وأجمعت آلة البطش الصهيونية الكولونيالية على إفشال أهداف مسيرة العودة في ذكراها الـ42 التي اتسمت بطابع سلمي شعبي منذ انطلاقتها في الثلاثين من آذار. حيث ترى «إسرائيل» أن أهم الأهداف يتمثل في قدرة الفلسطينيين في قطاع غزة على إيصال رسالتهم إلى المحافل الدولية، ونقل القضية الفلسطينية من الواقع الإقليمي الحالي إلى الواقع الدولي والأممي، وتالياً عودة القضية وحق العودة للفلسطينيين إلى أجندة السياسة الإقليمية والدولية ما يسبب إحراجاً لـ«إسرائيل».
ومن جملة الأهداف التي تقلق الاحتلال الإسرائيلي تمكن الفلسطينيين من تصوير جيشها يطلق النار والرصاص الحي ليقتل الفلسطينيين المدنيين، وأيضاً النجاح في تسليط الضوء على الأزمة الإنسانية بسبب حصار غزة المستمر منذ أكثر من عشر سنوات وإعادته من جديد إلى صدارة الاهتمام الدولي بالرغم من أزمات المنطقة، وكذلك تحويل نقاط ومناطق التماس مع العدو إلى مراكز احتكاك جديدة بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي من أجل استعادة الطابع الشعبي السلمي للصراع الذي يخوضه الفلسطينيون، ناهيك بأن مسيرة العودة ربما تتمكن من خلط الأوراق أمام المشاريع التسووية، وعلى رأسها صفقة القرن للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وعلق الخبير الإسرائيلي في شؤون الإعلام والأمن يوني بن مناحيم على هذه المسيرة بالقول: إنها «استراتيجية جديدة للمقاومة الفلسطينية بعد انتفاضات الحجارة والسكاكين والسلاح الناري، وقد أتى الدور اليوم على انتفاضة الجماهير المحتشدة من خلال مظاهرات ذات طابع سلمي، وبذلك ارتدت الفصائل الفلسطينية زياً جديداً من الثورة الشعبية».
ويبدو أن العقلية الصهيوينة لم تنظر إلى هذه المسيرة على أنها فعل عفوي منفصل عن سياقات الفعل الكفاحي الشعبي الفلسطيني، فقد استحضرت لديهم الأسابيع المتتالية لـ «مسيرة العودة» ذكرى الانتفاضة الأولى التي اندلعت شرارتها الأولى في قطاع غزة في العام 1987، وما شكله أبناء القطاع من مقاومة شرسة خلال العقود الثلاثة الماضية، وهو ما دفع البعض من المراقبين الإسرائيليين إلى المقارنة بين انتفاضة الحجارة ومسيرة العودة والتأكيد على أن «قطاع غزة أثبت خلال أحداث «مسيرة العودة» ما كان معروفاً في الانتفاضة الأولى، حينها كان القطاع هو من خلق الثورة، بإخراجه الشيوخ، والنساء، والأطفال للشوارع وأعطى تعبيراً حقيقياً لقوة البعد الجماهيري.
الأزمة المتفاقمة، والظلم الواقع على غزة، هي مواد حارقة تخلق رواسب وتنفجر حين ينضج الوقت يصبح السبب المباشر قائماً». وضمن هذا الإطار كشفت المسيرة عن مدى وحشية الجيش الذي «لا يقهر»! والذي استخدم الرصاص الحي في مواجهة المدنيين العزل الموجودين على السلك الشائك الفاصل، وقتل العشرات وجرح المئات منهم، وبينت مستوى الهواجس التي يعانيها من جراء استمرار مسيرة العودة وسعيها لتوسيع إطارها السلمي الشعبي في الداخل الداخل والداخل الخارج. الأمر الذي جعل منظمة (بتسيلم) الإسرائيلية التي ترصد حقوق الانسان في الأراضي المحتلة العام 1967 تطالب جنود الاحتلال الإسرائيلي برفض أوامر قادتهم العسكريين بإطلاق النار على المتظاهرين العزل ما جعلها عرضة لهجمة شرسة من وزير الدفاع افيغدور ليبرمان والأغلبية من قادة الأحزاب الصهيونية من الائتلاف والمعارضة، ووصف المنظمة بـ«الطابور الخامس، والمرتزقة الذين باعوا ضمائرهم للفلسطينيين».
وعكف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إزاء ذلك الى التباهي بجيشه «الذي لا ينافسه أحد في العالم بأخلاقياته»، وكأنه لم يكن في حسبانه وقادة أركانه أن العالم يرى ممارسات الجيش الإسرائيلي على الشاشات وعلى مختلف منصات التواصل الاجتماعي وأن القضية الفلسطينية عاد إليها ألقها ورونقها الكفاحي بعد أن ظنّت «إسرائيل» أنها استطاعت تغييبها ولم يتبقَ إلا إعلان وفاتها على المسرح الدولي.
من الواضح أن ردة الفعل الإسرائيلية الدموية ضد مسيرة العودة التي من المقرر أن تستمر بأسابيعها حتى 15 أيار الذكرى السبعين لنكبة فلسطين تأتي بسبب إثارة مسألة عودة اللاجئين وإعادة طرح مسألة عودتهم أكثر من الخوف من المسيرات في حد ذاتها، لأن «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الأطراف الدولية والإقليمية يريدون عدّ مسألة عدم عودة اللاجئين من الأمور المحسومة، واعتبار مجرد التطرق لهذا الحق تهديداً وجودياً مرفوضاً لـ«إسرائيل»، فهو حق لا يحمل صفة العودة بالمفهوم المجرد بقدر ما كان يعني ومازال في ضمير الوجدان الفلسطيني والعربي بمنزلة العودة لاسترداد السيادة من على قاعدة الحقوق المعروفة المثبتة في إطار الشرعية الدولية، وهو ما يتخوف منه الكيان الصهيوني ويعده تدميراً لدولته المزعومة بالوسائل الديموغرافية.
لقد وجّهت مسيرة العودة رسائلها المخضبة بدماء الشهداء وبالتضحيات الجسام معلنة التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية وعدم التفريط بها، وعلى رأسها حق العودة أولاً والتضامن مع أهل الأرض ثانياً، ورفض الحصار ثالثاً ونبذ الانقسام رابعاً، وأثبتت أن الإرادة الشعبية تستطيع أن تتحدى السياسات الدولية والأمريكية على وجه الخصوص لدرجة تهديد الكيان الصهيوني سياسياً وأمنياً وفكرياً.
رسائل واضحة إلى المجتمع الدولي مفادها أن الشعب الفلسطيني بكل أطيافه وفصائله شعب أعزل عانى منذ سبعة عقود من التهجير القسري والتشتيت والدمار الذي لحق به من آلة الموت الصهيونية، يستطيع أن يجترح من عمق آلامه ومعاناته مسيرة سلمية جمعت وألّفت بين قلوب القاصي والداني في مشهد جلل فاق جميع التوقعات.. ونبه الجميع إلى العمل على مواصلة مسيرة العودة والحفاظ على ديمومتها السلمية وفضح ممارسات الاحتلال وضرورة توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني أمام آلة العدوان الصهيوني المستمر.