الثروة الوطنية المخفية: حوار خاص مع درة السلطة التشريعية وما خفي كان أعظم 

هي  شخصية  تبدو لك للوهلة الأولى عادية، لكنك لما تقترب منها تجدها جريئة متمكنة فتبحر في زادها المعرفي في خصوصيات نجهلها لم تخرج للنور وتكاد تتعفن في حقيبة الحقائق

شخص بسيط في عيشه اليومي، لكنه عبقري في إدارته للملفات والمسائل التي بين يديه.  من أفضل امتيازاته أنه يحسن الإستماع للآخرين ولا يتكلم إلا قليلا، أما إنجازاته فهي كثيرة رغم قلة الموارد والإمكانيات , فهو يؤمن بأن الوطن يحتاج إلى العمل والإنجاز في كل المواقع دون انتظار جزاء أو شكور: إنه السيد بسام العلبوشي مستشار الشؤون الشبابية والتربوية والثقافية بمجلس نواب الشعب التونسي .

تتبعنا خطواته في مجلس النواب وإستمعنا إلى إستشاراته في لجنة التربية وقرأنا دراساته القيمة، فإكتشفنا فيه قدرات معرفية عالية وقدرة على التنسيق والتواصل خارقة للعادة. ولفتت إنتباهنا قدرته على بلورة المقترحات العملية التي تغير من واقع العديد من القطاعات الإستراتيجية في بلادنا. ومن المؤكد أن الشخصية التي تمتلك المعرفة وتجيد التواصل والتنسيق وتتملك موهبة إستنباط الحلول التطويرية لا يمكن أن تكون إلا درة تزخر بها مؤسسات الدولة التونسية،  وطاقة تحتاج بلادنا إلى الإستثمار فيها في مواقع متقدمة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها .

وحتى نتعرف أكثر على السيد بسام العلبوشي، إتصلنا به وكان لنا معه الحوار التالي :

أولا نشكرك على إستجابتك لهذا الحوار الذي أردته خارج أسوار المجلس. فلماذا هذا الاختيار ؟

شكرا لك، ومن خلالك أتقدم بالشكر إلى كافة مكونات السلطة الرابعة التي أضحت اليوم مفخرة لتونس ومصدر إعتزاز لما تقدمه من مجهودات جبارة في إنارة الرأي العام وتوعية المجتمع وإخراجه من ظلمات التعتيم إلى نور الحقيقة. أما بخصوص إختياري الحوار خارج أسوار المجلس فهو من باب إحترام المجلس نفسه لأن كل وقتي مسخر للعمل داخل المجلس،  ولا أقبل، مع إحترامي الشديد لكم، أن أهدر أي زمن برلماني في غير العمل البرلماني .

السيد بسام العلبوشي، لو تعرفنا بنفسك

أنا أصيل ولاية جندوبة، ولدت بها وترعرعت فيها وقضيت في ربوعها أفضل فترات حياني. أنا متحصل على شهادة الماجستير في إختصاص تاريخ العالم المتوسطي المعاصر وحضارته وخريج المدرسة الوطنية للإدارة ومستشار الشؤون الشبابية والتربوية والثقافية بمجلس نواب الشعب ورئيس وحدة الشباب والتربية بالمجلس. هذا من الناحية المهنية، أما من الناحية التمثيلية فأنا عضو المجلس البلدي لبلدية بومهل حيث تم إنتخابي ضمن تركيبة المجلس البلدي في الإنتخابات البلدية الأخيرة. أما من الناحية الإبداعية والبحثية، فأنا مؤلف لبعض الكتب والمجموعات الشعرية ومنجز لبعض الدراسات في مجالات التربية والرياضة والشباب والثقافة والوظيفة البرلمانية…

إذن أنت تجمع بين ثنائية التعيين والإنتخاب. فأنت منتخب ومعين في نفس الوقت. أليس في هذا تناقضا ؟!

فعلا، أنا معين ومنتخب في نفس الوقت. ولا أعتبر في الأمر تناقضا بل إن في ذلك إثراء لشخصيتي. فمفهوم المعين هو ذاك الذي ينفذ تراتيب ما وينجز أفعالا ضمن دائرة الإلتزام بالتراتيت والإجراءات المسطرة. أما المنتخب فهو الذي يمارس السياسة في مفهومها النبيل بإعتبارها درءا للمفاسد وجلبا للمصالح. وإن جلب المصالح يقتضي من المنتخب أن يتيح افاقا جديدة لجهته أو وطنه تتجاوز حدود التفكير الإداري المقيد وتتعداه إلى مستوى التفكير الذي يتيح حلولا للمشاكل وتأثيرا في تغيير الواقع المعاش .

ومتى تمكن الإنسان من الجمع بين هذين البعدين فمن المؤكد أن ذلك سيعود عليه وعلى وطنه بالنفع والخير .

