ماهية الجغرافيا الاقتصادية…بقلم د. فتحي بوليفه*

ماهية الجغرافيا الاقتصادية…بقلم د. فتحي بوليفه*

في إطار هذه السلسلة من المقالات الصيفية التي سأخصصها للجغرافيا الاقتصادية وبعد مقالي الأول تحت عنوان “لماذا التحليل المجالي لتوطن الأنشطة الاقتصادية؟” الصادر بتاريخ 4 جوان 2023، لاحظت غموضا في تحديد مفهوم الجغرافيا الاقتصادية لدى بعض القراء، لذلك آثرت أن أخصص هذا المقال الثاني لتوضيح “ماهية الجغرافيا الاقتصادية”. رغم تعدد مفاهيمها، سأحاول التأليف بينها لتحديد مفهوم شامل وأكثر وضوحا.

  • تعدّد مفاهيم الجغرافيا الاقتصادية

في البداية سأورد عدة مفاهيم دون الخوض في تبويبها أو تحليلها. ورد جلها في معاجم متخصصة في الجغرافيا، حيث تعرّف الجغرافيا الاقتصادية بأنها تدرس توزيع الأنشطة الاقتصادية وديناميتها المجالية. فهي تحلل الهندسة السوسيومجالية الناتجة عن الأنشطة (الإنتاج) والاستهلاك والتوزيع، وهي تدرس البعد المجالي للأنشطة الاقتصادية والاقتصاد بشكل عام. ويشبه هذا المفهوم مفهوما آخر يعرفها بـ”اهتمامها بدراسة مواقع الأنشطة الاقتصادية وتوزيعها وتنظيمها المجالي على سطح الأرض، وتركز على مواقع الأنشطة الزراعية والصناعية والتجارية وشبكة المواصلات والقيمة المتغيرة للعقار” كما نورد أيضا مفهوما تأليفيا أكثر شمولية يعرّف الجغرافيا الاقتصادية على أنها “تحلل الشكل والترجمة والأبعاد المجالية للاقتصاد ولنظام Système الإنتاج الاقتصادي. الجغرافيا الاقتصادية العامة تعالج الاساس الاقتصادي المجالي للنشاط البشري في ابعاده الانتاجية والاستهلاكية والتوزيعية والتقاطع والتوطن. اما الجغرافيا الاقتصادية القطاعية فهي تدرس نشاطا محددا مثل الصناعة والنقل والسياحة والإدارة والتجارة والزراعة…“. من خلال بحثنا أيضا استنتجنا وجود عدة مفاهيم مقتضبة وموجزة مثل:

  • الجغرافيا الاقتصادية تدرس التوطن الاقتصادي في اشكاله وتوزيعاته المجالية والعوامل المؤثرة فيه وفي تطوره مجاليا وزمنيا.
  • الجغرافيا الاقتصادية تعني دراسة أنشطة الإنسان على سطح الأرض لإنتاج وتوزيع موارد الثروة الاقتصادية واستهلاكها.
  • هي العلم الذي يدرس إنتاج السلع وتوزيعها.
  • هي العلم الذي يدرس العلاقة بين العوامل الطبيعية والظروف الاقتصادية ودراسة إنتاج الحرف والنشاط الاقتصادي.
  • الجغرافية الاقتصادية تشمل كل أنواع الأنشطة التي يقوم بها الإنسان في العالم وينتج عن ذلك إنتاج وتبادل واستهلاك سلع ذات قيمة وفائدة.
  • الجغرافيا الاقتصادية فرع من الجغرافيا البشرية

في عديد البلدان في العالم تعتبر الجغرافيا الاقتصادية فرعا من فروع الجغرافيا البشرية (في هذه البلدان تقسّم الجغرافيا عادة إلى قسمين: الجغرافيا البشرية والجغرافيا الطبيعية)، مثل البلاد التونسية. هذا الانتماء لا يجعلها تعنى فقط بالعوامل والانعكاسات البشرية المرتبطة بالاقتصاد، بل تدرس أيضا تطور الإنتاج وتغيّر وسائله وتوطن المشاريع والمؤسسات المنتجة في المجال وديناميتها وتأثيرها البيئي والاجتماعي والتنموي عموما. في هذا الاطار يعرفها بعض الباحثين بأنها: “تتناول الدينامية المجالية للأنشطة الاقتصادية وتحلل الهندسة السوسيومجالية الناتجة عن أنشطة الانتاج والاستهلاك والتوزيع، وهي تدمج المبدأ الاقتصادي -الندرة- ضمن المقاربة المجالية.” يعني ذلك أن الجغرافيا الاقتصادية انتقلت من مرحلة الوصف (دراسة مختلف الموارد الطبيعية الاقتصادية وتوزيعها، الانتاج والتوزيع وعوامل توطين الانشطة الاقتصادية) الى مرحلة تحليل دور الفاعلين الاقتصاديين. فهي كانت تتطور بتطور التخصص الأم -الجغرافيا- وأيضا بتطور الاقتصاد.

