الحراك الشعبي في الجزائر، رؤية في الخصائص، والمآلات المتوقعة “من ذاكرة الحراك الشعبي في الجزائر”

بقلم فوزي حساينية: كاتب جزائري |

منذ بداية الحراك الشعبي في الجزائر يوم 22 فيفري 2019 كان محل متابعة واهتمام كبيرين من مختلف وسائل الإعلام العربية والدولية، وبطبيعة الحال من قِبل أجهزة الرصد والمتابعة، وأجهزة المخابرات لشتى الدول خاصة تلك التي ترى نفسها معنية بطريقة أو بأخرى بما يحدث في الجزائر، والسبب بيّن واضح فما يجري في الجزائر إن نجح في الوصول إلى تحقيق أهدافه، فهذا قد يفتح الباب  لشعوب أخرى في أن تتكلم فيما يخص مصيرها، وفي اختيار من يحكمها، وبالفعل فإن الحراك الشعبي في الجزائر- الذي سبقه الحراك الشعبي في السودان- تميزَّ بالعديد من الخصائص، أهمها:

أولا: الطابع السلمي، والطابع السلمي للمسيرات لايعني فقط أن الشباب الجزائري قد امتلك القدرة على ضبط أعصابه والتحكم في سلوكه ، وإنما يعني أيضا أن الشباب الجزائري قد أصبح أكثر وعيا بأن السلمية تمنحه المشروعية الداخلية والخارجية وتضفي على مطالبه رونقا وبعدا حضاريا وتُجرد قوى الظلام في الداخل وموجهيها في الخارج من أيَّة فرصة لتحويل المسيرات السليمة الحاشدة إلى مواجهات يستثمر فيها أعداء الوطن، وباختصار فالشباب الجزائري، برهن أنه يعي تماما أن إرساء الديمقراطية لا يتطلب زعزعة مؤسسات الدولة أو ضرب استقرار المجتمع، بل إن الحفاظ على مؤسسات الدولة، بتنظيفها من الفاسدين شرط لا مناص منه لتعزيز حظوظ الحراك في الوصول إلى مطالبه.

ثانيا: الطابع الوطني، وهنا نجد أن البعد الوطني الشامل الذي تميز به الحراك الجزائري،لا يتجلى فقط في أن كل ولايات الوطن كانت حاضرة من خلال المسيرات الحاشدة والمتجددة ، ولكن يتجلى هذا الطابع الوطني الشامل في مشاركة مختلف شرائح المجتمع من شباب ورجال ونساء وشيوخ وأطفال، موظفين ، وأصحاب المهن الحرة، كما يتجلى في مضمون وشكل الشعارات المرفوعة والتي أكدت على الوحدة الوطنية كخط أحمر، وكأرضية مقدسة تستند على المرجعية النوفمبرية، ورغم أنه كانت هناك بعض المحاولات من هنا وهناك لإقحام شعارات تشذ عن هذا الإجماع الشعبي الوطني الرائع إلا أن تلك المحاولات تم إحباطها سريعا بفضل يقظة وحيوية الشباب المنظم والمنخرط في فعاليات الحراك، وتكمن أهمية الطابع الوطني للحراك، في أنه وضع حدا نتمنى أن يكون نهائيا، لتلك المحاولات التي طالما استغلت معاناة أو تطلعات المواطنين في بعض جهات الوطن، لخدمة أجندات سياسية للجماعات المُتنفذة، ومن يقف خلفها من القوى الخارجية المتربصة.