نعود إلى صفتك كمعين في مجلس النواب. أنت تترأس وحدة تعنى بخمسة قطاعات هامة وهي التربية والتعليم العالي والشباب والرياضة والثقافة والتكوين المهني والتشغيل. فلماذا الجمع بين هذه القطاعات، وهل لكم رؤية مستقبلية حولها ؟

الخيط الرابط بين هذه القطاعات هو كونها تشكل جميعها قطب منظومة الموارد البشرية في بلادنا. وهذا القطب هو مستقبل تونس بلا ريب، فهل يبنى وطن عظيم دون تربية سليمة ومتوازنة وشباب واعي ومتملك لأدوات العصر وثقافة تجمع بين الأصالة والإنفتاح. وشخصيا إيماني عميق بأن هذه القطاعات الإستراتيجية هي التي ستكون عنوان نهضتنا الحقيقية متى أوليناها العناية التي تستحق .

ففي مجال التربية لا تزال خطوات الإصلاح التربوي بطيئة وغير واضحة المعالم. وقد إقترحت أن يكون هذا الإصلاح متضمنا للمبادئ الأساسية التالية : ضمان تكافؤ الفرص،  مراجعة الخارطة المدرسية، تطوير كافيات الموارد البشرية، تطوير مكتسبات المتعلمين، تطوير الحياة المدرسية، إعادة هيكلة التعليم الإعدادي والثانوي، التصدي للفشل الدراسي والانقطاع عن الدراسة، تطوير توظيف تكنولوجيات الاتصال في النشاط الدراسي، تكريس مبادئ الحوكمة صلب المنظومة التربوية.

ولأن أي إصلاح لا ينجح إلا إذا سبقه تقييم وتشخيص للواقع، فقد قدمت تقريرا تقييميا لمسار الإصلاح التربوي على عدة مستويات وخاصة منها على مستوى المضمون وعلى مستوى الأولويات وعلى مستوى مناخ تطبيق المضامين وعلى مستوى ضرورة إعتماد مقاربة إدماجية في المشروع الإصلاحي التربوي ينخرط فيها بفعالية التلميذ والمربي والإطار  الإداري والولي والوزارة والنقابة على حد السواء .

أما في المجال الشبابي، فإن الشباب التونسي يحتاج إلى من يجود تعليمه ويسهله على المتلقين، يحتاج إلى ثقافة القرب، يحتاج إلى مأسسة محلية للتواصل مع الشباب، يحتاج إلى قيادة حملة مصالحة وطنية للشباب مع موئسات الدولة ورموزها … وهذا كله يحتاج إلى جهد جماعي يعكف على تفصيله ضمن برنامج عمل يتم إنجازه فالإنطلاق في تنفيذه فمتابعته و تقييمه مرحليا .

أما بالنسبة للتشغيل والتكوين، فالآليات كثيرة غير أنها تفتقد إلى النجاعة المطلوبة من ناحية التعريف بالبرامج لدى فئة المعطلين عن العمل، ومن ناحية أقلمة محيط الشغل مع متطلبات تنمية الإقتصاد المحلي، ومن ناحية تحويل الشهادات ذات الضعف على مستوى التشغيلية إلى قوة تدعم الإقتصاد. فالإقتصاد لا يحتاج فقط إلى مهندسين ومختصين في المجالات العلمية بل يحتاج أيضا إلى فكر يؤطر المحتوى التكنولوجي للإقتصاد ويتيح له افاقا أخرى، ويحتاج إلى تملك للغات العصر وإلى بعد إنساني يكيف الإقتصاد وفق حاجيات المجتمع. إذن فنحن قادرون اليوم أن نخلق منظومة تكوين وتشغيل تستوعب الجميع ويكون للجميع فيها دور فاعل وإيجابي .

أما في مجال الثقافة، فإعتقادي راسخ أن الثقافة ليست مجرد حفلات ومهرجانات صيفية وندوات فكرية ، بل هي سلوك يومي يتجذر لدى الناشئة منذ سن التمدرس حتى تتربى الناشئة على مفهوم الفكر المستنير والمتوازن. والثقافة سلوك يومي عليه أن يتجذر أيضا في مواقع العمل، ويمكن للمنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف أن تدفعا بنسق أكبر في هذا الإتجاه عبر برامج هادفة تكرس ثقافة العمل وثقافة الإنتاج والمثابرة من أجل الإرتقاء بهذا الوطن في كل قطاع لما هو أفضل وأحسن. وأقصد من وراء كل  ما ذكرت أن رقي وطننا لا يتحقق إلا إذا لاحظنا حضورا للثقافة في كل مكان وفي كل قطاع،  لأن الثقافة بما تتيحه من قيم هي قوة الدفع الأساسية لكل تقدم .

