متى بدأ تاريخ الجغرافيا الاقتصادية؟…بقلم د. فتحي بوليفه*

متى بدأ تاريخ الجغرافيا الاقتصادية؟…بقلم د. فتحي بوليفه*

متى بدأ تاريخ الجغرافيا الاقتصادية؟

اختلفت البحوث والمراجع والمصادر التاريخية زمنيا ومجاليا في تحديد تاريخ ظهور الجغرافيا الاقتصادية، نظرا لتأخر وضوح المصطلح العلمي لهذا التخصص أو المبحث الذي انقسمت بحوثه ودراساته ونظرياته (نماذجه) بين الجغرافيا، من ناحية وعلم الاقتصاد، من ناحية أخرى. كيف يبرز هذا الاختلاف؟ وهل أثر على تطورها تاريخيا؟

1- الاختلاف حول تاريخ ظهور الجغرافيا الاقتصادية

أجمع جل الباحثين في تاريخ ظهور الجغرافيا الاقتصادية على تاريخين ونقطتين لانطلاقها، رغم تقارب التاريخين وتباعد النقطتين. بعض هؤلاء الباحثين أكدوا أنها ظهرت على يد الالماني غوتز Gotz سنة 1882 ليفصلها عن الجغرافيا التجارية التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر. أكد البعض الآخر منهم أن ظهور أول بحث يستخدم اصطلاح “جغرافيا اقتصادية” في الولايات المتحدة الامريكية سنة 1888 قد أعلن عن ولادة الجغرافيا الاقتصادية فعليا، خاصة بعد كتابات ريتر k. Ritter وتشيزولم G. Chisholm الذي ألف كتاباً في الجغرافية الاقتصادية سنة 1889 ولا يزال يتداول في طبعات متجددة حتى الآن.

تهتم الجغرافيا الاقتصادية بدراسة الموارد الاقتصادية في العالم من حيث توزيعها تباينها وربط هذا التباين بالعوامل البشرية والطبيعية والحضارية المتحكمة في الإنتاج والنقل والتوزيع والاستهلاك.

رغم هذا الاختلاف الزمني والمجالي في تحديد تاريخ ظهور الجغرافيا الاقتصادية، يتفق جل المصادر والمراجع على العالم الألماني غوتز Gotz الذي يعتبر”أب” الجغرافيا الاقتصادية وأول من اقترح منهجا تحليليا لدراسة موارد الثروة الاقتصادية آخذا بعين الاعتبار مبدا السببية، أي البحث عن الأسباب الطبيعية والبشرية والاقتصادية التي تفسر البيانات الإحصائية. في البداية كانت فرعا من الجغرافيا البشرية، إلا أن هذا الفرع تضخم وتشعب وازدادت أهميته فانفصل عنها.

2- تاريخ تطور الجغرافيا الاقتصادية ينقسم الى حقبتين

اتفقت البحوث الحديثة في تاريخ تطور الجغرافيا الاقتصادية على تقسيمه إلى حقبتين:

  • عصر التوسع التجاري الأوروبي (بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى والتوسعات الاستعمارية)
  • عصر الثورة الصناعية الحديثة والنمو الحضري المعاصر

1.2- عصر التوسع التجاري الأوروبي: (ظهور الجغرافيا التجارية)

يعتقد الجميع أن أوج الازدهار التجاري قد حدث في أوروبا عقب الاكتشافات الجغرافية الكبرى التي شهدها العالم، خاصة منذ أواخر القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، نتيجة لتوفر الثروات الطبيعية في المناطق المكتشفة حديثا التي تم نقلها نحو أوروبا من طرف الإسبان والبرتغاليون، لكن الحقيقة التاريخية لهذا التحول التجاري تبرز أهميته خاصة بعد الثورة الصناعية (الفترة 1750-1850) وما نتج عنها من تغيرات وتحولات في الزراعة والتصنيع والنقل، ساهمت في ازدهار التجارة في جل أنحاء العالم.

خلال هذه المرحلة حدثت ثورة تجارية تمثلت في نمو الأسواق ونشأة مراكز جديدة لكل من الانتاج والاستهلاك. لذا، ظهرت الجغرافيا التجارية التي ركزت على دراسة الانتاج ووفرت للتجار والحكومات المعلومات المنظمة عن السكان والأقاليم وموارد الثروة في العالم. مثال ذلك “كتاب الجغرافيا التجارية” الذي ألفه تشيزولم G. Chisholm سنة 1889.

