تحية له في يوم وفاته…فضل مخَدَّر: عالم دين يرسم

 تحية له في يوم وفاته…فضل مخَدَّر: عالم دين يرسم

بقلم: عادل بن خليفة بالكَحْلة (باحث إناسي واجتماعي الجامعة التونسية)

 توطئة

 

    توفي الشيخ فضل مخَدَّر يوم 2/ 12/ 2021. لقد كان صديق تونس، وخاصة اتحاد الكتاب التونسيين. لقد تعرفت عليه في أول زياراته إلى تونس. وقد استضافني في بيروت عديد المرات في منزله مع زوجته وأبنائه. فاكتشفت أنه رسام عميق الشعور، صادق التعبير، علاوة على أنه أديب مشهود له.

    وأثناء إنجازي لكتابي:«الفن والاجتماع في عالم الاسلام: إعادة نظر في التأسيسات والتنظيرات والتجارب»، أجريت معه مقابلة معمقة، كانت نتيجتها هذا النص المضمن في الكتاب.

   إنني إذ أترحم على روحه الطاهرة، المنفتحة، الباحثة عن الجمال، أنشر هذا النص مستقلا، تحية لروحه و لزوجته ولأبنائه.  

تأطير عام:

       بدأ حيدرة الهاشمي تأسيس الحس الجمالي بوصفه المطوَّل للطاووس. وقد التقطت ذلك الجمالية القرمطية فكان تمجيد الطائر في المَصْوَرَة البحرينية ، إذ كان نقش الطائر على الجص منصوبًا على قبة قبر أبي سعيد[1]، وكان إيحاء الطاووس نازلًا من ثقب قبة جامع بهاء الدين العاملي بأصفهان. فالطائر هو رمز للتعالي العرفاني الناهد للإنسان الكامل، وهو رمز لنيل الولاية والرئاسة. ولكن الجمالية العلوية لم تجد فرصتها التاريخية الأولى إلا مع التأسيس الصفوي. ومع السقوط الصفوي، بل سقوط التعقلية الإسلامية نهائيًّا متزامنًا مع ذلك السقوط ( مَنْع علاء الدين الطوسي من التفلسف في اسطمبول) كانت الفرصة التاريخية الوحيدة لانتصار التَّيْمَوية على الماتريدية والأشعرية، بل حتى على الجعفرية أحيانًا كثيرةً، جعل الحِموية الماتريدية – الأشعرية- الجعفرية سابقًا تقبل تحريم الصورة لأن الصورة تفضح التجسيمية التَّيْمَوية للألوهية. وذلك الانتصار، كان مما جعل المنجزات الصفوية في تأسيس الرسم الاسلامي تضمحل لتصل إلى النقطة الصِّفرية . مع فضل مخدّر نجد رجلًا من المؤسسة الدينية الجعفرية. فهل ظهوره كان وصلًا لما انفصل؟ هل هو استعادة حداثة لإمّة التصوير في الإسلام؟ ما خصوصية أن يكون عالم الدين مُصَوِّرًا؟

1 معالم في السيرة محفزة للاستعداد الفني:

إنه من مواليد قرية البابلية[2] عام 1967.

والده كان فلاحًا، وشبه أمّيّ، دفعه أهله للعمل في بيروت وهو دون البلوغ، بيّاعًا للخبز والورق وغيرهما، مما جعله يعيش صعوبات تنْشِئوِية واندماجية ومراهقة صعبة، ثم عمل سائقًا للشاحنات الكبيرة في الكويت. والدته أميّة كانت محافظةً على الصلوات، على عكس الوالد. لم تكن لوالده ولا لوالدته ميول تشكيلية، حتى التقليدية. و لكن العائلة اشتهرت بذكائها اليدوي، ولذلك كانت هي التي أدرجت التقانة الفلاحية الأوروبية للقرية، تجهيزًا وإصلاحًا.

صلّى الطفل فضل وهو ما زال دون البلوغ، فلما بلغ عاش مراهقةً صعبةً مع الرفاق. وعندما عاد إلى الصلاة بالكويت، وعمره حوالي 16 سنةً، كانت عودته بتأثير جيرانه الوهابيين، وأصبح يحضر معهم درسَيْ الخميس والجمعة. ولم تتفطن الوالدة لهذه التنشئة الثانوية المستجدة، إلا لما تأخر عن صلاة الظهر بالمسجد، فصلاها في الدار على الطريقة الوهابية. وعلى الفور طلبت من الجار العامليّ أن يأخذه إلى المسجد الذي يصلي هو فيه.

