فقيه قمّ في ذكرى رحيله…بقلم محمد الرصافي المقداد

فقيه قمّ في ذكرى رحيله…بقلم محمد الرصافي المقداد

الناظر في تاريخ الثورات الإسلامية، التي قامت تأسّيا بثورة أبي الأحرار الإمام الحسين بن علي عليه السلام، تتبادر إليه ملاحظة أولى، مفادها أن تلك الحركات في عمومها كانت ذات بعد إصلاحي في الأمة، لكنه رغم هدفها السّامي، لم يكتب لها أن تحققه لأسباب عديدة، أهمها تخلّفُ القواعد الجماهيرية عن طلائعها وقادتها، لانعدام الوعي بها على أنها قيادات جديرة بتنسّم تلك المكانة، ففرّطت بتلك المحاولات الصالحة، بنأيها عن ميدان المنازلة التضحية والثورة.

أما السبب الثاني فقد تعلّق بحالة رهبة تلك القواعد من السلطة، وتخوّفها من مصير سيء احتسبته، بعدما أوجده الحكام بسياساتهم العدوانية القاسية، مقابل أي شكل من أشكال المعارضة، حتى إن كانت شخصيات منفردة في مواقفها، ذلك أن أكبر خطر تهدد هؤلاء الحكام، تمثل في انتشار الوعي بالدين الإسلامي، أحكاما وآدابا وما يستوجب ذلك، من التزام بقضاياه المصيرية، المتعلقة ببقائه فاعلا ومؤثرا في مجتمعاته، ماسكا بزمام الحكم وفق أحكامه العادلة.

من هذا الاطلاع التاريخي البسيط، يتبين لنا دور الحكام السيء في تغريب الأمة على إختلاف مللها وطوائفها عن أبجديات دينها، نأيا بها عن حقوقها اسكاتا لأصوات مطالبها المحقة، ولولا أن الله سبحانه وعد في كتابه ووعده حق وصدق، أن حالة خذلان الدين وعدم الإلتزام به، يقابله من لدُنْه استبدال القوم المتخاذلين بقوم غيرهم، لا يتعاملون مع الدين تعامل المصلحة والخوف من متاع الدنيا، فقد قال تعالى: ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (1) فعندما نزلت هذه الآية على النبي سأله من سأل: من يستبدل بنا يا رسول الله؟ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبِ سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ : ” هَذَا وَقَوْمُهُ، هَذَا وَقَوْمُهُ “. (2)

هذا الوعد الإلهي الذي طالما انتظره علماء الأمة، جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، موقنين بوقوعه زمنا من الأزمنة، عالمة نُخَبُهم – في سبيل توعية قواعدها- بضرورة الإنخراط في حركة إعادة الإعتبار للمنظومة الدينية، كاملة غير منقوصة – كما أسّسها صاحبها خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله – يقينا منهم بأنه واقع لا محالة، أخيرا وبعد جهود عديدة، جاء مطلع القرن الخامس عشر من الهجرة المباركة، ليحول الوعد الإلهي إلى حقيقة ملموسة، تمثلت في نجاح ثورة إسلامية، لم يشهد لها التاريخ مثيلا، قادها عالم فقيه، نَسبُه يعود إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، من أسرة مجاهدة قدّمت في سبيل الله عائلها، فكان ذلك حافزا له على أن يواصل نفس طريق الجهاد والتضحية غير عابئ بما سيلاقيه من متاعب ومصاعب.

نجاح لم يكن ليتحقّق في زماننا، لولا ألطاف الله الحافة بشعب إيران، ورعايته لشخص الإمام الخميني رضوان الله عليه وحركته المباركة، وهو بنظر الكثيرين من أهل العلم والمعرفة والبصيرة، رجل التمهيد الحقيقي للمولى صاحب العصر والزمان، الذي تتحفّز أفئدة المؤمنين شوقا لمقدمه، وتتسابق بكل قوة وعزم من أجل تهيئة القواعد الجماهيرية للانضواء تحت رايته المباركة، ونيل شرف موالاته وبذل النّفس والنّفيس من أجل دعم حركة إصلاحه العالمية.

حركة هذا العالم الجليل والفقيه الجامع لشرائط الفقه، نابعة من المقاصد القرآنية، في إرساء ميزان القسط والعدل، الذي سيكون علامة فارقة في حياة المجتمعات الإسلامية، وسِمَةً من سمات وعيِها، في زمن سيطرت فيه على أغلب أفرادها النظريات المادّية، القاصرة عن توفير الحدّ الأدنى من الأمن والعدل، ولم يعد هناك مجال يعطي أملا بتحقيقهما سوى الإسلام المحمدي الأصيل، الذي جاء مختتما سلسلة الرسالات الإلهية، ليبشّر بقيام نظام حكمه رغم أنوف المحرّفين والمعطّلين له.

