فرنسا ما بين مطرقة التمرد الأفريقي وسندان المصالح الأمريكية…بقلم م. ميشيل كلاغاصي

فرنسا ما بين مطرقة التمرد الأفريقي وسندان المصالح الأمريكية…بقلم م. ميشيل كلاغاصي

 

في قارةٍ غنية بمواردها وثرواتها , اشتاقت شعوبها وبعض حكوماتها للحرية الحقيقية , ولإستعادة مكانتها وكرامتها بين دول وشعوب العالم , وقررت تحطيم قيودها , ودحر زمن العبودية , وطرد الإستعمار القديم – الجديد , وإزالة أعلامه وثكناته وقواعد جيوشه , ولتمزيق وثائق شركاته ومندوبيها ووكلائها وعملائها , وكل ما من شأنه سرقة ثرواتها الوطنية , لإخراج شعوبها من عتبة العبيد والفقراء والجائعين , إلى عتبة الأحرار والأسياد وأصحاب القرار .

نضالٌ مرير , ونخبٌ صارخة وقادة عسكريون , على رأسهم العقيد أمادو عبد الرحمن , حاصروا القصر الرئاسي واعتقلوا الرئيس محمد بازوم ، وتم إعلان الجنرال عبد الرحمن تشياني ، رئيساً للمجلس الإنتقالي ، وأعلن المجلس العسكري تأليف الحكومة الإنتقالية , وسط تأييدٍ شعبي منقطع النظير, انتقدت جماهيره دول المجموعة الإقتصادية لدول غرب أفريقيا وكل من يتخذ إجراءات غير إنسانية وغير شعبية تجاه النيجر.

لقد استنهض “الإنقلابيون شعوبهم المكسورة بالسطوة والنفوذ والقوة الغربية العسكرية لعقود وسنوات , وبحكوماتٍ نابت عن المستعمر, وتصرفت وكأنها ظله أو عصاه الغليظة , ولم تكن النيجر الأولى على سلم التمرد والهيجان , فقد سبقتها مالي وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى , ومع ذلك اعتبر البعض أن ما حدث في النيجر يوم 27 تموز/يوليو ، شكل مفاجئة غير سارة لفرنسا وللغرب عموماً , إذ يعتبر محمد بازوم , أحد رعايا رأس المال الغربي ، وهو مدين بإنتخابه رئيساً لشركة أورانو الفرنسية الدولية العملاقة ، والتي تعد الأساس لقطاع صناعة الطاقة النووية الفرنسي الرسمي , الذي يعتمد على 70٪ من إجمالي صادرات النيجر من اليورانيوم , ويشكل ما يقارب 30% من احتياجات فرنسا من رواسب اليورانيوم بالإضافة إلى مناجم الذهب والنفط الخام والغاز الطبيعي والفحم والقصدير, وعشرات الأسباب التي تجعل من النيجر محط إهتمام الدولة الفرنسية , ومعقلها الأخير في القارة السمراء بعد هزائمها وإنسحابها المذل من مالي .

شعرت فرنسا بالإهانة , وأوجعتها صفعة الإنقلاب , وأراد الرئيس ماكرون أن يكون الرد الفرنسي سريعاً , لإستعراض هيبة فرنسا أو ما تبقى منها خارجياً , والهروب من اللوم الداخلي الرسمي والشعبي , نتيجة عديد الإخفاقات الفرنسية في إفريقيا وفي عهده حصرياً , وأصدر الإليزيه بياناً حازم اللهجة , يؤكد جدية فرنسا وعدم تساهلها في “حماية رعاياها ومصالحها” .