ثالثا:الوعي السياسي الديناميكي المُتَجَاوِزْ، وبالفعل فقد أظهر المواطنون الجزائريون وخاصة الشباب منهم وعيا مُدْرِكاً لما وراء الظواهر المباشرة، وممسكا بخيوط ومواقع الألغام المزروعة، فعندما أدرك الشباب الجزائري أن مقولة الجمهورية الثانية هي مجرد فخ نصبته الأقليات الإيديولوجية لإعادة النظر في الطابع الوطني الموحد للدولة الجزائرية نبذ هذه الدعوة المفخخة سريعا ورفع إزاءها شعار جمهورية جزائرية نوفمبرية، وعندما راحت القوى الإيديولوجية  وممثلوها في مختلف وسائل الإعلام يضغطون من أجل الذهاب إلى جمعية تأسيسية، كفخٍ لطرح وتمرير المقترح الشرير حول الفيدرالية، رد الشباب الجزائري، بأن الوحدة الوطنية بطابعها الدستوري البسيط التي كرستها قرون التاريخ، وجهود الأجيال، وثورة أول نوفمبر، وحدة مقدسة، وأن الأمر حُسم بصورة أبدية،لارجعة فيها.

رابعا: من أهم مرتكزات قوة الحراك الشعبي في الجزائر، هو طابعه المدني الراسخ والجلي،بحيث انتفت كما سبق القول كل المظاهر التي يمكنها أن تؤشر أو تشير لطابع ديني أو جهوي ، أو ماشابه ذلك ، وكذلك سلمية الحراك واستخدامه للغة يفهمها العالم المعاصر بسهولة، مثل المطالبة بـــ : إنهاء سيطرة الفاسدين على السلطة، حق الشعب في اختيار من يحكمه، إنهاء هيمنة الأحزاب الفاسدة وممثليها على الشأن العام في البلاد،احترام مبدأ تكافؤ الفرص فيما يخص الوظائف النوعية المركزية وغير المركزية.إلخ.

ولكن علينا أن ننتبه ، فلأن الحراك الجزائري اتخذ هذا الطابع المدني السلمي، وأعرب عن مطالبه بلغة يفهمها العالم المعاصر، فهو لذلك سيعتبر في نظر بعض الجهات الخارجية عربية أو غربية مصدر تهديد محتمل،فيقظة الشعوب غير مرحب بها حتى ولو صدرت تصريحات تقول العكس…
للتوضيح والتدليل على ذلك ، يكفي أن نتذكر أنه وفي الليلة الليلاء التي اجتمع فيها بعض الخونة مع ممثلين عن السفارة الفرنسية في الجزائر للإعداد لخطة الانقلاب على مطالب الشعب عبر السيطرة على الجيش من خلال الانقلاب على قيادته، كان وزير الخارجية الفرنسية قبلها بساعات قد أشاد علنا وللمرة الثانية بالطابع الحضاري للحراك الشعبي في الجزائر، في حين كانت أجهزة مخابراته تحضر وتدبر لأمر خبيث في الليل و هكذا، ابتسامة فرنسية في الوجه، وسكين حاد ومسموم للطعن في الظهر، لولا وطنية ويقظة رجال لم يرضعوا الخيانة من حليب أمهاتهم..

خامسا: الخاصية الخامسة،والأساسية للحراك الشعبي في الجزائر هو أنه حراك دون قيادات، ففي الكثير من الحالات التي تتحرك فيها الشعوب تكون عادة هناك أحزاب سياسية ، وتنظيمات نقابية وشخصيات ثقافية أو سياسية مستقلة تتصدر الواجهة، وتعبر عن مجمل المطالب الشعبية، لكن الحراك الشعبي في الجزائر قد انطلق دون أي من الهيئآت  أو الشخصيات السابقة، بل لقد كان الحراك في جوانب منه وبالأساس موجها ضد الكثير من الأحزاب[1] والنقابات، وقام المتظاهرون في العديد من الولايات بطرد رؤساء أحزاب، وشخصيات حسبت نفسها أهلا لتمثيل الحراك أو التكلم باسمه،ويمكن تفسير هذا الرفض الصارم، والنبذ الواضح لوجود قيادة تتحدث باسم الحراك إلى الإرث السيئ الذي خلفته الأحزاب السياسية على مدى سنوات طويلة من وجودها وتحركها غير الناجع على الساحة السياسية، وتحول الكثير من هذه الأحزاب إلى ما يشبه المقاولات التجارية ولجان مساندة بدون مبادئ ولاقيم ولا عمل نضالي حقيقي،ولذلك فإن الحزب السياسي ، كتنظيم سياسي، في الجزائر سيحتاج إلى جهود خارقة، وعمل طويل لكي يستعيد بعض الثقة الشعبية التي أثبت الحراك الشعبي أنها اهتزت اهتزازا زلزاليا، وتضعضعت بشكل مأساوي.

