استلاب الآخر.. التطبيع من زاوية فرويدية… بقلم موفق محادين

ما هو التطبيع الثقافي؟ وأين إشكالية مفهوم التطبيع، وخصوصاً الثقافي؟

التطبيع علاقة وبنية مثقف تقليدي، بالمعنى المضاد للمثقف العضوي في إيديولوجيا غرامشي، ولا يمكن أن نتعرف إليه أو نترجمه في حالتنا بمعزل عن نقيضه، لا بالمعنى الصوري، ولا بالمعنى الجدلي.

ثمة اشتباك معرفي بينهما يجنبنا ضلالات الدورة الدموية الفاسدة التي لا تلحظ عطالتها بوصفها شديدة الصلة بدينامية الآخر، ونشرها على حبل غسيل مكتظ بعوادم السيارات والمارة المتطفلين، وبيعها أو سرقتها لصالح الأجندة السياسية القابلة للتأخير، والوكالات الشفافة التي يتقنها المنبتون المتعجلون على ما تيسر من موائد الرحمن والسلطان، وذلك على ذمة ماركس في الثامن عشر من برومير بونابرت.

ومن المفترض أن هذه الملاحظة ظاهرة، وبما يكفي للعيان، وليست حبراً سرياً في ملفات أحد…

يقال دائماً في هذا الصدد بالذات، إن “البروسس” المستعار من “الإيدولوجيا الألمانية” و”أنتي دوهرنغ” التي تعجب جيل الرومانسيين الثوريين هي مصدر ما اصطلح عليه لاحقاً بالإشكالية (التوسير، عامل). ومن ذلك إشكاليتنا في حكاية التطبيع، بوصفها التباساً ناجماً عن إسقاطات أو إقحامات “البروسس”…

وسواء كانت البنية علاقة مفتوحة على امتدادها الحتمي، أو زمناً من دون مقدار للحركة، ودائرة مغلقة على نقطة صفر دائمة، وفي كل لحظة، فإن “البروسس” هي التي تحدد الإشكالية، وليس العكس.

والفرق بين الاثنتين هو الذي جعل موت أخيل موتاً حتمياً من كعبه الجاف، إذ لم يكن بارس قادراً على إصابته، لو سقط أخيل تماماً في نهر ستيكس.

هل نبالغ إن قلنا إن البروسس الذي اصطدم مع جدل الطبيعة وماركسية الثكنات كان ضرورياً ومهماً للصياغة الحاسمة في رؤية العلاقة التاريخية الموضوعية بين البنى المختلفة وكسر لعبة الأواني المستطرقة الرخيصة للغاية؟

ليست المسألة، إذاً، كعباً مضموناً بشركة تأمين مقدسة ولا جملة معترضة، فهذا ما يوحّد المطبّعين وخصومهم، ويحول الإشكالية المعرفية، بل والبروسس نفسه، إلى التباس سياسي، وبالتالي إلى تواطؤ داخلي، لا تؤكده الاتهامات والشتائم المتبادلة.

التطبيع من زاوية فرويدية

من الملاحظات السريرية المبكرة التي توصل إليها فرويد، أن مرضاه الذين يعانون من الانفصام، غالباً ما يعانون من إحساس ما بالذنب، ويتصرفون بتشنج واضح كلما وجدوا أنفسهم في صورة هذا المشهد، وتتسم “مقاومتهم” لذلك بردود فعل “طفولية”، هي كل ما تبقى لهم من المخزون البدائي.

ويرى فرويد أنَّ تواصل هذا الإحساس مع تواصل “المقاومة المضادة” ينتهي بهم غالباً، وبحسب كل حالة، إلى واحد من احتمالين: التسامي، كتكفير عن ذلك، أو التصعيد العدواني.

وتتفاقم هذه العقدة عند المطبعين، بالنظر إلى الوجدان الجمعي التاريخي المعادي للإسرائيليين.

وكثيراً ما لفت انتباهي أن رد الفعل لدى الكتاب والفنانين والسياسيين المتهمين بالتطبيع، يعزز لديهم الانفصام، ويحول التصعيد الفرويدوي إلى عبء نفسي عليهم.

فموقفهم، كما يقولون، ليس إلا تأكيداً على مناهضة التطبيع، والحوار مع الإسرائيليين ليس إلا مدعاة لكشف البنية الإسرائيلية العدوانية وتمزيق صفوفها…

ويبالغ بعضهم جداً، تحت ضغط انفصام شديد التعقيد، ويذهب إلى أن الحوار مع الإسرائيليين ليس إلا معركة أخرى، في الواقع، تحتاج إلى حذاقة من نوع خاص، لا توجد عند المقاومين العاديين المفطورين على الكراهية العمياء!

هذه الظاهرة في علم النفس تُسمى ظاهرة الانزياح العنيف التي تختلط فيها الإحالة بالتماهي المزيّف بين الأنا والأنا القامعة، فيطلقون النار في كل الاتجاهات من دون أن يغادروا موقعهم الحقيقي، ولا يتوانون عن شن “هجمات مضادة” محمولة على احتياجات نفسية معروفة تؤكدها مبادرتهم، هم أنفسهم، لإثارة موضوع التطبيع، كلما تعرضوا لأسئلة حول روابطهم ونقاباتهم التي تتهمهم بذلك، ويتهمونها في المقابل بعقلية المصادرة والركون إلى التقاليد الغابرة.. أقصد القرن التاسع عشر المفضّل لديهم كنموذج بائد.

التطبيع والحكمة

أفضل المطبعين هم الذين يعلنون ذلك جهاراً نهاراً، ولا يدخلون في سفسطة مع أحد، لا باسم ميزان القوى، ولا باسم أبناء العمومة، ولا باسم العصر والرياح الأميركية العاتية، وأقلهم سوءاً على الإطلاق، هم الذين يتمتعون بحكمة لا تضاهى في الدفاع والاتهام على حد سواء، ويذهبون في غيّهم أكثر من اللازم، ويصدقون أن الناس على درجة كافية من الاستغفال.

هل يعود ذلك إلى قراءة الفلسفة الإشراقية؟ لا أظن ذلك من زاويتين: عدم اهتمامهم بها، وعدم تأثير هذه الفلسفة فيهم (نيتشه وزرادشت، هرمان هيسه وبوذا، بريخت والهادي العلوي وفراس سواح، وكتاب الحكمة المعروف بـ”التاو”).

وفي كل الأحوال، وسواء كانت الحكمة المذكورة ناجمة عن زيادة الأملاح المعدنية أو عن نقص السكر أو عن نقص الإدارة، وسواء كان بالإمكان اكتسابها عن طريق الخضوع تحت “أشجار اللوزية” والتمرينات البوذية أو عن طريق الحقن في اللسان أو الكبسولات والأقراص الملونة، فإنني أجزم، وبضمير مرتاح، أن هذه الظاهرة هي ظاهرة محلية بامتياز، وتفسر “المنهج الوسطي” الذي يقال كثيراً إنه منهجنا.. أقصد منهجهم..

وهذه ميزة أُخرى لا يشاركنا فيها الجيش الجمهوري الإيرلندي وسكان الباسك، الذين يحنّون إلى جيش قشتاله، حيث خسرنا هذه المستعمرة ذات يوم بسبب الحكمة على جسر غرناطة، وحيث نخسر كل يوم ما تبقى لنا تحت نجمة الجليل.

 

المصدر: الميادين

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023