مأساة أم كانت الأولى فذُبِحت لأنها من الفقراء

 أقصوصة بقلم : محمود كامل الكومى* |
غامت الشمس وأنقشع الغروب . وغطت السماء سحب سوداء فى يوم هو أخر أيام ذى القعده  وبدى البدر عصى عن الميلاد.
مابين ساعات الليل الدامس الظلام، والسَحَر، زفير أنات، تتعالى وتنخفض مع أثير نسمات الصيف التى تضن فى هذا الوقت من العام .
يشق الآذان عنان السماء معلنا فجر يوم جديد وميلاد الصباح  ونهار  يوم من ايام أغسطس(أب) نار موقِدة لصيف فاقت حدود شمسه كل التوقعات ، ومابين نداء ونداء للمؤذن  يعلو الدعاء اللهم على الظالم ومن أغتال حقوق الفقراء، ومن مكن لمافيا رجال الأعمال أن تحكم ليتساقط عرق العمال دماً،  ومن كَبَلَ الفقراء بدفع فاتورة الفاسدين وكل من سرق حق الساجدين، ومن قضى على حقنا فى الدواء والعلاج، فمكن المرض منا عن عَمدِ حتى نفسح لمافيا اصحاب رؤس الأموال والحاكمين براح الوطن يمرحون ويلهون، ومن  أنتفخت بطونهم  فتركوا من بقى  من أهلناالفقراءيتضوَرُون جوعاً، …ومع نهاية الآذان لا اله الا الله.
شُرفة منزلى  فى هذا القيظ كانت مستقرا لى وملاذ، أثرت أن استرق السمع لمن تستجير ،وزفير اناتها يتهادى ويعلو هنا وهناك ولا من مجير، لكنى تتبعت مع رجع الصدى مصدر الأنين – وغادرت الى المسجد القريب مع أقامة الصلاة .
عقب أنتهاء الصلاة، قاطعت المصلين وشيخنا الأمام  عن التسابيح والصمدية والمعوذتين ،فهناك من يستجير، وعلى التو انتعل الأمام مداسة وصار بمن قبل المسير معى فصرنا أربعة الى مكان الأستجارة ومصدر الأنين و قدت المسير .
شرفتى فى ألأدوار العليا من برج سكنى خلفة وعلى مرمى البصر غير بعيد تجمع عشوائى يمتد من المقابر حتى يقارب من بُعد مكان سُكناى
أنهم أناس يعيشون أو لايعيشون، فى الحر يفترشون العراء، وفى زمهرير الشتاء يتكدسون فى غرفة أوأثنتين يغطيها سقف كالمصفاة تهطل عليه سيول المطر فاِن نجا هذا العام فقد لاينجو من عام قادم وقد يلحق الدمار عش السكن فيجرفه السيل ويصير رفات  .
أمام شرفتى العالية وعلى مرمى البصر يسير النهر  متدفقا وعلى لسان منه يمتد براح من الأرض، روعة المكان تأخذك الى الأحلام فيلات تحيط بها منتزهات، ورود وشجيرات وطرقات من بنور أو زجاج مصقول، ويبقى “البيسين” حمام للعراة أو بالبكينى على حد قول  الصغيرات، وقطوف نادية من “الكافيار”، وتلهو الأطفال تشترى بمئات الجنيهات شيكولات، وبألوف منها  تؤجر الموتوسيكلات التى تسبح فى الماء أو تسير بسرعة النفاثات .
ويبقى المهم أن نفايات هؤلاء القوم من الناس – لآن من سواهم ليس ناس .وأنما ك ال ناس – تحتوى على مالذ وطاب من شهيات الطعام، التى يجمعها جامع القامة وهو من ليقبونه “كناس” ، ويفيض بها على أهلة ومن هو  هفوان أو هفتان أو من لم يجد قوت يوما أنتهى وهو شقيان.
اقود المسير الى مصدر الأنين وها قد  ثارت فى مخيلتى هذا التناقض الرهيب بين أناس يعيشون فى مجاهل التاريخ خلف عمارتى يقطنون، وأمامها حيث يمتد البصر ويغيب عن عالم مسكون فى ريفيرا أوروبا – رغم أنهم سواء هنا أو هناك على أرض مصر المحروسة يقبعون، لكن منذ وفاة نصير الفقراء عبد الناصر ،صار الفقراء رفات والى الآن يتحللون فى التراب، وغدت مافيا رجال الأعمال وحكوماتهم يسيطرون ويمصون دماء الطبقة الوسطى التى حلت محل طبقة  الفقراء بعد أن تحللت وتطايرت فى الهواء.
منزل متهالك الداخل اليه هالك والخارج معدوم فى بلاط الطريق .. هنا مصدر الأنين ومن شقت نِطاقها دعوة تدعو على كل ظالم ومُجير .
