هل وصل عقل السّياسي التونسي إلى منهى حدوده من التّنويم؟ مقدّمة في “البرَاسيْكُولوجيا” العقل العربي

هل وصل عقل السّياسي التونسي إلى منهى حدوده من التّنويم؟ مقدّمة في “البرَاسيْكُولوجيا” العقل العربي

د. مصباح الشيباني |
أشار الكاتب والرّوائي وعالم الآثار “كولن ولسون”( Colin Wilson) في روايته “طُفيليات العقل” (The Mind Parasites) إلى وجود جيوش لا مرئية من الطفيليات التي تشوّه كثيرا من عقول النّاس. وهذه النظرية يمكن أن نطبّقها في دراسة عقول القادة السّياسيين والحكام العرب، ونعرف من خلالها كيف تدفع بهم هذه “الطّفيليات العقليّة” إلى الاستهتار بمصالح شعوبهم ومستقبل بلدانهم، وكيف أنّ “الطُفيليات العقلية” ساهمت في تدمير أنظمة عدد من هذه الدّول، وكانت سببا مباشرا في ارتفاع الزيادة في عبثية الحياة السّياسية فيها. ومن تجليات هذه “الطفيليات”وآثارها القائمة أنّ دولا عربية غنية بثرواتها المادية والحضارية يديرها حكام عقولهم ملوّثة بـ”طُفيليات” عدم الاحساس بالوطنية، وليس لهم أي مانع في خيانة شعوبهم والتّفويت في أوطانهم دون سبب، ودولاً غربية فقيرة في مواردها الطبيعية، ولا تملك ما تملكه هذه الدّول من ثروات تسعى إلى الاستيلاء عليها بقيادة حكام نبهاء وذوي عقول سياسية نقية من هذه “التلوّثات” يدافعون عن أوطانهم ويسْتبسلون من أجلها دون حساب.
ونكاد نجزم أن حالات الإصابة بالتلوث الذهني والتنويم العقلي خاصية عربية، وظاهرة منتشرة في المشهد السّياسي العربي أكثر في غيره من المناطق في العالم، والتي كانت احدى أسباب عودة الاستعمار الغربي المباشر إلى المنطقة منذ بداية التّسعينيات من القرن الماضي مع حرب الخليج الأولى ضد العراق، مثلما كانت هذه “الطفيليات العقلية” احدى أهم أسباب الفتن السّياسية الداخلية في المنطقة العربية منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم. ومن المؤسف، فقد نجح حكامنا العرب في تحويل السّياسة إلى حرفة في الخداع، وأصبحت احدى آليات تربية النّاس على ثقافة التّفاهة وفراغ النفس وعدم الثّبات على المبدأ وموت الضّمير وخيانة الذّات. وقد زادت خطورة هذه الحالة في ظل “ديمقراطية المشاهد” بحسب تعبير الناقد الأدبي والمفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي”، حيث بات الإعلام أهم أداة يعتمدها هؤلاء لـ”تطويع الرأي العام” و”تصنيع الاجماع”، وجعل الناس يتوافقون على أمور وسياسات، وينتخبون أشخاصًا عن طريق استخدام وسائل الدّعاية. وبفعل هذه العملية الدعائية تمكن أصحاب” السّلطة الخفية” من دفع النّاس، و”نوّاب الشعب” والسّياسيين، إلى التحوّل بسهولة من موقف إلى آخر دون الشعور بأن تغييرا ما قد حدث، ودون معرفة أحيانا بطبيعة القوى التي تدفعهم إلى تلك الأهداف ونتائجها.