سادسا: وآخر ما نشير إليه من خصائص الحراك الشعبي في الجزائر، هو الرفض الواضح لكل أشكال التدخل الأجنبي، ويُعد الإجماع الشعبي على إدانة ورفض وفضح أي محاولة من هذا القبيل من أكثر الظواهر بروزا وقوة وإثارة للإعجاب والاحترام من ضمن فعاليات الحراك، وقد عبرت الحشود الشعبية عن موقفها الرافض لكل أشكال أو محاولات التدخل من خلال العديد من الشعارات التي عكست الحالة الفكرية والقناعات السياسية المهيمنة والموجهة لسلوك المتظاهرين، منها شعار ” لا واشنطن لا باريس نحن من نعين الرئيس ” و ” يا ديغول هز أولادك، الجزائر ماشي بلادك ” و” جيش بلادي ياشجعان، أحمي بلادي من العديان “، كما أن الحراك الشعبي لم يتأخر أبدا في التنديد وكشف كل من حاول أن يتخذ من الإعلام الأجنبي وسيلة للبرروز وركوب ظهر الحراك، ويعد هذا الموقف الشعبي المشرف أحد العوامل الأساسية التي أحبطت كل المحاولات التي قامت بها مليشيا الأقليات الإيديولوجية التي سعت إلى إذكاء مشاعر التناحر والتباغض بين أبناء الوطن الواحد، أو رمت إلى التحريض ضد مؤسسات الجمهورية ورموزها عبر قنوات وأساليب مختلفة.

وإزاء هذه الخصائص الواضحة والمُلهمة التي اتسم بها الحراك الشعبي في الجزائر، لاشك وأن السؤال الذي ينطرح بقوة الأمر الواقع، هو السؤال المتعلق بالتطورات التي سيؤول إليها؟ وهل سينجح هذا الحراك الشعبي غير المسبوق في الوصول إلى أهدافه كاملة، أم أن ماسيتحقق سيتوقف عند حدود معينة لايتعداها ؟

