بين روسيا والجزائر: ميراث تاريخي من العلاقات الدافئة ..!

بين روسيا والجزائر: ميراث تاريخي من العلاقات الدافئة ..!

تعتبر الجزائر حلقة رئيسة في العلاقات الروسية – المغاربية والإفريقية، ليس فقط نتيجة للاعتبارات الأيديولوجية القديمة التي تميز العلاقات الجزائرية – الروسية منذ استقلال الجزائر، بل تتعدى ذلك إلى العمل أيضا على تطوير المصالح الاقتصادية بالتركيز على ثلاث قطاعات رئيسة هي الطاقة (النفط والغاز)، والتعاون التقني في المجالات الصناعية والتنموية، والتعاون العسكري، كما أن واقع العلاقات الروسية – الجزائرية محكوم بعدة أبعاد مرتبطة بميراث تاريخي، وشبكة حسابات جيوسياسية، طاقوية وعسكرية، وبالتالي هناك مصالح مشتركة بين الجزائر وروسيا تزيد من عمق التحالف الاستراتيجي.
ولطالما عبّرت الجزائر عن عدم ثقتها في الغرب من خلال مواقفها الرافضة لتوجهاتها الاستراتيجية، فقد عارضت احتلال العراق والتدخل العسكري في ليبيا ومالي والساحل، كما رفضت إدانة روسيا في حربها على أوكرانيا، ودعمت الصين على طول الخط في صراع تايوان.
لهذا تجسِد الزيارة التي يقوم بها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى روسيا الاتحادية، عن متانة العلاقة القوية بين البلدين الصديقين في كافة المجالات، وفي وقت تستنهض فيها الجزائر الجديدة مصادر قوتها، وإستعادتها التدريجية لمكانتها الإقليمية والعالمية، بعد عقود من الغياب.

علاقات دافئة

لم تكن العلاقات الجزائرية الروسية يوماً أدفأ مما هي عليه اليوم، في وقت كان يقتضي أن تكون حذرة، أو على الأقل عدم المغامرة بتطويرها في ظل العزلة الدولية التي تعيشها موسكو جراء الهجمة الإمبريالية الغربية الشرسة لفرض العقوبات الاقتصادية، والسياسية والدبلوماسية والثقافية، على روسيا، وتهيئة أراضي الوكيل الإقليمي الأوكراني لساحة مواجهة، وحرب مفتوحة لتدمير وانهاكها املأ في إبعادها عن الساحة الدولية، وضرب مشاريع خططها في السعي نحو عالم التعدد القطبي.

وتزيد الجزائر بشكل غير مسبوق تقاربها مع موسكو في مختلف المجالات، لاسيما المجال العسكري، فيما تتعالى أصوات أمريكية لردع الجزائر وفرض عقوبات عليها لكبح تقاربها مع موسكو، حيث وقّع 27 نائباً بالكونجرس الأمريكي على عريضة طالبت وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، بفرض عقوبات على الجزائر بسبب علاقاتها الوطيدة مع موسكو، وذلك استناداً إلى قانون “كاتسا” (CAATSA) الذي أقره مجلس الشيوخ الأمريكي في أغسطس 2017. ويشمل القانون 3 دول تعتبرها واشنطن “أعداء” وهي روسيا وإيران وكوريا الشمالية، إذ تُفرَض العقوبات عليها وعلى من يتعاون معها عسكرياً.