ونتيجة غياب المواجهة الحقيقية والمباشرة لأعداء المجتمع، تمكّنت “لوبيات الفساد” بطرق ليّنة وناعمة أحيانا، وعنفية أحيانا أخرى، من السّطو على المشهد تحت أنظار زعماء الانتفاضة الشعبية: السياسيين والنقابيين والحقوقيين وغيرهم، وتمكنوا من وأد هذه الحركة وهي في المهد وفي مرحلة الهدم، ونجحوا في الانقلاب على أهدافها. فقد سقط السياسيون الوطنيون في ردّات الفعل والمجازفة والاستهتار عندما نظروا وتعاملوا مع الوضع ببساطة قبل أن يمسكوا بأدوات الفعل والتغيير الحقيقي له، بل اعتمدوا مواقف جامدة بينما الواقع متحرّك ومعقّد وشبكات الفاعلين الحقيقيين فيه كانوا غير ظاهرين. وقد نجم عن هذه السّذاجة السياسية حالة من الإذلال للمجتمع وعدم مبالاته، وباتت تشكل هذه الحالة وتتحكّم في دينامية حياة المجتمع كلّها.
نعتقد أن تحليل هذا الشعور الجامح من “اليأس” و”الاحباط” واللامبالاة” المعمّمة ( التي شملت نخبة الشّعب وعامته) سوف تؤثر في كل عمليات التأسيس لأية تجربة سياسية في المستقبل، خاصة وأن أغلب الأحزاب والمنظمات المدنية والاجتماعية قد تعاملت مع هذه “السّيولة التنويمية” والتهديمية لمؤسّسات الدولة بردّات فعل غير متكافئة مع قوة التهديم وعمق التنويم، فكانت نتائجها عكسية لما كان يرجى منها، وضعف المشاركة في الانتخابات السابقة بكل أنواعها خير دليل على ذلك. وقد كان لتيار ” الإسلام السّياسي” بزعامة “حركة النهضة”، الذي قدّم نفسه كبديل لإنقاذ المجتمع ومداواة أمراضه وإخراجه من الفقر الدنيوي ووعده بجنة الخلد، نصيب الأسد في عمليات التهديم. فلما تمكن هذا الحزب من السّلطة أنتج واقعا سياسيا أكثر “توتاليتارية” من نظام بن علي، وأكثر تفكّكا مجتمعيا وخطورة منه على الرّغم من أنّه كان يحاربه ويقدم نفسه بديلا عنه.
ومن أخطر نتائج هذه التّجربة “حالة الإذلال” التي تعيشها تونس اليوم ــ دولةً وشعبًاــ أمام أشخاص ومافيات، خفية وعلنية، أصبحت تدير البلاد عبر الوسائل والاتفاقيات السّرية مع المسؤولين من داخل مؤسّسات الدولة وخارجها التي لم نعرف مضامينها إلى اليوم؛ فكلّ شيء مسموح التجارة فيه وخاصة كرامة المواطن وسيادة الوطن. وممارسة جميع أشكال الاذلال ( الارتفاع في الأسعار، والزيادة في الضرائب..)، وكل أنواع الجرائم السياسية والاقتصادية والإعلامية في حق الشعب. ولم يعد من الممكن ردم الفجوة بين “المثل الديمقراطية” المعلنة و”الممارسات الاستبدادية” القائمة على الأرض. وهذه الترسانة المدمّرة للشعب والوطن، تستند على عقيدة “التّنويم” للعقول السياسية ونظرية “حق التملك”، وتذكّرنا بقولة “لويس الرّابع عشر”( أحد ملوك فرنسا) المشهورة الذي قالها في 13 أفريل 1655 “الدّولة هي أنا”(l’Etat, c’est moi).