لد كانت قيادة الإمام الخميني لثورته الإسلامية، مفتاح الأمل الذي ارتفعت نسبته، في إطار استعادة أحكام الله وقوانينه العادلة، وقد فاجأ انتصاره جميع الملاحظين، وشكّل انتكاسة حادّة وخيبة في المشروع الغربي الدّاعي إلى إبقاء الإسلام جسدا بلا رأس محكوما بلا أداة حكمه، وما لم يكن يتوقعه الغرب، وعموم أعداء الإسلام المحمّدي الأصيل، تحقّق على يد هذا الرّجل العظيم بحق، وها هو النظام الإسلامي القائم على نظريّة ولاية الفقيه، ينجز أصحابه دولة عتيدة، تزداد كل يوم تألّقا وقوّة وثباتا على مبادئها.

لم تجْدِ دعايات الغرب في تشويه مشروع الإمام الخميني رضوان الله عليه، ولا نجحت مؤامراته التي افتعلها، من أجل إسقاط نظامه بالحرب والدبلوماسية الخبيثة، وفي احداث عزلة قاتلة لدولة إيران، بل لقد زادت شعبيته داخل البلاد وخارجها في محيطها الإسلامي وحتى ابعد من ذلك، فقد اقنع الامام الخميني مفكري الغرب والعالم، بأنه رجل استثنائي نادر، جاء في زمن يفتقر فيه البشر إلى نموذج، بإمكانه أن يقدّم ما يفيدهم في ظلّ هجمة الفكر المادّي، وسيطرته على مجتمعات رضيت به كيفما كان.

عودة الإسلام السياسي للحكم في هذا الزّمن، من بوابة قيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه، جعل المؤمنين بوعد الله في كتابه العزيز يستبشرون خيرا، ويعدّون أنفسهم ضمن قافلة التمهيد الحقيقي والعملي لدولة الإسلام العالمية، فليس هناك أقرب إلى التعاطي مع المصلح العالمي من قوم سلمان، وهذا الرجل الذي يمكن القول بشأنه، أنّه بثورته التي قادها، ونظام حكمه الذي أقامه، قد حقّق أمل الأنبياء ومشروعهم في حاكميّة الله.

إذا كانت هذه الثورة المباركة، وهذا القائد الفذّ، بهاذين النموذجين العظيمين، وانخراط الشعب الإيراني فهما عملا وولاء، فلماذا تراجعت بسرعة عن مناصرتها حركة الاتجاه الإسلامي  (الإخوان المسلمين) في تونس مثلا؟ هل كان الدّافع أنه بسبب أنها ثورة وقائدا أعلنا هويّتهما الإسلامية الشيعية؟ أم أنّ هناك دافعا آخر، كان وراء عزوف قادة الحركة عن تبني الفكر الثوري الإسلامي، والتراجع عن قبول قيادته، بعدما صرّحوا باللسان الفصيح ( الرسول ينتخب إيران للقيادة)(3)، يبدو أنّ الدّافع الأكبر في هذا العزوف، كان التأثير الوهابي في صلب قيادات الحركة، ما دفع بهم إلى الابتعاد عن النظام الإسلامي في إيران ومساره الثوري، لكن بالمقابل بقي بعض عناصر الحركة مُكْبِرا هذه الثورة وقائدها مستمرّا في احترامها وتقدير فكرها وجهودها، وفي هذا بصيص أمل يحدونا للتفاؤل، بأن سبيل مراجعة المواقف وتقييمها، من طرف المقدّرين للمشروع الإسلامي المعاصر، في ظلّ المعطيات العملية الحاصلة على الساحة يبقى الطّوق الباقي لإعلاء كلمة الله، وغير ذلك من الأفكار الإسلامية تبقى غير قابلة للتطبيق، في ظل تكالب القوى المعادية للإسلام على أيّ نفَسٍ إسلامي صادق بدءًا من إيران فما دونها.

رحل الامام الخميني عن شعبه ونظامه، تاركا وراءه دولة عتيدة افتكت مكانتها العالمية، بفضل رجال أكفاء، ضحّوا من أجل مبادئهم الإسلامية، وعشقهم للدين وأهله وأهدافه السامية، قرير العين بإنجازه واثقا من بلوغه ما رسمه له.

المصادر

1 – سورة محمد الآية 38

2 – سنن الترمذي أبواب تفسير القران ومن سورة محمد الآية 38

3 – مقال صدر في مجلة المعرفة سنة 1979

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023