من يحمي التراث الفني الضخم ” لبيتينا هاينن عياش”؟

من يحمي التراث الفني الضخم ” لبيتينا هاينن عياش”؟

“حتى لانُعزِّي أنفسنا مرتين”

 

منذ أيام قليلة غادرتنا الفنانة التشكيلية العالمية ألمانية المولد جزائرية العشق والهوى بيتينا هاينن عياش التي اتخذت من مدينة قالمة مقرا لإقامتها ومن الجمال الطبيعي لولاية قالمة ككل مصدرا أساسيا لاستلهاماتها الفنية وروحها الإبداعي التشكيلي الفريد، ولا أريد في هذا المقال الموجز أن أستعرض جوانب من حياة وأعمال بيتينا وريشتها وحوارها الطويل والخلاَّق مع الطبيعة والألوان والأضواء وتفاعلها الهادئ الجميل مع الناس والحياة في أوسع مناحيها وشتَّى ظروفها وأزمنتها، إنما أريد أن أتعرض لجانب واحد يهم مستقبل الحياة الثقافية والفنية بولاية قالمة والوطن الجزائري ككل وأعني به الجانب المتعلق بالتراث الفني الذي خلفته الفنانة العالمية الراحلة التي تعدُّ بحق جسرا ثقافيا بين الجزائر وألمانيا، جسرا ثقافيا يمكن له أن يبقى ويستمر أو أن يضمحل ويندثر وذلك يتوقف على مدى قدرتنا على صيانة وتثمين الإرث الفني الضخم الذي خلفته الراحلة وهو ثمرة سنوات طويلة من العمل والإبداع مئآت من اللوحات الفنية التي خلدت فيها تخليدا إبداعيا كل ماوقع عليه نظرها وتفاعلت معه نفسها من مظاهر الجمال والتميز والإبهار،ولأن محصلة حياة هذه الفنانة العالمية رصيد إبداعي هائل تحتل فيه الجزائر مكانا مركزيا فإنَّه مما يفرض علينا العمل بسرعة للحيلولة دون ضياع أو سرقة أو تلف هذا التراث. 

 ولكن لماذا نتحدث بلهجة الخوف على مصير لوحات الراحلة بيتينا هاينن عياش ؟ هناك أسباب عديدة ووجيهة تدعونا إلى هذا الخوف ذلك أنَّه ومن منطلق مسؤوليتي كمواطن لا يملك إلا قلمه فإنني أقول: لست مطمئنا على الإطلاق على مصير التراث الفني للفقيدة وهو التراث الذي قد نفقده بالكامل في ظرف سنة أو سنتين إذا لم يكن هناك تحرك نوعي وسريع لتدارك الأمر بحكمة ووعي وإحساس حقيقي بالمسؤولية الثقافية، فالمؤشرات على هذا الخطر المُحدِّق بما خلفته فنانتنا الراحلة قوية، و لا تتمثل فقط في لامبالاة الوسط الثقافي المحلي، وعدم وجود من يتصدى لهذه اللامبالاة والبلادة الفنية ويتحمل مسؤولية المبادرة، وينطبق ذلك مع كل الأسف حتَّى على من يُفترض أنهم على المستوى المحلي من أول المعنيين بالأمر باعتبار أن ذلك يعد جزءً من واجبهم ومهامهم قبل كل شئ وقبل أي طرف أو جهة أخرى، ولذلك فإن هذا المقال يهدف إلى إطلاق صرخة استغاثة، ونداء استنجاد مضمونه: لاتتركوا تراث بيتنا هاينن عياش يضيع وسط الإهمال واللامبالاة والبيروقراطية الثقيلة العاجزة التي لا تتجاوز حدود المكاتب والأوراق والرنين الفارغ للهواتف الثابتة والمنقولة.

