

2-1-1- وضع ديمغرافي مكبل للتنمية بالبلدان النامية

يسهم تباين خصوصيات الرصيد البشري الديمغرافية بين بلدان العالم في تفسير تفاوت درجات تقدّمها فخلافا للبلدان المتقدّمة الحالية التي تزامنت فيها فترة النموّ الديمغرافي السريع مع النموّ الإقتصادي المتولّد عن الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر و بلغ أغلبها مرحلة النضج الديمغرافي، تمرّ أغلب البلدان النامية بمرحلة الإنتقال الديمغرافي. و يفرض النمو الديمغرافي السريع على الرغم من تقلّصه النسبي الحديث ضغطا كبيرا على موارد هذه البلدان إذ يستوجب توظيف نسبة عالية من الناتج الداخلي الخام للإستثمارات الديمغرافية لتلبية حاجات مجتمعاتها الفتيّة و هو ما يحدّ من حجم الإستثمارات المخصّصة للأنشطة المنتجة.

2-1-2- ضعف الموارد البشرية بالبلدان النامية

لم تضمن التجارب التنموية نموّا إقتصاديّا سريعا و متواصلا و توزيعا عادلا للثروة في العديد من بلدان الجنوب فأضحى ضعف الناتج الداخلي الخام للفرد و انتشار الفقر يعيقان تكوّن سوق إستهلاك وطنية تدعم العمليّة التنمويّة على غرار ما هو سائد في البلدان المتقدّمة . كما تعرقل نقائص الوضع الصحي و لا سيما التعليميّ ببلدان الجنوب علاوة عن هجرة اليد العاملة المؤهلّة و خصوصا هجرة الأدمغة التي استنزفت طاقات هذه البلدان من الكفاءات، صيرورة التنمية وهو ما كرّس تواصل التبعيّة تجاه الشمال.

                                           

2-2- الهيمنة الاقتصادية و التقسيم العالمي للعمل

2-2-1- الهيمنة الاقتصادية و التبعية

يعزى التفاوت في التقدّم بدرجة كبيرة إلى وضعيّة الهيمنة التي فرضتها البلدان المتقدّمة ولا تزال على البلدان النامية . فبعد الإستغلال الإقتصادي الذي شهدته عديد بلدان الجنوب إبّان الفترة الإستعمارية، أدّى توسّع الرأسماليّة إلى تطوّر غير متكافئ لبلدان العالم أحرزت ضمنه البلدان الغربية الرأسمالية التقدّم بينما ظلّت البلدان النامية الحالية رغم تحقيقها الإستقلال السياسي خاضعة في معظمها للهيمنة الإقتصادية. و تعدّ التبعيّة الإقتصادية و التكنولوجيّة وحتى السياسية الملازمة لهذه الهيمنة إحدى معيقات التنمية بالبلدان النامية. و يواجه العديد من بلدان الجنوب منذ التسعينات صعوبات للإنخراط في العولمة، و الإندماج في النظام التجاري العالمي، و هو ما عمّق الفارق بينها و بين البلدان المتقدّمة.

2-2-2- تقسيم عالمي للعمل غير متكافئ

أرست البلدان المتقدّمة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية و إلى بداية السبعينات تقسيما عالميّا قديما للعمل استأثرت ضمنه بإنتاج و تصدير المنتجات الصناعيّة بينما اختصت البلدان النامية في تصدير الموادّ الأوليّة. ومنذ بداية السبعينات أقامت البلدان المتقدّمة تقسيما عالميّا جديدا للعمل سيطرت ضمنه على إنتاج و تصدير الخدمات و المنتجات الصناعيّة ذات القيمة المضافة العالية. ولئن طوّرت بعض البلدان النامية صادراتها من هذا الصنف من المنتجات، فإن أغلبها ظلّ يصدّر المنتجات المعمليّة ذات القيمة المضافة المتوسّطة و الضعيفة أو اختصّ على غرار البلدان الأقلّ تقدّما في تصدير المواد الأوليّة الفلاحية و المنجميّة. و نظرا إلى اقتران انخفاض أسعار المواد الأوليّة على المدى الطويل بارتفاع أسعار المنتجات الصناعيّة، تأثرت عديد بلدان الجنوب بتدهور طرفي التبادل وهو ما زاد في هشاشة اقتصادها و حال دون تحسّن مستوى التنمية بها.

