لجلجات فيلسوف النهضة… بقلم محمد الرصافي المقداد

لجلجات فيلسوف النهضة… بقلم محمد الرصافي المقداد

دون أبو يعرب المرزوقي على صفحته، قراءته لنتائج الانتخابات الرئاسية الاخيرة بتونس، بتاريخ 2019.09.18، فجاءت اغلبها بعقلية المتفلسف المتعالي بنفسه عن الآخرين، مستشعرا ضيق البلاد فضاء البلاد بأطروحاته، فلم يسعها طولا ولا وسعها عرضا، وبقيت فقط بعينه – باعتباره احد كبار منظّري الفكر السياسي في البلاد ان صح التعريف- واجهة حركة النهضة، عروسا لا يضاهيها عريس، أو تجربة اسلامية جديرة بالرّيادة.
ابو يعرب لم يتردد في دفاعه المستميت، بأن أطلق على منتقدي عروسه ألفاظا سوقيّة، عبرت عن عقلية متعالية في الإعتداد بالنفس، كأنما خلقه الله عقلا واحدا منفردا في آرائه، لم يقم أي إعتبار أو وزن لشركاء الوطن، فقد وصفهم ب”الصبابة” زمن محنة الحركة، وب”المفرخة” في هذا الزمن، وهو لعمري سقوط أخلاقي، يحاسب عليه، وادّعاء لو أنزلناه على أرض الواقع، لوجدناه معكوسا، وأن الصبابة موجودين في حركة النهضة نفسها، كما في خارجها، وذلك متعلق فقط بضعف الأنفس، التي تقع فريسة التهديد، أو على قوة أنفس أخرى، التي تمتنع عن ذلك الدور الخسيس بأي شكل كان، والأسماء موجودة، فلا يدفعنا الرجل الى ذكرهم، من أعلى هرم الحركة الى أسفله، وإن شاء فان سجلات الداخلية، فيها يكفي لردّ التهمة من حيث جاءت.
لقد خلط ابو يعرب بين تاريخ الحركة الوطنية الإسلامية، التي بدأها الشيخ عبد العزيز الثعالبي رحمه الله، وبين تاريخ حركة النهضة، الذي لم يتجاوز نصف قرن تقريبا، فضاعفه في قراءته الى قرن، ولعله يقصد به حركة الاخوان الأم بمصر.
ان من يجب عليه توجيه اللوم في ما آل اليه الأمر الآن، هم كبار قادة الحركة، وان كنت أميل الى التخصيص بالقول، أن اللوم موجه فقط الى ربان الحركة الشيخ راشد، فهو الآمر الناهي والمقرر والمسؤول وحده، فمنه داءها ومنه دواءها، والعلة اذا أصابت الجسد من داخله، لا تلام بقية الجسد على أنها المسبب، وهو يشاطرها المعاناة، بل العاقل ان يعود إلى نفسه، فيلومها على التقصير، وظلم ذوي الحركة وأهلها لمكتسبهم السياسي، تذوقه ابو يعرب مرّا، من جهة تعاطفه معها، وليس من جهة احساسه بمعاناة الشعب، لأخطاء عادت عليه بأضرار كبيرة، وهنا اذكره بأن مصلحة البلاد هي أولى، من مصلحة حزب اخطأ مرارا، خلال ثماني سنوات، زاد فيها من حالة البلاد سوءا، وعليه ان يتحمل تبعات تلك الاخطاء.
اعتبر أبو يعرب أن ما حدث بتونس، كان بفضل حركة النهضة، وهذه مغالطة كبرى وتوهم منه، لا علاقة له بالواقع الذي يقول: إن ما حدث بتونس، كان تخطيطا غربيا محكما، في صناعة ثورة، واختيار تونس لتكون نموذجا لما سمي بالربيع العربي، تقرر لسهولة انقياد الشعب الى الفوضى، واقدامه على تدمير أي شيء يخص النظام، بينما هو في الواقع يدمر مكتسباته، وكان ذلك عنصرا لمشروع الفوضى الخلاقة التي ابتدعها الأمريكان، وبدؤوا بتطبيقها في تونس.