كانت الحرب العالمية الأولى دافعا قويا لتطور هذا التخصص الوليد الذي أصبح عليه أن يقدم البيانات والمعلومات والخرائط والأشكال عن مصادر المواد الغذائية والخامات في العالم ولفهم المشاكل الاقتصادية بمناطق مختلفة من العالم. أصبحت هذه المعلومات هدفا علميا أكاديميا قويت أركانه في بداية العشرينيات من القرن العشرين. وظهرت أول مجلة علمية له بالولايات المتحدة سنة 1925 تحمل نفس الاسم “الجغرافيا الاقتصادية“. وقد تأثرت التعريفات الأولى للجغرافيا الاقتصادية بنظرية الحتمية البيئية التي سادت العلوم الانسانية في آخر القرن التاسع عشر وسيطرت هذه النظرية على الجغرافيا الاقتصادية حتى الثلاثينيات من القرن العشرين. وترجع هذه النظرية كل شيء يقوم به الانسان إلى البيئة الطبيعية فقط. فهي تفسر الظاهرة البشرية بظاهرة طبيعية. اعتقد أنصار نظرية الحتمية الجغرافية أن البيئة الطبيعية هي التي تحدد النشاط الاقتصادي الذي يمارسه الانسان. وانعكس هذا على الجغرافيا الاقتصادية التي ركزت على الانتاج وتبادل السلع وطرق التجارة في العالم وعلى خصائص المناطق الاقتصادية، خاصة الاقاليم الزراعية. وكان جل اهتمام الجغرافيا الاقتصادية آنذاك منصبا على الانتاج الأولي ذي الصلة الوثيقة بالبيئة الطبيعية.

2.2- عصر الصناعة الحديثة والنمو الحضري المعاصر

خلال الثورة الصناعية من الفترة 1750-1850 وبعدها طرأت عدة تغيرات في الزراعة والتصنيع والتعدين، والنقل، والتكنولوجيا كان لها تأثير عميق على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المملكة المتحدة، ثم انتشرت بعد ذلك إلى جميع أنحاء أوروبا الغربية، أمريكا الشمالية، اليابان، وأخيرا إلى بقية دول العالم.

ساهمت الثورة الصناعية وتسارع النمو الحضري في تغير جذري وجوهري في الدراسات الاقتصادية، بعد أن تحول العالم من زراعي تجاري بسيط إلى عالم صناعي وحضري جديد أكثر تعقيدا من ذي قبل. وانعكس كل ذلك في نشأة مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة. وازدهرت التجارة بين أجزاء العالم المتقدم أكثر من نموها بين الدول المتقدمة والنامية، وظهرت المناطق الحضرية الضخمة. وكان لهذه التحولات تأثيرا كبيرا وعميقا على الاقتصاد والجغرافيا الاقتصادية، فاتسع نطاق كل من العلمين كما أضاف كل منهما فروعا وتخصصات جديدة لمواكبة التغيرات التي طرأت. أدى اتساع مجال العلمين إلى التداخل بينهما وقل وضوح خط الحدود المشترك بينهما.

يعود تزايد أهمية علم الاقتصاد إلى الأزمات الاقتصادية الكبرى التي حلت بالعالم، مثل الأزمة المالية العالمية 1929/1931، والحربين العالميتين الأولى والثانية، وموجات التضخم الحادة. وكانت اقتصاديات كينز M Keynes J (مؤسس المكرواقتصاد) وتحليل الدخل القومي بمثابة أدوات لفهم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت بعد التصنيع والتحضر والعمل على حلها.

وشغلت الحربان العالميتان كثيرا من علماء الاقتصاد بفكرة تعبئة الموارد والتخطيط الاقتصادي الاقليمي. وانعكس نشاط علماء الاقتصاد ومشاريع المساعدات التقنية في زيادة اهتمامهم بالاقتصاديات الاقليمية وبذلك اقتربوا من الجغرافيا الاقتصادية. وأدت الحرب الباردة واتساع فجوة التباين في مستويات التنمية الاقتصادية الاقليمية ومعدلاتها إلى تشجيع علماء الاقتصاد على الدخول في هذه الناحية للبحث عن تفسيرات لتباين الاقتصاديات الاقليمية من أجل الترشيد، فازداد اقترابهم من الجغرافيا الاقتصادية. وكان لكل هذه التغيرات في مجال الاقتصاد أثر مباشر على الجغرافيا الاقتصادية. فالتركيز على التخطيط، خاصة الاقليمي شجع علماء الاقتصاد على الاهتمام جزئيا باقتصاديات المجال. ومن ثم كان إدخال الاقتصاد لبعد التباين المجالي في دراسته عاملا أساسيا في التقريب بينه وبين الجغرافيا الاقتصادية. (سنعود في مقال قادم على تأثير دراسة المجال في اندماج الجغرافيا والاقتصاد)