العلاقات الدفاعية والأمنية

بدأت الجزائر وموسكو في تطوير العلاقات الاقتصادية والعسكرية والأمنية بينهما في ستينيات القرن الماضي، حين أصبحت روسيا المُورّد الرئيس للأسلحة إلى الجزائر في وقت سعت فيه الدولة المستقلة حديثاً إلى بناء جيشها، ولا تزال هذه العلاقة الدفاعية الوثيقة مستمرة حتى يومنا هذا. ومنذ عام 2002، جاء ما يقرب من 76 في المائة من واردات الجزائر من الأسلحة من روسيا، لتشكل الجزائر بانتظام إحدى الوجهات الخمسة الأولى عالمياً للأسلحة الروسية.
وفي أكتوبر 2022، استضافت الجزائر البحرية الروسية لإجراء مناورات بحرية مشتركة؛ ووفقاً لبعض التقارير أجرى الجانبان مناورات مشتركة مرة أخرى على طول الحدود المغربية، على الرغم من أن المسؤولين الجزائريين نفوا هذا الخبر، ربما لتجنب الانتقادات الدولية. وفي الأشهر التالية، استقبلت الجزائر أيضاً إثنين من كبار المسؤولين الأمنيين الروس، هما نيكولاي باتروشيف، الأمين العام لـ “مجلس الأمن الروسي”، وديمتري شوجاييف، مدير “المصلحة الفيدرالية للتعاون العسكري والتقني”. وتشمل العلاقة على الصعيد الدبلوماسي أيضاً، إذ أعلنت الجزائر في نوفمبر الماضي عن نيتها في الانضمام إلى مجموعة “بريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، في بادرة لقيت ترحيباً كبيرا من وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف. ويعتز المسؤولون الجزائريون بمتانة العلاقة مع موسكو، ويشيدون باستمرارها التي تجمع البلدين على قائمة من البرامج والتعاون المشترك في مختلف جوانب التنمية المستدامة.
وعلى الرغم من هذا التقارب، تحاول الجزائر باستمرار تحقيق توازن بين علاقتها مع روسيا ورغبتها في اعتماد مبدأ عدم الانحياز على الساحة العالمية. ويشكل هذا الموقف في بعض الأحيان تحدياً لعلاقتها التاريخية مع موسكو، لا سيما مؤخراً في جلسة الأمم المتحدة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، عندما صوتت الجزائر في أبريل 2022 لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يعترف بما تسميه “عدوان الاتحاد الروسي على أوكرانيا”، في حين امتنعت منذ بداية الحرب عن التصويت في خمس جلسات للجمعية العامة على قرارات تتعلق بالحرب.

أهداف الزيارة

الرئيس تبون الذي ترأس وفد بلاده في منتدى الأعمال الروسي الجزائري في مدينة سانت بطرسبورغ يتطلع من خلال هذه الزيارة الى شراكة استراتيجية بين البلدين، في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فالعلاقة بين البلدين تحالفية تاريخية متينة، ومرشحة لبلوغ ذروتها في الأعوام القليلة المقبلة، حيث ركزت زيارة الرئيس على مجموعة من الطموحات والحقائق والتطلعات نلخصها في النقاط التالية:

أولا: تأكيد الرئيس تبون على قانون الجزائر الجديد لتشجيع الاستثمار خاصة في مجالات التكنولوجيا وتسهيل فتح البنوك في الجزائر، وجرى توجيه دعوة للشركات والبنوك الروسية في العاصمة والمدن الجزائرية الأخرى مما يعني إعطاء أولوية خاصة للاستثمارات الروسية.

ثانيا: العام الحالي هو عام “الإنعاش الاقتصادي” في الجزائر، وستكون هناك أولوية خاصة للحليف الروسي وشركاته ومستثمريه في الاستراتيجية الجزائرية الجديدة.

ثالثا: تعتزم الجزائر الانضمام إلى منظومة “بريكس” التي ستعقد قمتها في كيب تاون في أغسطس المقبل، حيث أكد سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي أن طلب الجزائر للانضمام إلى مجموعة بريكس يحتل الصدارة لمكانتها ومميزاتها الخاصة، مما يعني أنها ستصبح عضوا فاعلا في المنظومة.

رابعا: الجزائر التي تحتل المرتبة الثانية كشريك تجاري لروسيا في القارة الإفريقية وبميزان تجاري قيمته 3 مليارات دولار سنويا، وثالث مستورد للسلاح الروسي في العالم بعد الصين والهند، تتطلع إلى مضاعفة هذه الشراكة وتقليص التعاون مع بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا التي تتزايد الشكوك حول زيارة الرئيس تبون لها هذا الشهر.

خامسا: تحظى الجزائر بمكانة خاصة لدى القيادة الروسية لان حكومتها لم تطبق العقوبات الأمريكية على موسكو، الأمر الذي دفع عددا من أعضاء الكونجرس، وحسب تصريحات الوزير لافروف بإرسال رسالة احتجاج إلى وزير خارجية بلادهم يحتجون فيها على هذا الموقف الجزائري، أي عدم الالتزام بهذه العقوبات.