لكن ظهور الأعلام الروسية في تظاهرات مؤيدي الإنقلاب , والتكهنات حول ما يمكن أن تقوم به قوات فاغنر , دفعت ماكرون إلى التفكير بمواجهة الإنقلاب عبر وكلائه في أفريقيا ودول المجموعة الإقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” , التي رفضت الإنقلاب , وطالبت بالإفراج عن الرئيس المخلوع محمد بازوم , وإعادته للسلطة , ومنحت قيادة الإنقلاب مهلة للتراجع تنتهي في 6 اّب/أغسطس 2023, وأعلنت عن تشكيل قوة عسكرية قوامها 25 ألف جندي لهذا الغرض , في الوقت الذي أغلقت سلطة النيجر مجالها الجوي , في خطوة تؤكد استعدادها لما هو اّت.

لم يكن حال الولايات المتحدة افضل من حال فرنسا , وشعرت مثلها بتهديد نفوذها ومصالحها , وبأنها على وشك افتتاح ساحة جديدة للصراع والمواجهة مع الصين وروسيا وكل من وقف ضدها في الصراع المفتوح في أوروبا – أوكرانيا , وعلى الرغم من إنضمامها إلى فرنسا والإتحاد الأوروبي في الإعلان عن قطع المساعدات عن النيجر, وبمحاولاتها الأولية لإظهارعدم تشنجها ومرونتها في التعامل مع هذا الوضع الخطير, وبإعلان تأييدها ودعمها لإعادة السلطة إلى الرئيس المخلوع , واهتمامها بسلامته وأسرته بالدرجة الأولى , كذلك بإعلان خارجيتها في بيانٍ عن رغبتها “بإيجاد حل سلمي في النيجر” , لكنها في الحقيقة منعت فرنسا من التفرد بالقرار, ومن تجنيد الوكلاء في حرب لم تقررها الولايات المتحدة بنفسها ووفق أجنداتها ومصالحها , وبأنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تخوض حرباً مجهولة المعالم والنتائج لأجل مصالح ونفوذ فرنسا , وانتقلت فيما بعد إلى تغيير لهجتها , ونحو مواقف أكثر تشدداً , عكست قلقها وتأنيها في حساب خطواتها القادمة بدقة , خشية خسارة أو تراجع نفوذها في القارة الأفريقية.

رغم الإدانات الدولية , والعقوبات وقطع المساعدات , وقرع طبول الحرب على النيجر , رفض اللواء عبد الرحمن تشياني الإذعان للضغوط الإقليمية والدولية لإعادة الرئاسة للمخلوع محمد بازوم , ووصف العقوبات التي فرضتها إيكواس بأنها “غير قانونية وغير إنسانية”.

ومن خلال تمديد المهلة , وعقد الإجتماعات , والإتفاق على عقد المزيد منها , يبدو أن إيكواس تتراجع أو تتريث بالتدخل العسكري , لكنها على الأرجح تنتظر القرار الأمريكي وليس الإملاءات الفرنسية المتسرعة , بالإضافة إلى كونها ترغب بالحصول على دعم الناتو قبل أن تتحرك عسكرياً , إذ تدرك دول الإيكواس أن التدخل المسلح في النيجر يعتبرغير قانوني بموجب القانون الدولي , في الوقت الذي يبقى فيه الإنقلاب شأناً داخلياً في البلاد , وسيكون التدخل بمثابة إعلان حربٍ عدوانية على النيجر.

ومن خلال التأني الأمريكي لإتخاذ القرار حول النيجر, وبعد انتهاء مهلة الإيكواس , انطلقت نائبة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية , فيكتوريا نولاند , نحو نيامي لتأكيد ما ادعته الولايات المتحدة بأنها لا ترغب بإندلاع حرباً إقليمية في أفريقيا , وأجرت عدة لقاءات مع وزير الدفاع النيجري في حكومة ما بعد الإنقلاب وهو المقرب من البنتاغون , ومع صحفيين ونشطاء في مجال حقوق الإنسان , وعدة شخصيات من المجتمع المدني , ممن تعتبرهم الولايات المتحدة أصدقائها القدامى.