فمن منّا يعرف مضمون الزّيارة التي قام بها الشّيخان “راشد الغنوشي” و”الباجي قايد السّبسي” إلى فرنسا يوم 15 أوت 2013، وماذا أمضيا، وبماذا تعهّدا أمام حاميتهما فرنسا؟ ومن منا يعرف ما هو مضمون زيارة رئيس الوزراء “يوسف الشاهد” الأخيرة في 13 فيفري 2019إلى فرنسا، وماهي مضامين الاتفاقيات التي أمضاها؟ وغيرها من الأسئلة التي بات يطرحها المواطن العادي ولا يجد لها إجابة، ولم يجن منها إلا مزيدا من الإذلال وتغذية حقده ورغبته في الانتقام ممّن كان السّبب في هذه المحْنة. لقد دمّرت هذه الحالة المجتمع التونسي من الداخل عوض أن تقوي تماسكه الداخلي وتدعم قوة منظماته. فمن أجل حماية القيم الديمقراطية الحقيقية، يجد المرء نفسه مدفوعا للتخلي عنها في ظل عدم نزاهتها! كيف يفرح الشباب بالديمقراطية والعرس الانتخابي والانتصار على الظّلم وهو مطالب من أجل ذلك أن يشارك في هذا المشهد ويصبح جزءا منه؟ وهل أن تمثّلاته حول دور “مجلس نواب الشعب”، الذي تحول إلى نواب للحكومة، تركت أمامه فسحة من التردّد في اتخاذ موقف انتخابي عقابي وعدم المشاركة فيها؟
إذًا، طالما أن حكوماتنا التي تعاقبت في تونس لم تعد تملك قرارات سيادية في إدارة شأن البلاد ورسم السّياسات وإنجاز مشاريع التنمية في الجهات( الأمثلة كثيرة كان آخرها فضيحة قنطرة أجيم جربة )، فليس أمام الشعب وما بقي من قوى وطنية صادقة إلا اعتماد أسلوب التّحرير، و”وضع النقط على الحروف” مثلما يقال. ومن أولى هذه النّقط هي مقاومة المحتل الأجنبي، الأوروبي عامة والفرنسي الذي نعتقد أنّه أصل الدّاء، وفق جميع الآليات التي شرّعها القانون والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والتي لا ينكرها إلا الأذلاّء والخونة المتعاونين معه. فلا يمكن أن ننسى ما قام به الاستعمار الفرنسي لتونس وما سببه، ومازال، من مآسي ونهب لخيرات هذا الشّعب، أو أن نتجاهل جرائمه ومذابحه مهما حاول أن يختفي وراء صخب الجدال السّياسي الداخلي والتّنازع “الذّاتي” العقيم والمغالطات الإعلامية المقصودة، والتي يعمل “حرّاس الحماية” الفرنسية في بلادنا على اخفائها.
ليس هناك أخطر من “طُفيليات العقل” وأتْفَهها وأكثرها ازعاجا وتدميرا للمجتمع من المناقشات السّياسية والإعلامية التي دارت في تونس ،ومازالت تدور من حين لآخر، حول مسائل لا علاقة لها بتغيير الوضع أو حل مشكلات المجتمع الحقيقية مثل: التبعية والبطالة وسياسات التفقير..الخ. فقبل التّنازع حول الانتخابات، التي لن تكون ذات مصداقية مثل غيرها، في ظلّ حالة فقدان السيادة الوطنية. كان على القوى الوطنية الصادقة أن تفكّر في القضايا الوطنية الشاملة التي تمثّل إكراهات التغيير الحقيقية للمشهد المجتمعي التونسي، وأن تعتبر من أخطائها ولا تضع رؤوسها في الرّمل، لأنّ أغلب هذه الصّراعات، وعلى مدى ثماني سنوات، لم يجْنِ منها الشّعب إلا مزيدا من التّهميش والتطبّع مع سياسات الإذلال، ولم تعد النّقاشات السّياسية والانتخابات بالنسبة إليه تعبّر إلا عن أنّ هذه العقول” تتقيّأ واقعا لم تقْوَ على هضمه، حتى بات العملاء و “شواذ المجتمع” هم الذين يقودونه. لقد طفح الكيل وبلغ السّيل الزّبى، وأصبح مناخ البلاد مُشْبعًا برائحة الفناء الإرادي واللاإرادي معًا، ولم يعد يتمتّع فيها بالسّعادة إلا الذّباب !

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023