 3- محاولات الحد من التفاوت في التقدم

تضافرت جهود البلدان النامية و تدخّلات المنظّمات الدوليّة من أجل الحدّ من التفاوت في التقدّم الذي بات يسم المجال العالمي.

3-1- تنوع تجارب التنمية في البلدان النامية

سعت البلدان النامية منذ بداية القرن العشرين إلى تحقيق التنمية و حاول أغلبها محاكاة مسار التنمية الذي اتبعته البلدان المتقدمة و ذلك بالتعويل على التصنيع ضمن نماذج تصنيع متعاقبة، قبل أن يتبنى جلها اقتصاد السوق و الانفتاح الاقتصادي منذ أواسط الثمانينات.

3-1-1- السياسات التصنيعية بالبلدان النامية

طبقت البلدان النامية ثلاثة نماذج تصنيع متعاقبة لئن حققت بعض النجاحات فإنها ولدت صعوبات فرضت على هذه البلدان تجاوزها و تغييرها. فقد تبنت بعض بلدان أمريكا اللاتينية كالبرازيل خلال الثلاثينات من القرن العشرين نموذجا ذا توجه ليبرالي استند إلى التصنيع المعوض للتوريد[1] مكنها من إنشاء صناعة استهلاكية وطنية استفادت من السياسة الحمائية التي طبقتها الدولة. غير أن هذا النموذج لم يفض إلى إقامة قاعدة صناعية متكاملة كما اصطدم بالعديد من العراقيل وهو ما فرض التراجع عنه.

محاكاة تجربة الاتحاد السوفياتي الاشتراكية كطريق لتحقيق التنمية فطبقت نموذج الصناعات المصنعة[2] الذي عول على ما تملكه الصناعات الثقيلة من مفعول حث لدفع التنمية الاقتصادية. إلا أن الأزمة المالية التي أدى إليها هذا النموذج فرضت التراجع عنه مع بداية السبعينات.

انتهجت البرازيل و المكسيك و “التنينات” و “النمور” الآسيوية منذ أواسط الستينات من القرن العشرين ثم العديد من البلدان النامية الأخرى خلال السبعينات نموذج تنمية ليبرالي راهن على التصنيع الحاث على التصدير[3] لتطوير صادرات منتجات الصناعات المعملية البسيطة ثم تسلق عالية الانتاج الصناعي. وظف هذا النموذج عديد المزايا المحلية كما عول على الاستثمار الخاص المحلي و الأجنبي. و لئن نجحت هذه البلدان في التحول إلى بلدان صناعية جديدة فإنها أضحت كأغلب البلدان التي طبقت هذا النموذج تبيعة لأسواق البلدان المتقدمة و متأثرة بتغير اتجاهات أدفاق الاستثمار الأجنبي المباشر، كما شهد بعضها مثل المكسيك أزمة مالية حادة خلال الثمانينات.

3-1-2- الانفتاح و برامج الاصلاح الهيكلي و الانخراط في العولمة

اضطرت أغلب البلدان النامية منذ أواسط الثمانينات إلى قبول وصفة صندوق النقد الدولي نتيجة لما أفضت إليه نماذج التصنيع من ارتفاع لمديونيتها فطبقت برامج الإصلاح الهيكلي[4] التي دفعتها إلى الانخراط في اقتصاد السوق و فرضت عليها الانفتاح الاقتصادي. و تعمل البلدان المتقدمة و شركاتها العبرقطرية في إطار المنظمة العالمية للتجارة و عن طريق المنظمات الدولية على إقناع بلدان الجنوب بمزيد الانخراط في العولمة للاستفادة من مزاياها. غير أن حظوظ هذه البلدان في الاستفادة من النظام التجاري العالمي تبدو متفاوتة في ظل عولمة تتنافس ضمنها بلدان الجنوب لاستقطاب الشركات العبرقطرية و استثماراتها.

3-2-  دعم المنظمات الدولية لمجهودات التنمية

تعاضد المؤسسات و الهياكل التابعة لمنظمة الامم المتحدة جهود دول الجنوب في محاولاتها لتقليص الهوة في التقدم الذي يفصلها عن البلدان المتقدمة.