سادسا: التعاون العسكري سيحظى بأهمية خاصة في هذه الزيارة في إطار سعي الجزائر لامتلاك أسباب القوة، وتحديث منظوماتها العسكرية بشراء أسلحة روسية متطورة جدا مثل طائرات “سوخوي 35” ومنظومة الدفاع الجوي “اس 500.

تسليح الجيش الجزائري

رغم تراجع استيراد الجزائر للسلاح في السنوات الخمس الأخيرة بنسبة 58 في المائة، حسب بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن روسيا هي المموّل الرئيس للجيش الجزائري. وحسب بيانات المعهد، فإن 73 في المائة من السلاح الذي تستورده الجزائر يأتي من روسيا، و10 في المائة فقط من ألمانيا، و 5.2 في المائة من فرنسا.
كما أنه رغم الانخفاض، تبقى الجزائر ضمن المستوردين الثلاث الكبار للسلاح في إفريقيا، رفقة مصر والمغرب. وتعيش المنطقة منذ سنوات على وقع سباق تسلح مغربي- جزائري، لكنه يبقى أكبر في الجزائر، إذ وصل إلى 10.3 مليارات دولار، بينما لم يتجاوز في المغرب 3.7 مليارات عام 2019، مع فارق جوهري آخر يكمن في توجه المغرب أولاً للسوق الأمريكية مقابل توجه الجزائر للسوق الروسية.

ولا يعتقد أن الجزائر ترغب بأن تتوقف مشترياتها من السلاح على روسيا، وأنه رغم الحضور الكبير للسلاح الروسي، فهي كذلك باتت تبحث عن أسواق أخرى سواء من الغرب، أو من تركيا أو من الصين، لكن الأمر عموماً يبقى مؤشراً مقلقاً، إذ يندرج في سباق التسلح مع المغرب، ما قد تكون له انعكاسات سلبية على المنطقة.

يشير تحليل لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أن “اعتماد الجزائر التاريخي على الدعم العسكري الروسي قد يتحول إلى نقطة ضعف”، وذلك بسبب حرب أوكرانيا، وانخفاض مجمل الصادرات الروسية نحو العالم بـ30 في المائة، لذلك ربما تستغل الجزائر وضعها كزبون قديم للتفاوض على صفقات أفضل، أو تبدأ بالبحث عن دول أخرى لإمداداتها العسكرية“.

في الختام يبدو أن الجزائر أمام حراك سياسي واقتصادي وعسكري جديد الهدف منه إستعادة الجزائر لمكانتها الإقليمية والدولية، وتكريس زعامتها في الساحات العربية والإفريقية والدولية، وبدأ هذا الحراك النشط والفاعل بدعم القضية الفلسطينية وإستضافة قياداتها في العاصمة لتحقيق المصالحة ولم الشمل، وتكرّس مبدأ طرد “إسرائيل” من عضوية الاتحاد الإفريقي، وجعل القضية الفلسطينية تحتل قمة جدول أعمال القمة العربية، والأهم من ذلك قيادة الجهود العربية لإعادة سورية إلى الجامعة العربية.
انفتاح الجزائر على روسيا يعكس قراءة قيادتها الحكيمة للتطورات العالمية المستقبلية المتسارعة، حيث يتراجع النفوذ الأمريكي والغربي، لمصلحة عالم متعدد الأقطاب بزعامة الثنائي الروسي الصيني وعنوانه الأبرز إقامة نظام عالمي اقتصادي مالي جديد على أنقاض النظام الأمريكي، ونواته الأقوى منظومة “بريكس” والبديل لمجموعة “الدول السبع”، وحلف “الناتو”، وستكون ضربتها القاضية، أي منظومة “بريكس” إصدار عملة عالمية جديدة بديلا للدولار وإنهاء هيمنته.
زيارة الرئيس تبون الحالية لموسكو هي الأهم في تاريخ البلاد الحديث لأنها ستضع أسس تحالف عالمي واقليمي تكون الجزائر لاعبا محوريا فيه.

بقلم أروى حنيش

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023