بداية علينا أن نلاحظ أن الحراك الشعبي الجزائري لايزال حركة مطلبية يتوقفُ تجسيد مطالبها على جهات أخرى، ولم يصل هذا الحراك بعد ليكون حركة تفاوضية، تملك من يتحدث باسمها، ويتولى السَّهر على التجسيد الميداني لمطالبها وآمالها، وهنا نقف على الجانب السلبي لعدم وجود من يتحدث باسم الحراك ويمثله تمثيلا حقيقيا، ومن غير المتوقع في المدى المنظور أن يُفرز الحراك هيئآته التمثلية، لأن فكرة التمثيل في ذاتها كما سبق القول، أصبحت فكرة سيئة السمعة، قبيحة الصَّيت، فمفردة حزب أو برلماني أو نقابي غدت من أقبح المفردات في القاموس اليومي للجزائريين، وخاصة لدى الأجيال الجديدة التي لم تجد في الميدان وعلى مدار سنوات متتالية إلا جحافل من البرلمانيين، والحزبيين ، والنقابيين ، والمسؤولين، والجمعويين الذين لا يرمزون إلا لقيم النفاق والتملق والتزّلف، وخيانة الأمانة، والسعي لخدمة المصالح الشخصية ولو بالتحالف مع شياطين الإنس والجن، لكن غياب قيادة مؤهلة ومعترف بها لتمثيل الحراك، لم يؤثر جوهريا على المطالب الشعبية المرفوعة منذ بداية الحراك مما يكشف بالضرورة أن ثمة وعيا وطنيا، وضميرا جمعيا قد تشكل عبر تجذر الإيمان بحتمية إحداث تحولات عميقة في كيفية إدارة وتسيير شؤون الدولة والمجتمع، وليس مطروحا أو متوقعا أن يتخلى الجزائريون عن هذه التطلعات والمطالب المشروعة، أو أن يضعف اهتمامهم بها مع مرور الوقت كما قد يتوقع أو يأمل البعض، وبخاصة مع الموقف التاريخي الذي وقفه الجيش الوطني الشعبي وتأييده العلني والثابت للمطالب الشعبية، بل والمبادرة إلى توفير الحماية الكاملة لفعاليات الحراك عبر الوطن والمتابعة القضائية لجحافل السياسيين ورجال المال، وكبار الإداريين الذين تمخَّض عنهم حكم الرئيس بوتفليقة الذي أصبح الفساد في عهده آلية راسخة ولابديل عنها في تسيير شؤون الدولة والمجتمع،وهم أشخاص لم يكن من الممكن حتى التفكير في إمكانية محاسبتهم، لولا التناغم بين الشعب وجيشه، ولأن هذا التناغم بين الجيش والشعب قد أربك المخططات التآمرية للقوى غير الدستورية[2]، ومكَّن القوى الوطنية من قيادة هجوم مضاد للإطاحة بكبار عناصر العصابة الإجرامية، فإن التفريق بين الشعب والجيش قد أصبح هدفا رئيسا للقوى المضادة لمطالب الحراك الشعبي في الجزائر،وهي القوى التي لم تدخر وسعا في بث سمومها ودعاياتها يمنيا وشمالا، بغرض زرع الشكوك،وبلبلة الأفكار، وطمس وتشويه الحقائق، والتحذير الثعلبي المتُخابِث من الحكم العسكري، أو محاولة تركيز الهجوم على قيادة الجيش والزَّعم بأن القيادة ليست هي الجيش، وذلك كله بغرض تحويل الحراك أو بعضه من التظاهر ضد القوى غير الدستورية إلى التظاهر ضد الجيش الوطني الشعبي، ومن غير الموضوعي أن نقول أن تلك الحملات لم تحقق بعض النتائج، لكن ولحسن الحظ فذكاء الشباب،وقدرته على استعمال وتوظيف وسائط التواصل الاجتماعي،والدور المؤثر للمرجعية الوطنية في أبعادها القيمية والتاريخية والاجتماعية قد حدَّ وأفشل الحملات الإعلامية للقوى المضادة، وعوض العجز الأخلاقي والاتصالي الذي أبانت عنه مختلف وسائل الإعلام التقليدية في الجزائر، خاصة في الأيام الأولى للحراك الشعبي الهادر، فالجيش الوطني الشعبي نقطة ارتكاز أساسية- دون أن تكون الوحيدة – في تحقيق التطلعات الشعبية،ومن هنا فإن بعض الهتافات التي رددها بعض الشباب في الجمعتين الأخيرتين[3] بعدد من الولايات ضد قيادة الجيش كانت خطأ ومسلكا يكشف عن قلة البصيرة ، خاصة وأن بعض تلك الهتافات اتسمت بإطلاق الاتهامات جزافا والمبالغة فيها، فهل وقع اختراق الحراك ؟ مهما يكن ، من الغرور أن يعتقد البعض أن الحراك بمفرده يستطيع أن يُنجر أهدافه ، فكل انتفاضة أو حركة مطلبية شعبية، تحتاج إلى قوى داعمة – أو قوى لها نفس التطلعات – أو على الأقل قوى لا تتعارض رؤيتها للأمور  مع طموحات الشعب،وفيما يخص الحراك الشعبي الجزائري، فإن الجيش هو الحليف الوحيد الذي لاتتعارض رؤيته للأمور مع المطالب العامة للحراك، فالأحزاب السياسية في مجملها تجاوزها الحراك، بل إن غالبية الأحزاب تعد جزءاً من المشكلة وسببا رئيسا فيما آلت إليه الأمور من خلال احترافها لمسلك التزكية اللا أخلاقية لكل قرارات السلطة أو الصمت المتواطئ مع الاستفادة الدائمة من كل مزايا وامتيازات الريوع التي لاينضب معينها في مقابل الاضطلاع بدور المعارضة التي لا تعارض شيئا، إلى أن داهمها الحراك الشعبي،وفضح عجزها وتقصيرها ودورها السياسي الزائف، وليس أدل على صحة ذلك من هذا العجز المزمن الذي أظهرته مختلف التشكيلات التي تحب أن تصف نفسها بأنها أحزاب معارضة، إذ لم تستطع الاتفاق على أبسط الخطوات أو طرائق العمل المشترك، ليس بسبب تضخم الذات، وجنون الزعامة فقط، بل ولوجود عجز بنيوي في التشكيل الفكري والأخلاقي لمعظم التشكيلات السياسية والنقابية والثقافية في الجزائر، وهذا موضوع آخر..