3-2-1- المنظمات الدولية و التنمية خلال القرن الواحد و العشرين

صادقت البلدان الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة سنة 2000 إعلان “التنمية للالفية الثالثة” الذي تضمن جملة من الأهداف حددت سنة 2015 كأجل لتحقيقها. يرصد هذا الإعلان خفض حدة معضلتي الفقر و الجوع في العالم و مكافحة بعض الامراض مثل السيدا التي تهدد حياة ملايين البشر خصوصا في البلدان الفقيرة. علاوة على ذلك يهدف الإعلان إلى رفع نسبة التمدرس و خفض نسبة وفيات الرضع و ضمان ظروف صحية ملائمة. يعول الإعلان على الشراكة العالمية لزيادة نجاعة المساعدة العمومية من أجل التنمية و إدماج البلدان الأقل تقدما في التجارة العالمية، غير أن تقييم إنجاز هذه الأهداف بعد خماسية من تبنيها يظهر درجة تحقق محدودة و يقر بتفاقم اللامساواة و التفاوت في التقدم بين بلدان العالم.

3-2-2- المنظمات الدولية و معضلتا الفقر و التداين 

تركز المنظمات الدولية جهودها على البلدان الأقل تقدما نظرا لحدة المشاكل التي تعاني منها وهو ما مكن من خفض نسبة الفقر المدقع مقارنة بما كانت عليه في بداية الثمانينات و حتى تتم معالجة مشكل الدين الذي أضحى من العقبات الكأداء بالنسبة إلى التنمية ببلدان الجنوب أطلقت سنة 2005 مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون التي أفضت إلى شطب 40 مليار دولار من ديون ثمانية عشر بلدا أغلبها من أفريقيا، لكن رغم أهميته فإن هذا القرار يخفف البلدان الأقل تقدما بنسبة تقل عن الثلث و تبقى معضلة ديون بلدان الجنوب حادة إذ تزيد قيمتها عن 2500 مليار دولار أمريكي سنة 2005.

3-2-3- محاولات تقليص الفجوة الرقمية

فرض عمق الفجوة الرقمية و مطالبة البلدان النامية بحقها في الاستفادة من مزايا مجتمع الإعلام و المعرفة العمل على الحد من هذه الفجوة. في هذا السعي تعددت المبادرات فأقر مبدأ التضامن الرقمي خلال المرحلة الأولى للقمة العالمية لمجتمع المعلومات بجينيف سنة 2003 كما تم تداول مسألة تقليص الهوة بين بلدان الشمال و الجنوب في إطار المرحلة الثانية لهذه القمة التي التأمت بالبلاد التونسية في نوفمبر 2005 و تراهن منظمة الأمم المتحدة و الاتحاد الدولي للاتصالات على الشراكة بين مؤسسات القطاعين الخاص و العمومي و المنظمات الدولية للتقليص من الفجوة الرقمية بدرجة أكبر. دعت كل هذه المبادرات جهود الدول فتقلص الفارق بين بلدان الشمال و بلدان الجنوب في مستوى تجهيزات الاتصال و عدد السكان المرتبطين بشبكة الانترنت.

الخاتمة

لم تنجح السياسات التنموية التي اعتمدتها بلدان الجنوب في الحد من التفاوت بين بلدان العالم، حيث حافظت بلدان الشمال و خاصة الثالوث على مواقعها كأقطاب محركة و متحكمة في المجال العالمي، فيما لا تزال بلدان الجنوب تسعى لتحقيق التنمية.

………………………………………………………..

[1]  تعويض واردات المنتجات الاستهلاكية بالإنتاج الصناعي الوطني.

[2]  إعطاء الأولوية للتصنيع لإنشاء قاعدة صناعية وطنية متينة.

[3]  تطوير صادرات المنتجات المعملية.

[4]  برنامج اقتصادي فرضه صندوق النقد الدولي خلال النصف الثاني من الثمانينات من القرن العشرين على عدد من البلدان النامية للحد من الازمة المالية و من تفاقم المديونية و عجز الموازين الذي كانت تعانيه. يقضي هذا البرنامج بتحرير الاقتصاد و بتراجع دور الدولة و خوصصة مؤسسات القطاع العمومي.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023