من كان يتوقّع قبل عشر سنوات أن يكون من اليمن هذا الذي نراه؟ أذكر سخرية مدوّنين تونسيين من جماعة الحوثي وتوقّعهم أنّه يقضى عليها خلال أسابيع. في السياسة أيضا وفي صراعات النفوذ هناك ذلك الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبرّه. فقط نغيّر الله بالتّاريخ وسنفهم أكثر. من الناس من هم استثناء وهم كذلك لأنهم يختلفون شكلا وكمّية ولذلك يزدريهم الناس ولا يقيمون لهم وزنا ولكنّهم يمقاييس أخرى يزِنون ويؤثّرون بل إنّ الله يراهم ولا يرى غيرهم.
التّاريخ هكذا أيضا يفعل في الإستثناء المتشكّل جماعة أو مجتمعا أو دولة، بمرّات شخص بمفرده يكون ذلك الإستثناء فتحيط به جماعة وتتّسع الجماعة مجتمعا وهكذا الى سعة انتشار مذهلة بوقت قياسي. ما القانون الذي يحكم هذه الظاهرة المتكرّرة وما المعرفة التي يمكن أن نخلص منها ومن تكرّرها؟ قد نذهب في اتّجاه أنّ ذلك من ارادة الله وقد نترجم بلغة لائكية فنقول أنّ ذلك من مكر التّاريخ. ليست العبرة بالتسميات عندما نروم فهما. هذا من ناحية أما من ناحية اخرى فارادة الله تماما كمكر التاريخ سنن وقوانين. أعتقد أنّ فيزياء الكمّ غير فيزياء الكيف تماما كما أنّ انسان الكمّ غير انسان الكيف. العقول ايضا والادراكات وغير ذلك بين قطبي الكمّ والكيف. ما الانسان؟ كمّ لجهة جسمانيته وماديته ولكن به نفخة روح هي كيفه أو كيفيته. اذا حوّلنا الى القاموس اللائكي سنقول الذكاء أو العبقرية كيفا بدل الكيف الروحي. بنيويا لا فرق اذ في النهاية نلحظ التقابل: كمّ/كيف. القطبان ديناميتان وجوديتان تنفصلان وتلتقيان وتصطدمان وتتوزعان في الزمان وفي المكان وتتشكلان في مستوى الذوات والجماعات والمنعطفات التاريخية. لو تعطّل الاستثناء ماذا يكون؟ يكون الثبات وتتوقف الحركة.
جوهرا يقوم وهم نهاية التاريخ على اعتقاد بإمكانية سحب الكيف من التداول وخنق الإستثناء بخنقه. قوام هذا الرّأي أنّه لا وجود لقوانين محيطة ومهيمنة وأنّ القوانين هي تلك التي يفرضها ويثبّتها الإنسان. عمليا، من يحلم هكذا لا يسعى في غير فرض نموذج يكرّره كمّيا ونسف كلّ اختلاف عن النموذج المراد. واقعا، يحصل العكس فالذهاب بالكمّي الى حدوده القصوى يستفزّ الكيفي الذي هو قطب وجود بالقوّة ضرورة وبلحظات يكون كذلك بالفعل. عندما تستأسد الكمّيات ولا ترى غيرها قوّة وفعلا تنفجر بوجهها الكيفيات خروجا من قوّة (أي كمون) الى فعل (أو ظهور) ونحن الآن نخرج من طور كمّيات الى طور كيفيات. من اليمن الى لبنان الى فلسطين لا ارى تطوّر الأحداث الّا بهذه العين. السلاح والمعارك وخطط السياسة وصراعات الطاقة ليست الا تشكّلات، ليست هي الجوهريات ولا هي المناطات الوجودية والمعنوية الأساس.
نظرت الملائكة في الخلق الإنساني من زاوية التشكّل الكمّي فسألت: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء؟ نظرت هكذا لأنها تسبّح وتقدّس وهكذا تشكّلها وهكذا كمّها النوراني. الله تعالى يعلم عن الإنسان ما لا يعلمه غيره، يعلم عنه قابلية الإستثناء وكنز الكيف، يعلم عنه حرّيته واستحالة قولبته ونمذجته. من الغريب أنّ الواحد ينطلق في فهم الإنسان بمقدّمات ايمانية وينظر في الإنسان نظرة كمّية ويقولبه. الأشعث الأغبر تذكير للمؤمنين قبل غيرهم أنّ الأشكال والقوالب فتنة ومهلكة. انظروا ماذا صنع التديّن السعودي وماذا أثمر في مستوى الأداء الذاتي والجمعي؟ ورّث الذلّ والإستكانة وضخّم البطون وأشاع العربدة. ماذا أثمر التدين اليمني؟ نخوة عزة جرأة طموح. لا أقصد بالتدين اعتناق مذهب ودين . هذه أيضا أشكال. ذبح مسلمون الحسين واستشهد بين يديه ومعه نصراني. أقصد بالتدين حالة ذهنية نفسية تأخذ من كمّ الى كيف أو من كيف الى كمّ. لا يستقيم الدين الا حركة كلّية من كمّ الى كيف، غير ذلك هو ضرب من الكفر. وبالعودة الى اليمن: أحسب والله أعلم أنّ اليمنيين سيلعبون أدوارا متقدّمة ويضطلعون بمهمّة احيائية حيوية.
قلت في بداية الاحداث وقبل أن تبدأ الحرب انّ جماعة الحوثي ستغيّر الخليج وتدشن عروبة جديدة. وقتها لم تكن هناك صواريخ ولا مسيّرات. الآن عندهم من هذا وأكثر. هم بحكم الفقر المتوارث الأقلّ تورّطا عربيا في الكمّيات وهم ورثة كيفية قديمة لعبت دورا مجيدا في تاريخ العروبة والاسلام. ليس سهلا بزمن كالذي نحن فيه أن تهدد جماعة سفنا حاملة للنفط والطاقة كما نرى ونشهد هذه الأيام تتحوّل هستيريا. لا طاقة يعني لا انتاج ومن ثمّة لا كمّيات. غير أنّ حياتنا الأرضية ليست جنّة كيفية. لا يكون الكيف كيفا الا اذا كان برقا، لحظة. الكيف واحة بصحراء لا نهاية لها. الحياة بلاء ومكابدة وأمد مرير. مع ذلك فإنّ شرف وعي الانسان اذا وفّق الله وبارك أن تكون عقيدته ثابتة لا تتزعزع في الكيف والاستثناء. القضية ليست أن تكون مع هذا أو ذاك بمعركة أو حرب. القضية أن تكون في معركة الوعي انسانا بك حنين الى النافخ فيك ومركّبك كيفا ومعنى، غير ذلك التاريخ هو التاريخ، دول وتدافع وتداول. الحمد لله أننا سنشهد تهاوي الكمّيات ويقظة الكيفيات بما يجدّد الأمل في الانسان ويقوي اليقين في حكمة الله خالق الانسان.