ويُصِّر البعض على القول بمناسبة أو غير مناسبة أن الحراك الشعبي هو الذي حرر الجيش، وهذا صحيح إلى حد بعيد ، ولكن ينسون أن يذكروا أن تحرر الجيش جعله قادرا على توفير الحماية للحراك الشعبي، والإبانة عن قدر كبير من التناغم بين الشعب والجيش الوطني الشعبي، وهو أمر أخلط أوراق الكثيرين وأفسد مخططاتهم،كما اتضح وكما سيتضح أكثر مستقبلا، فالصراع متعدد الأبعاد، وتتداخل فيه قوى وجهات كثيرة، أغلبها لايريد الخير للجزائر والجزائريين، كما أن الصراع لايزال طويلا وعسيرا، لذلك من الخطأ والغباء أن يعتقد البعض أن التهجم على قيادة الجيش هو الطريق لاستكمال تجسيد مطالب الحراك أقول: لاستكمال تجسيد مطالب الحراك،لأنَّه من المستغرب حقا أن يزعم البعض أن الحراك الشعبي لم يحقق شيئا ، وأنا أعتقد أن الإغراق في المزايدة وحده هو الذي قد يسمح لنا بأن ندعي أن الحراك لم يحقق شيئا، وكيف يُعقل أن الحراك لم يحقق شيئا !؟ والعهدة الخامسة التي كانت ملئ السمع والبصر قد صارت في خبر كان، وجماعات المال الفاسد، وأحزاب الصعلكة السياسية التي كانت تراهن على هذه العهدة لمواصلة إحكام قبضتها على مقدرات ومصير الشعب الجزائري قد خسرت رهانها المقدس، وصار العديد من عناصرها وراء القضبان يُسألون عن آلاف المليارات التي جرى نهبها بكل جرأة ووقاحة، وآخرون كثيرون سيلحقون بهم على منصة المساءلة والمحاسبة، من وزراء وبرلمانيين وإدارييين ، جسّدوا الفساد في كل صوره، وكانوا عالة على الدولة، وخطرا على المجتمع ،ووبالا على الصالح العام، كيف يُعقل أن الحراك لم يحقق شيئا !؟وقد أصبحت قضية السيادة الشعبية، وحق المجتمع في الاختيار الحر والسيد لمن يحكمه، قضية تُناقش في الشوارع وفي وسائل الإعلام كقضية آنية ومركزية، بعدما ظلت طويلا مجرد حبر على ورق أو مفردة فارغة جوفاء تلوكها ألسنة بعض السياسيين المتصعلكين من دعاة الاستمرارية بغير حق،وعبدة الأشخاص الذين طوروا وبكيفية غير مسبوقة أشكالا مرعبة من الوثنية السياسية،وأنماطا مقرفة من التمجيد والمبايعة والولاء الصوفي المغشوش؟ كيف يُعقل أن الحراك لم يحقق شيئا، والصورة السوداء القاتمة التي طالما علقت بالأذهان عن الطابع العُنفي للشباب الجزائري قد نُسفت نسفاً بعد أن شاهد العالم كله الملايين تغزو كبريات المدن تتظاهر وتعلن مطالبها لساعات دون أن يقع حادث واحد ، علما وأن الصورة التي رسخت في الأذهان عن عنف الشباب الجزائري والمستمدة أصلا مما شهدته العديد من ملاعب كرة القدم من مظاهر العنف وسوء التصرف، في أشكال احتجاجية ليست بالضرورة مرتبطة بكرة القدم، بقدر ماهي تنفيس عن كوامن الاحتقان، وهواجس النقمة والغضب ضد من أهلكوا البلاد بمن فيها، والاستماع إلى الأغاني والأهازيج التي كانت تتردد كلماتها في مختلف الملاعب يعطينا فكرة مؤكدة عن مضمون وحقيقة هذه الاحتجاجات التي لم يكن لدى دعاة الوثنية السياسية القدرة ولا الاستعداد للإصغاء إليها، أو محاولة فهم أبعادها، وإذا فالحراك الجماهيري في الجزائر كتيار شعبي قد حقق إنجازات لاشك فيها،لكنها إنجازات لاتُمثل إلا جانبا من تطلعات وطموحات النسق الاجتماعي الذي يتطلع إلى دولة تحكمها شرعية القانون،وتتوفر على مؤسسات رقابية قوية،ويتمكن فيها المواطنون من انتخاب رئيس الجمهورية بطريقة ديمقراطية حديثة، دولة تستطيع أن تُوفر الشروط اللازمة لتقدم المجتمع،والاستغلال الأمثل للقدرات والكفاءات الهائلة التي تتوفر عليها الجزائر في مختلف الميادين،دولة جزائرية تكون قادرة على الاضطلاع بدورها الذي لابديل عنه في تجسيد وحدة المغرب العربي التي تمثل أمل الأجيال وحلم الشعوب، والإطار الأمثل الذي سيتمكن المغاربيون من خلاله، ليس من القضاء على التجزئة السياسية الراهنة فقط، بل ومن بناء نموذج حضاري جديد في حوض البحر الأبيض المتوسط.