أغلب قيادات وقواعد النهضة، كانوا حينها خارج البلاد، موزعين على دول أوروبية، فلم يكن لهم دور يذكر فيما حصل، حتى ليلة إخراج بن علي، قسرا وليس طوعا من قصر قرطاج، وليعلم ان كانت غائبة عنه هذه المعلومة، انه اخرج تحت التهديد بالقتل، ولم يكن بن علي صنف الدكتاتوريين الذين يستسلمون بسهولة للواقع، وإحداث جانفي 1978 تبقى شاهدة على انه دموي، لا يتردد في سفك الدماء مهما كان حجمها، ان اقتضى أمر محافظته على كرسي حكمه.
الدور الذي تحدث عنه أبو يعرب، واعتبره مثالا يجب أن تحذو حذوه الحركات الاسلامية الثورية، هو دور أقل من عادي، لا يتميز في شيء مما اعتقده هو، كل ما فعلته الحركة هو تقديم العشرات من الشهداء، وآلاف من المساجين بتهمة الانتماء، والذين قضوا فترات طويلة في سجون بورقيبة وبن علي، وفترات أخرى من المراقبة الإدارية الأمنية، هؤلاء كان دفاعهم الأول عن الحركة وضريبة انتمائهم اليها، ولم يكن هناك هدف آخر للتضحية سوى اعتماد الإسلام كمنهج حياة، بمعناه المتراوح، بين الفكر المذهبي المالكي والفكر التيمي الوهابي، ولم يكن هناك توجه سياسي واضح آنذاك، سوى ما جاء في بعض كتب السنية القادمة من الشرق (ابو الاعلى المودودي/ السيد قطب/ فتحي يكن/ سعيد حوى…)، بما فيها كتابات الشهيدين محمد باقر الصدر، ومرتضى مطهري، الذين أمكن للطلبة الإسلاميين ان يكتسحوا الساحة الطلابية، بعدما كان اليسار الراديكالي مسيطرا عليها (ماركسيين تروتسكيين ماويين) فأين هو من ان تكون الحركة مثالا يحتذى في العالم العربي، او في الإقليم بحسب وصفه، وهي عالة في فكرها على علماء ومفكرين من خارج تونس، قد استعارته من مصر، ولبنان، وسوريا، والعراق، وايران؟
حتى في تقديره للثورة – وطبيعي أن يصدر منه ذلك حيث لا يملك مثالا يحتذى به في الثورات الحقيقية كثورة الإمام الحسين- رآها من وجهة نظره سلمية، بفضل الدور الذي قامت به النهضة، ولولاها لتحولت الى حرب اهلية، وهنا اساله بين من ومن؟ حيث لا يخفى عليه ان هذا الصنف من الحروب، تقع عندما تكون هناك اعراق او عقائد مختلفة، تؤدي الى الصدام بينها الى وقوع حرب اهلية.
وما نسبه إلى إيران هو مغالطة حاقد عليها، لا يملك من دليل يرجح كفة دعواه، وما عبّر به فنابع من إحساسه الخبيث نحوها، ألجأه الى الافتراء عليها بالتشويه المقصود منه، لعله يتمكن من ابعاد الناس عنها، بعدم الاهتمام بها كمشروع حكم اسلامي جاد، وصرف النظر عن قراءة تاريخها وثقافتها الإسلامية الثورية، والاطلاع على منجزاتها خلال 40 عاما داخل إيران وخارجها، والهاء المسلمين عن مشروعها المقاوم الذي اسسته بفكر قائدها الفذ الإمام الخميني  وكتابات كبار تلاميذه كالشهيدين مرتضى مطهّري ومحمد باقر الصدر، وأصبح اليوم قائما بقوة وعزيمة أهله، المؤمنين حقيقة بان واجبهم يحتّم عليهم، أن يكونوا ضمن مكوّنه وتركيبته، بما في استطاعتهم القيام به.
ولولا ايران الاسلامية لكانت القضية الفلسطينية وحركات مقاومتها في خبر كان، وهو يعلم ذلك ولكنه يستنكف أن يعترف بجهودها من أجل ابقاء جذوة المقاومة متقدة داخل فلسطين، داعمة بكل ما في طاقتها والقادة الفلسطينيون يعرفون ذلك جيدا وقد اعترفوا به مرارا، فايران واقفة وحدها في الواجهة، رافضة تماما حل الدولتين، الذي تنادي به الدول العربية.