ونستطيع أن نقف بكيفية أعمق على أهمية تراث فنانتنا الراحلة والأهمية القصوى للمبادرة بحفظه وصيانته عندما نأخذ بعين الاعتبار ما كنا قد طالبنا به منذ سنوات خلت من حتمية إنشاء متحف للفن المعاصر بولاية قالمة وهو نفسه الأمل الذي طالما ساور هذه الألمانية الجزائرية المبدعة، ففي إحدى الحوارات التي جمعتني مع الراحلة رفقة الشاعر والروائي أحمد عاشوري قالت بيتينا : ” عليكم أن لا تتركوا قالمة الجميلة دون متحف للفن، حرام عليكم إن لم تجعلوا لقالمة متحفا فنيا ” وقد حاولنا أن نكون أوفياء لهذه الوصية وطالبنا عبر كل وسيلة متاحة بأن يكون لقالمة متحف للفن المعاصر، ولكن من كنا نتوجه إليهم بنداءاتنا ومن كانت بيدهم سلطة القرار لم يكن يعنيهم أبدا أن يكون لقالمة متحف للفن المعاصر ولا متحف للآثار ولا مسرح جهوي ولا مكتبة للمطالعة الرئيسية ولا قاعة للسينما ولا حتَّى مجرد هيئة بسيطة جادة لخدمة الحياة الثقافية بهذه الولاية التي أَسَرَتْ خيال الفنانة بيتينا وجعلتها تختارها لتمضي فيها حياتها وتنهض انطلاقا منها برسالتها الفنية الثرية الناجحة، لذلك رحلت بيتينا دون أن ترى أملها الأثير على نفسها يتحول إلى واقع ملموس.

 ولكن هل بمقدورنا أن نأمل في أن الأشياء قد بدأت تتغير وأن وصية الفنانة الراحلة بيتينا هاينن عياش قد تجد أخيرا من يحسن قراءتها ويأخذ على عاتقه مهمة التفكير الجاد في تجسيدها ؟ لما لا ، فاليأس والتشاؤم من الشيطان والأمل والتفاؤل من روح الله ، ولذلك ورغم مرارة التجربة وقتامة السوابق يبقى الأمل قائما والرجاء مفتوحا، وبوحي من هذا الأمل وهذا الرجاء أدعو إلى التصرف الآني والتحرك الفوري لتأسيس متحف للفن المعاصر في ولاية قالمة وذلك بتخصيص بناية مناسبة من البنايات التي تتوفر عليها المدينة القديمة بقالمة أو في إحدى المدن الكبيرة على مستوى الولاية مثل وادي الزناتي أو بوشقوف أو هيليوبوليس لتكون المكان الذي تنطلق منه عملية إنشاء متحف الفن المعاصر بولاية قالمة، وستكون اللوحات الكثيرة لبيتينا هاينن عياش ولوحات أخرى كثيرة لفنانيين تشكليين من قالمة وما جاورها هي الرصيد الأولي الذي سيتم وضعه في أجنحة هذا المتحف المنشود في انتظار أن تقوم الجهات المعنية ببرمجة مشروع للفن المعاصر بقالمة وفقا للإجراءات القانونية السارية، وهي إجراءات تأخذ وقتاً قد يكون أطول مما ينبغي، ولذلك أؤكد مرة أخرى أننا مطالبون بالتحرك السريع والفوري لتوفير شروط حفظ وصيانة تراث الفنانة الراحلة حتى لا نجد أنفسنا بعد مدة من الزمن إزاء فاجعة فقدان مارسمته بيتينا وما خطته ريشتها من تشكيل وألوان وإبداع، وعندها سنعزي أنفسنا للمرة الثانية، إذ أننا عزينا أنفسنا بعد رحيل بيتينا وتلك إرادة الله وسنته وبالتالي فالعزاء مقبول، ولكن إن نحن فرطنا في تراثها الفني فستكون تلك مسؤوليتنا وعندئذ ستكون تعزيتنا لأنفسنا في فقدان تراث الفنانة إدانة لتقصيرنا وإدانة للذين سبق لهم بوحي من غرائزهم ومصالحهم الخاصة وسوء نواياهم وأن وضعوا زمام الأمور على المستوى المحلي بين يدي من لا يعنيهم الفن ولا يهمهم من أمر الثقافة إلا لجهة كونها تُوفر فرصة للجلوس في مكاتب مكيفة وعلى كراسي مريحة.

وكما بدأتُ هذا الحديث فإني أختمه، من يُنقذ التراث الفني الضخم للفنانة العالمية بيتينا هاينن عياش ؟ وذلك حتى لانُعزِّي أنفسنا مرتين، فالعزاء الأول كان مقبولا أما العزاء الثاني- إن كان- فسيكون مردودا ومقبوحا ومرفوضا.

                                          

                                                     

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023