وربما يكون التخطيط من اسباب زيادة اهتمام علماء الاقتصاد بالإنتاج والإنتاجية (مجال دراسة الجغرافيا الاقتصادية). وشجع هذا التغير في مجال الاقتصاد زيادة الادراك للمبدإ الذي مفاده أن الانتاج والانتاجية هما مفتاح الوفرة في القرن العشرين، بينما كانت التجارة هي مفتاح تلك الوفرة في القرن التاسع عشر، ومن ثم اقترب من الجغرافيا الاقتصادية.

3- توسع مجالات الجغرافيا الاقتصادية و إثرائها

استفادت الجغرافيا الاقتصادية من التحولات العميقة والكبيرة التي عرفها الواقع العالمي الجديد، في الإنتاج والمبادلات والتحضر وغير ذلك، ومواكبة الدراسات الاقتصادية لتلك التحولات، لتجديد مواضيعها ومناهجها وأدواتها. حيث حد التقدم التقني من فكرة الحتمية البيئية وقوّى النظريات المجالية أو الاحتمالية، حيث أن ظروف البيئة الطبيعية تؤثر في نشاط الانسان ولا تحدده. كما تسببت الأزمة المالية 1929/1932 في جعل الجغرافيا الاقتصادية تقف على تأثيرات زيادة التدخل الحكومي النشيط في الاقتصاد. كما ساهم التقدم الصناعي و النمو الحضري الذي شهده العالم إلى اتساع اهتمامات الجغرافيا الاقتصادية، التي لم تعد مقتصرة على دراسة الانتاج الأولي -الزراعي- بل أصبحت تهتم أيضا بإنتاج الصناعات التحويلية والنقل والتجارة والخدمات وغيرها مثل تسويق السلع وخصائص النظم الاقتصادية وتباينها المجالي. كما بدأ بعض الجغرافيين في الاهتمام بجغرافية رأس المال والاستثمار على غرار دراسة الاقتصاد البنكي وتكوّن رؤوس الأموال وتدفقها.

ساهم توسع مجالات الجغرافيا الاقتصادية في مزيد اقترابها من علم الاقتصاد الذي يرتكز في دراسته على الأسواق بينما ترتكز الجغرافيا الاقتصادية على دراسة الانتاج والتباينات المجالية. فهناك إذن بالضرورة علاقة تكاملية بين العلمين. أصبحت الجغرافيا الاقتصادية تهتم ايضا بمسالك الاستهلاك والتسويق والنقل… كما اصبحت الجغرافيا الاقتصادية تهتم بالبعد الاجتماعي في تفسيراتها في مقابل تركيزها التاريخي – سابقا- على البعد الطبيعي والتقني. ولم يعد الجغرافي الاقتصادي يقنع بالتعميمات التي يستنتجها من الخرائط فقط بل يتقدم خطوات حاليا في سبيل إيجاد تعميمات لفظية ورياضية قوية بخصوص دراساته، لم تكن متوفرة من قبل.

ويمكننا القول أنه خلال العقود الأخيرة، طرأت على الجغرافيا الاقتصادية تغيرات جوهرية شملت المستويات الثلاثة الآتية: محتواها، ومنهجها في البحث والدراسة (القياس الرياضي والتنظير) وتغير مجالات التوزع الجغرافي لموارد الثروة الاقتصادية وتنظيمها ونقلها وتبادلها والإطار التقني المتبع في كل ذلك، لأن ذلك التغير يتسع وينكمش باستمرار، إذ تظهر ثروات اقتصادية جديدة وتنفذ موارد أخرى وتظهر مناطق جديدة منتجة لثروات أخرى، بعد ان كانت لا تنتجها من قبل (انتاج البترول والغاز الطبيعي في بحر الشمال منذ 1973…)

ربما لا يتسع مجال هذه الورقة لتعداد كل مراحل تطور تاريخ الجغرافيا الاقتصادية، لكننا حاولنا ايجاز ذلك التاريخ في أهم مراحله مع التركيز على أهم التحولات التي جعلت علم الاقتصاد والجغرافيا يلتقيان. ويعتبر تنامي دراسة المجال في علم الاقتصاد من أهم تلك التحولات التي ساهمت في ميلاد الجغرافيا الاقتصادية. فكيف يبرز دور المجال في تلك التحولات؟

 

* أستاذ-باحث في الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023