وفي سن السابعة عشر التحق بالمدرسة الجعفرية ببيروت. وقد استطاع فيها الأستاذ العراقي أن يجعل جل الأساتذة متديّنين، ثم التحق بهم التلاميذ بعد أن كانوا يعيشون معهم قطيعةً عاطفيةً. ولما كان تقليد الأستاذ لمرجع «محافظ»، كان تقليد الشاب فضل كذلك.

في الكويت كانت حصص الرسم من أمتع حصص المدرسة. اكتشفه معلم مصري هاوٍ للفن التشكيلي فسعى لصقل موهبته. وفي العطلة الصيفية كانت الإدارة تفتح المدرسة للأنشطة الترفيهية فكان دائمًا يختار الفن التشكيلي.

2 تطور حب الفن في مسار الشيخ:

وهو يكشف في مقطع سيريّ من كتابه شِقْشِقَةُ قَلَمٍ عن صلته بالأستاذ أسامة، أستاذ الرسم: «عرف محبتي للرسم ورغبتي في التعليم، وأعطاني من الاهتمام الكثير، مما دفعني لأكون أحد أبرز الطلاب على مستوى المدرسة عمومًا في الرسم وفي سائر النشاطات المتعلّقة بهذه المادة»[3]. ولم تكن الصلة صلةً تعليميةً مهنيةً فحسب، بل كانت تحمل الكثير من العاطفي. فالأستاذ ظاهرًا «كان قاسيًا بتصرفاته كقسوة تقاسيمه وميلان حاجبيه إلى العبوس»[4]، ولكن التلميذ فضل يتجاوز الظاهر ليصل إلى ما يعتقد أنه باطن أستاذه : « اكتشفت بعد مدة ليست بالقصيرة أن مظهره الخارجي خالف قلبه الممتلئ بالرقة  والشفافية»[5]، ليكتشف أيضًا أنه يحمل صفة القدرة على صنع الجمال التي يعتبرها التلميذ من أهم ما يميّز الإنسان الأفضل، فالأستاذ أسامة يستحق الاهتمام «لبريق الألوان على لوحاته وسلاسة أنامله المتدفقة فنًا وحبًّا وطبيعةً غنّاء في رسوماته التي فاقت حدود رغباتي في تعلم الرسم ودقة التعبير من خلاله»[6].

لقد أصبحت للتلميذ فضْل حظوة لدى الأستاذ أسامة جعلته يستطيع أن يعدّل من سلوك الأستاذ «القاسي» قليلًا. لم يرسّخ الأستاذ في تلميذه حب الفن فحسب، و إنما سؤال الفن أيضًا، إذ قال له: « عليك دائمًا أن تسأل نفسك: من يحرّك من؟ من يحمل من؟»[7].

اختصّ في العلوم الدينية عن حب وعزم، معجبًا بمحمد رضا المظفر ومحمد باقر الصدر. ليست له مكتبة ورقية كبيرة، ولكنها ذات غلبة للأدب القديم وخاصةً المحدث النهضوي والجَمْهَرَات[8] بالعربية، ولكنه بصدد توسيع مكتبته الإلكترونية. وقد كانت مذكرته في الماجستير في الفلسفة السياسية عن الفَارابي، وهو يعد رسالة دكتوراه. غلبت عليه صفة «الأديب»، منوّعًا تجاربه الأدبية، من الخاطرة إلى الأقصوصة والشعر، وأخيرًا الرواية رواية إسكندرونة، وله شبكات علائقية كثيفة بالأدباء في لبنان و سوريا وتونس وغيرها، متقلدًا مسؤوليات تنظيمية بينهم.

لم يتخل في مرحلة عمرية أو مرحلة ملّيّة من حياته عن الفن التصويري. وهو لا يرى تناقضًا في الاختصاص في العلم الديني والفن التصويري، وبين العمامة و الريشة.

وقد كان يعمّق دراسته في الفن التصويري عند الفنان زهير الحَمَوي سنة 1996 ببيروت، وقد أصبح مُعمّمًا، مشتغلًا في حقل الدعوة والكتابة الدينيَّين.

 3 ما الفن عند عالم الدين الرسام؟

وهو يعتقد أن دعوة القرآن والنبي إلى تأمل الجمال صريحة مستشهدًا في مقال له بجريدة السفير بثلاث آيات: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (النحل، 6)؛ ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (ق، 6)، ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيّنّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (الحجر، 16)، وبحديثَين نبويَّين: «إن الله جميل يحب الجمال» و«إن أجمل الجمال: الشعر الحسن ونغمة الصوت الحسن»[9]. وهو يسترجع في المقال نفسه محمد قطب إذ يماهي بين الحق و الجمال، وهو استرجاع هام، إذ أن المنتمي إلى مدرسة محمد قطب لا يعود إلى الجعفري عادةً، أما الجعفري فيسمح لنفسه – دون خوف من إمكانية رفض طوْفيّته – فالفن في نظر فضل مْخدّر لا يراه كذلك إذا «حمل غايةً ساميةً ومنفعةً»[10].ولكنه لم يسترجع عماد الدين خليل ومرتضى مطهّري وطارق رمضان.