وقبل أن أختم هذا المقال، أعود فأقول:

1- أن انطلاقة الحراك الشعبي في الجزائر كانت انطلاقة مباركة ناجحة، والمطلوب هو العمل والاجتهاد على استمرارية هذا النجاح بكل خصائصه التي توقفنا عند بعضها، ونأمل بحق أن يتمكن شباب الحراك من استغلال هذا الزخم الوطني الكبير، للخروج بمبادرات تأسيسية في مجالات السياسة أو الثقافة والإعلام..إلخ

2- من المهم هنا أن نتذكر جميعا أن الديمقراطية ليست مسيرات ومبادرات ومطالبات فقط،بل هي مسار طويل، ونضال ممتد ، وسلسلة من العقبات والامتحانات التي قد تكون شاقة مجهدة، بمعنى أن علينا جميعا أن نأخذ في الحسبان عامل الزمن كجزء لا يتجزأ في الوصول إلى الحياة الديمقراطية المنشودة، لأن محاولة استعجال بعض الأمور أو القفز على بعض الحقائق الموضوعية، قد ينجم عنها الكثير من المشاكل والسلبيات المُكلفة.

3- إننا إذ نشيد بدور الجيش الوطني الشعبي في حماية الحراك الشعبي، وفي حثِّ العدالة على فتح ملفات الفساد الكبرى، وقبل ذلك كله في حماية الوطن بحدوده المترامية والملتهبة في أجزاء طويلة منها،فإننا نتطلع ونأمل حقا وصدقا في أن يخطو الجيش الوطني الشعبي خطوات أكثر جرأة وانفتاحا في التفاعل مع تطلعات الحراك الشعبي خاصة فئآته الشابة التي ترنو إلى العيش في كنف دولة المؤسسات الديمقراطية والفصل الحق بين السلطات، والتكريس النهائي لمنظومة الحريات الفردية والجماعية والإرساء الرصين لآليات حماية وترقية حقوق الإنسان و أخلاقيات المواطنة،وترسيخ المساءلة التي لا تستثني أحدا من طائلة القانون.