أدلفنا الباب ودخلنا بلا أستئذان، ثلاث صغيرات مابين سبع واربع سنين يتضورون جوعا، والأم تنزف عرقاً- لكنها مااِن رأتنا حتى اشارت بالبنان الى غرفة مقابلة لسكنها فدخلناها، واذا بعجوز غزا الشيب مفرقه ووهن العظم منه، وقد تكوم فى جانب الغرفة وبدت اناته غير قادرة أن تئن، على الفور عاجلنا الأمام بطلب صاحب سيارةعبر محمولة  ممن يأمون المسجد فجاء مسرعا والى المستشفى العام حيث الأستهتار بمن أتى  فلا دواء ولا طبيب، ولا من يريد أن يَقَبل المريض، فمات العجوز فى غرفة الأستقبال فأمرونا أن نأخذه واِلا أبلغوا النيابات بأننا من أسباب الوفاة، فصرنا بالرجل حيث أتينا وذهب من  استخرج له تصريح دفن ولما كانت المقابر والسكن صنوان فحفر الدفان ودفن العجوز بعد أن عجز عن الحصول على نسمة هواء أستحوزها مافيا الحكومة ورجال الأعمال عبر منتجعاتهم فى الشمال .
بزغت الشمس ولاح الهجير  من جديد ،وتذكرنا أننا أتينا لنصرة من ضاقت بها الأرض فأنطلق من صدرها  الأنين والدعاءعلى المجرمين، وغدونا نشترى لها ولبناتها الثلاث الزاد والتموين لعله يعوضهن ولا يتضورون وتركناها على الوعد بلقاء بها بعد العشاء.
لم ننتظر الشفع والوتر لنختم بهم صلاة اليوم –  وانما سارعنا الخطى الى تلك المستجيره، فقد أثرنا أن نُفَعِل شعيرة، فى لهفة الملهوف، واغاثة المنكوب واستجارة المُجِير، وهاهى شابة حولها البؤس من أنثى رقيقة الى شحوب وتقشفات فى قدميها شقيقة، وبدا على وجهها الأصفرار من الخوف على الصغار ومن الأنميا التى صارت رفيقه، كانت الصغيرات الثلاث يأكلن فى نهم ويمتصون علب العصائر مصا حتى بدت شفايفهن تجرى فيهم بعض من دماء الحقيقة .
فما الحقيقة ؟
بعد أن رتل عليها أمامنا آيات بينات من آى الذكر الحكيم ،وطمأنها من معنا وانا العبد الفقير ،أننا جئنا لنكون معها و صغارها حتى يستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر – هدأت الشابة العجوز وكفكفكت عبراتها وأطمأنت فرائدها وهدأت نفسها، فزفرت الكلام وتنفست الصعداءت
وغدى شهيق أنفاسها الحقيقه .
خرجت من أسرة فقيرة لكن اثرت أن أحيا بقُدراتى وعلمى حياة تبدل البؤس أمل وأزدهار الى  النهار، تخرجت من كلية السياسة والأقتصاد بتفوق وكان زوجى نديمى فى الدراسة والتفوق وفى أصل الفقر بجدارة تزوجنا وعملنا فى محل ليكون نتاج عملنا من اجل الزاد وايجار غرفة فى حارة، على أمل أن نُعين معيدين فى الكلية أو فى السلك الديلوماسى نصير فى السفارة فأنا وزوجى أوائل الكلية بجداره، لكن المافيا اغتالونا وضيعوا علينا المهاره، وبديلا عنا حلوا مكاننا الساقطين الفاسدين أولاد الحكام وطاقم التدريس ،وخرجت الى الطريق وزوجى نهيم على وجوهنا -وتظلمنا عند رئيس الجامعة  وطلبنا المقابلة فتندر مدير مكتبة بأنه ليس للوجوه العابثة وابناء الطبقة الفقيرة الكالحة أن تقابل رئيس الجامعة واِلا صارت الفاجعة، وحين ثورنا واعترضنا وفتحنا السرع واللجام للكلام، نادى على رجال الأمن ليحرروا لنا المحاضر فى وجود الأتهام، ودون أن يدرى خطف زوجى المسدس من فرد الأمن فخرجت منه المقذوفات التى استقرت فى صدر مدير مكتب رئيس الجامعة فمات، ودخل زوجى الليمان وحكم عليه بعشرون عاما، وضاقت الدنيا بى فلجأت الى هذا المكان قريبا من مدفن الأموات فالسكن هنا بالفتات، وعملى فى المحلات لايكاد يكفى الزاد للبنات
وهاهن وسط الأموات يموتن، وتغتال فيهن براءة الأطفال وأنوثة البنات
وللنجاة من هذا او ذاك
ليس لِهن اِلا طريق آت …اِما البغاء !
أو النقاب والطريق للأرهاب !!
ولاحول ولاقوة اِلا بالله
والى لقاء
* كاتب ومحامى مصرى

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023