إن كانت ايران ملالية ظلامية كما ادعى المتفلسف ابو يعرب المرزوقي، فأين يكمن الاسلام المتنوّر في نظره؟ أفي النموذج التركي وهو علماني 100%؟ أم في السعودي وهو وهابي تكفيري ارهابي 100%؟ أم في حركة النهضة وهي هجين من الافكار من هنا وهناك، لم تستقر على حال، وضبابيته قد عدمت الرؤية لأتباعه؟ هذا ان صح اقحام النهضة في مقام الانظمة، ولغة الحقد كما يعرفه العاقلون، تدفع الى الكذب والافتراء، والقول على المخالف في الرأي بغير الحق، طالما ان هناك عاطفة مريضة لم تعتصم بالله وتخشه، وكان عليه أن لا يدخل ايران في تهيؤاته وحساباته الخاطئة، حتى لا يكون شريكا في حقده مع اعدائها، اعداء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، الاستكبار والصهيونية العالميين، واتعس به من موقع اختاره.
لقد عرفنا من قبل، أن للفلاسفة منطقا غير الذي يقوله ابو يعرب المرزوقي، الذي شذ عنهم بما لم يعهده الناس منهم، فإطلاقه على من عارض حركة النهضة وانتقدها بالمفرخة، فذلك من معيب القول منه، ولا أرى من يطلق مثل هذه النعوت على منتقدي فكر أو حركة، الا شخصا قليل الأدب، أو هو فرخ بحدّ ذاته، استشعر النقص في نفسه، ولم يعد يعيبه ان أطلقه على غيره.
حركة النهضة التي اطلق عليها ابو يعرب لقب (سفينة نوح) على أساس أنها قمة الاصلاح في عالم الاسلام السياسي، على ما رأيناه منها سابقا من عداء ومحاربة، تتجدد اليوم في اشكال وتعبيرات مختلفة، ومنها هذه القراءة لمتفلسفها، لتؤكد لنا أنها حركة ستنتهي الى الفشل الذريع، إذا واصلت على نفس المنوال، ولم تصلح شانها الداخلي والخارجي، وتتخلى عن عصبية مريضة لا فائدة منها، فتنفتح من جديد على غيرها من الحركات الاسلامية السياسية، وتقتنص منها تجاربها الناجحة، وترسي معها قاعدة للتعاون المشترك، فالسفينة واحدة – ولا توجد غيرها في هذا العباب المتلاطم الذي غرق فيه ابو يعرب إن كان واعيا- وهي ليست سفينة النهضة التي قصدها متباهيا، وهي لم تبحر أصلا، وظلت راسية تبحث عن ربان عقلاني، وإن سلمنا بإبحارها، فهي فاقدة لدفة القيادة الحكيمة، وهناك أبحر وتجاوزها بأشواط ومراحل، يعسر عليها اللحاق به، الا اذا ابدت رغبة في تعاون صادق، وهذا مسار مغلق لحد الآن، بإصرار وتعنت الشيخ راشد وكتلة التطرف حوله.
أما قوله بان حركة النهضة ضمنت لتونس بقاءها، فلم ندرك مقصده من هذا البقاء، كيف وبأي طريقة كانت؟ وهل إن تونس كانت ستزول، لو لم تضحي حركة نهضة؟ أنا شخصيا لا انكر تاريخ حركة الاتجاه الاسلامي أولا، ولا حركة النهضة فيما بعد، واقدّر تضحيات افرادها فردا فردا، حتى لو كنت مختلفا معه في الفكر والرأي، لكن الذي وقعت فيه قيادتها بالتمشي الخاطئ، مع رموز النظام السابق، والتفريط في مسار العدالة الانتقالية، بالإصرار على معاقبة المجرمين والفاسدين، جعل الجماهير تلحقها بالسيستام، وتحسبه عليه، وبالتالي تحصد نتائج خيارها، ان كان مهادنة، فمن أي شيء كان توقيها؟ كما عبّر عنه ابو يعرب.
يبدو ان تبريره غير مبني على اساس، منطقي وانما هو التماس عذر في غير محلّه، وكان من الأجدر به الاعتراف، بأن الذي قامت به حركة النهضة، يعتبر خطأ استراتيجيا فادحا، حولها من حركة ثورية عانت الأمرين في العهود السابقة، الى مجرد حزب منتفع من نضاله، وبالحد الأدنى الممنوح له، وزير واحد في الحكومة الفاشلة الحالية، من خلال توافقات لم تجلب لتونس سوى مزيد من الخسائر والارتهان للغرب.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023