4- إن الشعب الجزائري تعب كثيرا من المحاولات الفاشلة، والوعود غير الناجزة ذلك أن المحاولات التي بُذلت منذ استرداد السيادة الوطنية إلى اليوم لم تؤسس بعمق لدولة القانون والمؤسسات ولم تأخذ بعين الاعتبار المعايير التي تقوم عليها الدولة الحديثة، وبالتالي كنا دائما نؤسس لنُظم سياسية برؤى قاصرة- لا لدولة مؤسساتية- تحمل في طياتها بذور التأزم،ومسببات الفشل، وهو مايفسر سلسلة الأزمات التي أُمتُحنت بها الجزائر وكاد بعضعها أن يعصف بالدولة،وذلك منذ أزمة صائفة 1962إلى أزمتي1965 و1967 مرورا بأزمة التسعينيات من القرن الماضي وما خلَّفته من آلام وخسائر ومآسي،وصولا إلى الأزمة الراهنة وماسبقها من صراع مرير على السلطة، وتلاعب إجرامي بمصير الدولة والشعب من قبل قوى لاتتوفر على أية مشروعية تاريخية أو قانونية أو واقعية، ومن هنا إصرار الجزائريين اليوم على ضرورة الاحتكام إلى السيادة الشعبية المصدر الحقيقي والدائم لشرعية النظام،وأخلاقية وقوة السلطة،وبالتالي التأسيس لحياة ديمقراطية ناجحة،واستقرار سياسي ناجز يتمتع بالديمومة والمرونة والقدرة على التفاعل مع المتغيرات.

5- لقد اكتشف الجزائريون بنوع من التفاجؤ والخيبة والصدمة العميقة أن العديد من المثقفين والباحثين والأكاديميين الذين كانوا يُكنون لهم الاحترام والتقدير باعتبارهم قيادات ثقافية فكرية أو يٌفترض أنهم كذلك، ما هم في الواقع إلا خصوم ألداء، وأبواق تُروج لمقولات الانفصال والتمرد على الوحدة الوطنية، بحجة احترام الحقوق السياسية والثقافية ! والأكثر من ذلك أن  هؤلاء الأكاديمين والمثقفين صاروا ومنذ مدة شبه متخصصين في التهجم على الجيش الوطني الشعبي وكأنه العدو الرئيس والأول للجزائريين، في حين أن المطلوب منهم كمثقفين وباحثين في ميادين التاريخ والإجتماع هو أن ينتجوا الأفكار التي يحتاجها المجتمع في لحظته الراهنة، لا أن يضطلعوا بدور المهرجين السياسيين، أو دور النقد المُستهلك الفاشل.

ومن المهم أن أوضح في خاتمة هذا المقال، أن الحراك الشعبي الذي كشف عن ديناميكية اجتماعية مُلهمة، وأبان عن حركية سياسية كبيرة في المجتمع الجزائري، يعد فرصة نوعية للباحثين والدارسين ليثبتوا أنهم قادرون على قراءة هذه المشاهد التاريخية الرائعة -التي ملأت شوارع المدن- وصياغتها في أفكار ومشاريع جديدة تكون مصدر إلهام للأفراد والجماعات، وباختصار مختصر فإن الحراك الشعبي في الجزائر فرصة كبيرة قد نندم كثيرا إذا لم نعرف كيف نجعل منها بداية جديدة ناجحة، تقطع الصلة مع الإخفاقات السابقة والانكسارات الماضية.

***************************

[1] – ولأن الأحزاب السياسية في الجزائر تدهورت سمعتها، وأصبحت مرفوضة من الحراك، وبما أنه لاحياة ديمقراطية قوية ومستقرة دون أحزاب سياسية، فإن هذا الوضع سيكون من التحديات التي ستعترض بناء حياة ديمقراطية في الجزائر مستقبلا..

-[2] عبارة ” القوى غير الدستورية ” قرأتها أول مرة في تصريح صحفي للأستاذ علي بن فليس، ولذلك فيبدو أنه هو صاحب هذه العبارة، والله أعلم.

[3] – الجمعة 13و 14 من عمر الحراك.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023