  • الجغرافيا الاقتصادية فرع مستقل بذاته

يرى بعض الباحثين أيضا في عدة بلدان من العالم أن والجغرافيا الاقتصادية تعدّ فرعاً من فروع الجغرافيا مستقلة بذاتها إلى جانب الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية. وهي أكثر تلك الفروع وضوحاً وتحديداً وأوسعها ميداناً وأغناها مادة وأكثرها مراجع، لأنها تتناول بالبحث والدراسة موارد الثروة الاقتصادية في أقاليم العالم المختلفة من حيث الإنتاج والتسويق والاستهلاك، كما تدرس المشكلات المتعلقة بتوزيع مظاهر النشاط الاقتصادي على سطح الأرض وعلاقاتها ببيئاتها وهي تعنى بدراسة الحرف وتوضيح طرق الاستفادة منها واستثمارها استثمارا عقلانيا.

تضم الجغرافيا الاقتصادية المستقلة بذاتها هي أيضا العديد من الفروع العلمية، فمنها الجغرافيا الاقتصادية النظرية، التي تركز على بناء نظريات خاصة بالتوزع المجالي للأنشطة الاقتصادية، ومنها الجغرافيا الاقتصادية الإقليمية، التي تدرس الظروف الاقتصادية لمناطق أو دول معينة في العالم، ومنها الجغرافيا الاقتصادية السلوكية التي تستعرض العمليات المعرفية المتضمنة في عمليات اتخاذ القرارات الاقتصادية الخاصة بالمجالات المعينة، كما تدرس سلوك الشركات والأفراد. حديثا، تزايدت أهمية المنظور الاقتصادي الجغرافي نظرا لزيادة معاملات الاقتصاد العالمي.

  • الارتباط الشديد للجغرافيا الاقتصادية بالمجال

ربما تكتسي دراسة الجغرافيا الاقتصادية للاقتصاد أهمية كبرى كفرع من الجغرافيا البشرية أو مستقلة عنها، لكني أعتبر دراستها للتوطن المجالي الاقتصادي أكثر أهمية، نظرا لتقاطع العلمين (الجغرافيا والاقتصاد) في هذا الإطار. تهتم الجغرافيا الاقتصادية بدراسة توطن الانشطة الاقتصادية وتوزيعها المجالي. حتى أن بعض الباحثين أصبحوا يتحدثون عن علم الاقتصاد المجالي الذي يعتبر بمثابة الأصل في نشأة الجغرافيا الاقتصادية. انطلاقا من هذه الرؤية نطرح الأسئلة التالية: إلى أي مدى يتخذ المجال بعدا اقتصاديا؟ وكيف يتحول هذا المجال مع توزيع وتوطن الأنشطة الاقتصادية؟ كيف يتدخل المجال (موارد، اكراهات) في انتاج واستهلاك وتبادل الموارد الاقتصادية؟

حتى الاسئلة الأساسية في صلب الجغرافيا الاقتصادية وتحليل الظاهرة الاقتصادية يمكن حصرها في أربعة هي:

1-أين تتوطن مختلف الأنشطة الاقتصادية؟

2-لماذا تتوطن بهذا الشكل؟

3-ما هو أفضل توطن لنشاط ما (بعد التهيئة المجالية للتخصص

4-ما هو أفضل نشاط يتم اختياره للتوطن في مجال ما (البعد التنموي والتخطيطي للمسالة

تحليل الظاهرة الاقتصادية عملية عقلانية في جوهرها ويهدف إلى عزل الصفات والخصائص المجالية والاقتصادية للظاهرة الاقتصادية قيد البحث. ولا بد وأن يتم وصف الظاهرة الاقتصادية وصفا دقيقا قبل تحليلها. ويحدد الجغرافي الاقتصادي طريقة التحليل بأربعة أسئلة هي: أين، لماذا (الشكل والعامل والعمليةولماذا وكيف؟

1.4– أين يتوطن النشاط الاقتصادي؟

– أين يمكن إنتاج السلعة وتسويقها واستهلاكها؟

– أين تنتج هذه السلعة وتسوق وتستهلك؟

يعتبر الموقع أو الموطن الجغرافي أحد الحقائق الجغرافية الأساسية. فبعد أن ينتهي الدارس من تحديد موطن انتاج السلعة وموقعها الجغرافي (انتاجية الوحدة المساحية) ينتقل إلى البحث عن مجال تسويقها.

2.4– لماذا يتوطن هذا النشاط الاقتصادي هناك؟

يتعلق هذا السؤال بالأسباب (العوامل) الجغرافية الطبيعية والتاريخية والاقتصادية والبشرية في التوزع الجغرافي للظاهرة الاقتصادية أي تعليلها.