لقاءات تثير الشكوك حول لجوء واشنطن لإستخدام سيناريو “الثورة الملونة” , عبر دعم دفع قوى المجتمع المدني ومثيري الشغب , للبدء بإحتجاجات واسعة , تضمن زعزعة إستقرار النيجر المستمرة بعد الإنقلاب , وتكون بديلاً عن الغزو المحتمل لمجموعة إيكواس المدعومة من فرنسا أيضاً , أعتقد أن واشنطن لن تمنح باريس أية فرصة قيادية , وتسعى لإبقائها في خانة التبعية والحاجة للولايات المتحدة , ومن جهةٍ أخرى تملك واشنطن مخاوف من اندلاع الحرب الإقليمية في أفريقيا , التي ستخلق ظروفاً قد تستغلها روسيا لتوسيع نفوذها , وهي التي تملك حضوراً قوياً في أفريقيا.

كذلك كشفت نولاند في إحاطةٍ إعلامية , عن رفض طلبها بلقاء محمد بازوم , وإبلاغها برفض الرئيس الحالي الجنرال عبد الرحمن تشياني لقائها , وبأنهم “أبلغوها تهديدهم بقتل المخلوع محمد بازوم إذا جرت محاولة للتدخل في البلاد لإستعادة سلطته” , وفي نهاية إحاطتها الإعلامية , أعربت نولاند عن أملها بأن تترك حكومة النيجر الجديدة باب الدبلوماسية مفتوحاً , في حين تعمدت كشف علاقة بلادها بوزير الدفاع الحالي “الجنرال بارمو” , الذي شارك في الإطاحة بالرئيس محمد بازوم المدعوم من الولايات المتحدة ، ومع ذلك تم تعيينه وزيراً للدفاع في الحكومة الإنتقالية المؤقتة.

أخيراً … اّن الأوان لإستعادة دول وشعوب المستعمرات الفرنسية السابقة استقلالها وسيادتها الحقيقيين , والإنطلاق بشعوبها نحو محاربة الإرهاب , والنمو والإزدهار الاقتصادي , بعيداً عن الفقر والعوز , والإستفادة والتنعم بثروات وخيرات بلادها , كذلك اّن الأوان لدول وشعوب القارة السمراء , أن تطوي صفحة الإنقلابات العسكرية , والتي في غالبيتها كانت مدعومةً من فرنسا وغير دول إستعمارية , وبأن تدعو المجالس العسكرية في نهاية المطاف إلى إجراء انتخابات ديمقراطية قدر الإمكان دون تدخل خارجي.

واّن الأوان للدولة الفرنسية أن تعيد حساباتها والتفكير في نهجها الإستعماري , وطريقة تعاملها مع دول و شعوب القارة السمراء , وأن تظهر لهم ما يكفي من الإحترام , فقد ولى زمن العبودية بكافة أشكاله القديمة والحديثة , ولتفعل فرنسا ما يليق بها , لإثبات إدعاءاتها بأنها دولة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان , في وقتٍ سقطت فيه روايتها وأقنعتها “الجميلة”, وظهر وجهها الحقيقي القبيح , البعيد كل البعد عن كل ما ادعته عبر التاريخ , وارتضت لنفسها أن تتحول عبر رؤسائها المتعاقبين , من فرنسا العظمى إلى دولةٍ هزيلة , يقودها اليوم أهوج أحمق , أطاح باّخر “زجاجات عطرها” وبسيادتها , واستبدلها بأثواب التبعية , وها هي اليوم تحصد نتاج أفعالها , وتُطرد من أفريقيا مهزومةً ذليلة , وهي على وشك خسارة كامل مصالحها ونفوذها هناك , وأوقعت نفسها ما بين مطرقة التمرد الأفريقي وسندان الهيمنة والمصالح الأمريكية , الأمر الذي دفع الرئيس ماكرون العام الماضي, لمخاطبة الفرنسيين بأن “حياة الرفاهية انتهت , استعدوا للتضحيات”.

م. ميشيل كلاغاصي

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023