أما في المجال الرياضي، فقد لاحظت غياب سياسة رياضية واضحة المعالم. لذلك كان مقترحي التسريع في إرساء الإطار التشريعي الذي يؤطر ممارسة الرياضة. وهذا الإطار يتمثل قانون الهياكل الرياضية الذي لا يزال لدى مصالح السلطة التنفيذية. إذن فمن المهم جدا وضع الإطار القانوني لهذا القطاع الذي يحظى بإهتمام الغالبية الساحقة للشعب التونسي ليتم في نفس الوقت بلورة إستراتيجية رياضية بحسب الأهداف القريبة والمتوسطة وبعيدة المدى. وعلى هذه الإستراتيجية أن لا تهمل ظاهرة العنف بالملاعب الرياضية، حيث قدمت في هذا الغرض دراسة مقترحية للحد من هذا السلوك المناقض للروح الأولمبية. وأعتقد أن معالجة هذا الإشكال هو في الحقيقة معالجة للمسألة الشبابية في تمظهراتها المتعلقة بسيكولوجية الشباب المقهور نتيجة لعوامل مجتمعية وإقتصادية وثقافية تراكمية. إذن فمن الضروري لما نتطرق إلى ظاهرة العنف الشبابي ( سواء في الملاعب أو أثناء الإحتجاحات أو عند قطع الطرق وتعطيل عجلة الإنتاج …) أن نفهم أولا ماهية هذا السلوك ومأتاه، ثم في مرحلة ثانية يتوجب وضع خطة معالجة شاملة ترتكز على قيادة حملة مصالحة شبابية مع الدولة وإدراج الشباب في الدورة الإقتصادية والإجتماعية في إطار من التربية على قيم التسامح والإعتدال وثقافة المواطنة.

ولهذا وكما ترون، فالمسالة الشبابية ليست بمعزل عن المسألة التربوية أو الثقافية أو التشغيلية. فهي كلها تشكل قطبا واحدا لا يمكن أن تشتغل أجزاؤه بشكل صحيح إلا في إطار من الإنسجام والتناسق فيما بينها .

بمناسبة تطرقك إلى موضوع التنسيق، ألا ترون أن أهم معضلة تعاني منها السلطة في الوقت الحاضر هي ضعف التنسيق والتواصل ؟

بالتأكيد أن أهم عامل للنجاح الجماعي هو التنسيق الجيد. ومتى غاب هذا التنسيق أو ضعف إنعكس ذلك حتما على مستوى الأداء والمخرجات الجماعية. وللتنسيق ممهدات تنطلق بتأسيس الهياكل الحكومية ممثلة في الوزارات، حيث أعتقد وأكرر أن تجميع الوزارات في إطار أقطاب يمثل ممهدا أساسيا لتسهيل التنسيق.

ثم إن التنسيق والتواصل هما فن وموهبة لا يمكن أن يجيدهما أيا كان. ومن له موهبة ما في مجال ما فمن الطبيعي أن تجده يمارس موهبته بشغف. أما أن يمارس شخص ما التنسيق والتواصل على أساس أنها مهنة يقتات منها فحسب، فمن الصعب أن تكون نتائج التنسيق إيجابية. بمعنى أن أهم عامل لنجاح التنسيق هو تعلق المنسق بالمشروع الجماعي. وهذا التعلق بإنجاح المشروع يولد – متى كان راسخا في وجدان المنسق – قدرات مهولة في ربط الصلة وتوليد الحلول والآليات الناجعة والبرامج المثمرة. كما أن التعلق بإنجاح المشروع يبعث لدى المنسق طاقة كبيرة في العطاء. ولهذا السبب وحده نلاحظ كيف أن روح التعلق بالمشروع الجماعي مرتفعة جدا بالبلدان المتقدمة بما يجعل العاملين بمؤسسات هذه البلدان يخصصون كامل أوقاتهم في مواقع العمل للعمل فقط وبجدية وبإتقان. أما في بلادنا فإن الوقت المهدور في أماكن العمل يصل إلى ثمانين بالمائة لأنه لا وجود لذلك المحفز المعنوي المتمثل في التعلق بالمشروع الجماعي بما يتطلب كما ذكرت سابقا إصلاحا شاملا يتم فيه إدماج بعد المواطنة وثقافة التصالح مع موئسات الدولة وقيم التملك الجماعي للمشروع الجماعي .

السيد بسام العلبوشي، دعني أقول لك أني إكتشفت فيك اليوم ثروة وطنية مخفية. فالحلول التي تقدمها في عدة مجالات هي من نوع السهل الممتنع. بمعنى أنها حلول ذات جدوى وفاعلية على مستوى الميدان ولا يمكن أن يتفطن لها أو أن يستنبطها إلا صاحب حكمة وكياسة. وقد أكدتم لنا اليوم أنك موهبة مميزة في طرح الإشكاليات والإجابة على أمهات القضايا الوطنية من خلال حلول عملية وإستراتيجيات مستقبلبة – لو يتم تنفيذها – فإنها سوف تكون مخرجا حقيقيا لبلادنا من عدة أزمات ظلت تراوح مكانها منذ سنوات. لذلك أليس من باب الوطنية أن يتم الإستثمار في شخصكم وفي القدرات التي تمتلكونها عبر تقلدكم لمهام في مواقع متقدمة

أنا على ذمة وطني لتقديم الإضافة في أي موقع. وإن الذي يعنيني بدرجة أولى أن ألعب دوري في المشروع الوطني الجماعي من أجل بناء تونس الجديدة المعتزة بتاريخها وبثورتها والمتعلقة همتها بالريادة في مختلف المجالات .

حاورته الصحفية الاستقصائية روضة الورتاني

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023