3.4- لماذا أمكن إنتاج هذه السلعة وتسويقها واستهلاكها؟

4.4- كيف تنتج السلعة وتنقل وتسوق وتستهلك؟

إذا ما طبقنا هذه المحددات على إنتاج البترول مثلا، علينا تحديد توزيع مناطق الإنتاج في العالم، وعلاقة مناطق الإنتاج بمناطق الاستهلاك، وطريقة نقل المنتجات البترولية وعلاقتها بالأسعار والمنافسة التجارية الدولية، ودور البترول في النشاط الاقتصادي العالمي أو في علاقات الدول المنتجة بالدول المستهلكة.

  • مناهج البحث في الجغرافيا الاقتصادية وركائزه

المنهج هو طريقة لتنظيم البيانات والمعلومات والأفكار المتعلقة بإحدى الظواهر. واتفق الجغرافيون الاقتصاديون على أن فرع تخصصهم يبحث التوزيع الجغرافي لفروع الإنتاج المختلفة مع العناية بتفسيرها وتعليلها، ثم يحلل خصائصها الاقتصادية والتباين الجغرافي المرتبط بذلك، وذلك بتناول الظواهر من جوانبها الموضوعية والإقليمية. ينطلق من واقع التطورات الراهنة التي يعرفها العالم والتي يتفاعل فيها العامل التكنولوجي والتواصلي والاقتصادي لإعطاء وتيرة أسرع للتقلبات والتحولات، مما يصعب معه التكهن بالمستقبل ويقلل من فعاليات الخطط والاستراتيجيات المستقبلية ولو كانت على المدى المتوسط والقصير. فالتحولات الراهنة وما يكتنفها من فوضى كفيلة بإعطاء رؤية جديدة لمختلف المباحث التي تتناولها الجغرافيا الاقتصادية.

تتعدد مناهج دراسة الجغرافيا الاقتصادية أو طرق دراستها، إذ يمكن أن تدرس أوجه النشاط الاقتصادي المختلفة كالصيد والزراعة والتعدين والصناعة والتجارة والنقل والسياحة والخدمات… أو على أساس تحديد موارد الثروة الاقتصادية والسلع المتعددة كالقمح والقطن والسكر والفحم والحديد والبترول… أو من خلال معرفة المقومات الطبيعية والبشرية المؤثرة في إنتاج الثروات الاقتصادية. بنيت هذه المناهج على ثلاث ركائز هامة:

1.5- أهمية الموارد الطبيعية

-الوصول إلى الماء بالنسبة للزراعة والطاقة بالنسبة للصناعة

-الفلاحة تتطلب أراضي زراعية ومراعي

-الصناعة تتطلب مواد خام (معادن – خشب – إلخ)

-السياحة تنمو أساسا حيث توجد مقومات سياحية طبيعية وثقافية

2.5- أهمية الموارد البشرية

يتطلب النشاط الاقتصادي يدا عاملة مؤهلة توجد في المدن الكبرى والجامعية وفي المناطق الصناعية وهي رخيصة الثمن في البلدان الفقيرة وفي البلدان حيث يسود الاستبداد. كما تحتاج الأنشطة الاقتصادية لأسواق مستهلكة تكون عديدة في المجالات المتحضرة وذات طاقة شرائية مرتفعة في البلدان المتقدمة، كما أن النشاط الاقتصادي يتسبب في أشكال من التلوث لذا قد تضطر بعض الأنشطة الى الابتعاد عن التجمعات السكانية. وفي سياق نمو اقتصاد المعرفة تتوطن الانشطة الاقتصادية الراقية قرب الجامعات ومراكز البحث العلمي (مثال سيليكون فالي في الولايات المتحدة الامريكية)

3.5- دور وأهمية وسائل الاتصال والمواصلات المختلفة

في النظام الاقتصادي الذي يسود العالم حاليا، هناك عوامل عدة توجه وتؤثر في القرارات ذات الصبغة الاقتصادية، فتوطن أي نشاط إنتاجي أو تجاري يبحث عن المردودية الاقتصادية التي تراعي اعتبارات متداخلة ومختلفة، أما إعادة التوطن والانتشار فتفسر بالبحث عن القليل من تكلفة الإنتاج، سيما وأن التخفيض في تكاليف النقل البحري وفي المعاليم الجمركية أصبحت تحفز بشكل متزايد عولمة الاقتصاد، لكن الاعتبارات الاستراتيجية لا يزال دورها فاعلا مثل مواطن صناعة الأسلحة في العالم. هذه العوامل تجعل الجغرافيا الاقتصادية في تطور مستمر (هذه العوامل تتحول باستمرار في إطار دينامية متواصلة).

رغم تعدد مفاهيم الجغرافيا الاقتصادية واختلاف تصنيفها حسب البلدان والباحثين، تكتسي دراستها أهمية كبرى في تحليل الظاهرة الاقتصادية التي تحتل مكانة هامة في التنمية وتقدم الشعوب عامة، وفي حياة الانسان وظروف عيشه، خاصة.

* أستاذ-باحث في الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023