إنه يتنزّل من ضرورية الفني، إلى مُباحيّته وإمكانية وقوعه في الحِرميّة، متنقلًا بين التغني والتمثيل و الشعر. وهو في المقال نفسه يبدي حماسته لما يراه نجاحًا لبنانيًّا في إسلامية الموسيقى الأركسترالية والسينما، «وإنْ كان كل ذلك يحتاج إلى تطوير، إلا أنه أنموذج حي لفنون جميلة إسلامية تلقفتها ساحة الوجود الإنساني في محيطها بكبير لهفة، وتفاعلت معها، واعتبرها الوسط الثقافي اللبناني والعربي محل احترام»[11]. فهو لا يزيد جذريًّا في نظرية الفن، وإنما يدعو إلى مزيد المراكمة.

4  معالم التجربة الفنية:

لقد كانت له رغبة شديدة في رسم الإنسان كاملًا، لكن مرجعيته كانت ترفض ذلك. وفي اليوم الذي سمع بوفاة صاحبها أخذ قلمًا ورسم إنسانًا كاملًا، إذ حرّر بذلك مكبوته.

ولقد كانت له مجموعة كبيرة من اللوحات، ولكن في عدوان سنة 2006 وضعها في مدرسة ابتدائية فتلفت باستعمال شاغليها لها. ولم يقم بأي معرض ولكنه زيّن كتبه الأدبية برسومه، وقد كانت متنوعة الأدوات: الفحم وقلم الرصاص والممحاة والألوان المائية، بالأبيض والأسود أحيانًا وبالألوان جميعها أحيانًا أخرى.

إن الذي يهمّ في تجربة فضل مْخدّر ليس الفني، فهو انطباعي[12]، وليس له مواضيع ابتكارية (طبيعة في حالة نشاط أو في حالة جامدة، صُوَر مُفرَدة، خُطاطات…). وهي ليست مسلّطةً على اليومي والمستقبلي والثوري، وليست حاملةً لقلق وجودي واضح. ولكن الهامّ أنه عالم دين يمارس الفن التصويري، ويشاركه في ذلك عالما دين عامليّان يسكنان قريتهما (على عكس فضل مْخدّر الذي هو بين المدينة والقرية). فطَوْفيِّتُه ومؤسسته الدينية تحمل حمايةً ضمنيّةً للفن التشكيلي والفن عمومًا، وليست لهما عدائية تجاه الفن، إذ أنهما يَعْلَمَان بممارسته الفنية (كتبه المحلاّة برسومه وجدران منزله كذلك) ويعلمان أنه عمّق علمه الفني وهو حامل للعمامة بالعاصمة نفسها.

ولكن غلبة صفة الأديب على ممارسته الفنية وعدم تفكيره إلى حد الآن في المراكمة الكميّة للممارسة التصويرية وعدم خطّه لمدرسة خاصة به في البحث التشكيلي الغائب كثيرًا عن لوحاته، وكذلك عدم مبالاة طوْفيّته ومؤسسته الدينية بإنتاجه التشكيلي – ربما خوفًا من الطوْفيّة الأخرى ومؤسستها الدينية المعاديتَين للفن عمومًا والفن التشكيلي خصوصًا استمرارًا للموقف الأموي/التيموي – كلها تجعل تجربته التصويرية دون مستقبل واضح. صحيح أن أحد أبنائه شغوف بالفن التشكيلي، ولكنه لم يستطع نشر هذا الشغف بطوْفيّته أو لم يفكّر فيه رغم أنه يرى أن البحث الفني «من أخطر ما يواجهه الإسلاميون في هذه المرحلة»[13]. وبذلك تضيع فرصة أخرى على طوْفيّته بما هي طوْفيّة ثورية، عقلانية، تأسيسية لعلوم الإسلام وفنونه، لتكون فرصة فضل مْخدّر إلى حد الآن دون مستقبلٍ وارثٍ.

كان فضل مخدّر انطباعيًّا في أكثر الحالات، أي خاصةً عندما يستعمل الألوان، وذا «فن ساذج» –بما هو ممارسة تشكيلية لا تعود إلى الفن العالـِم («الأكاديمي» أو «الطليعي»)، مبتعدة كثيرًا عن قوانين الأبعاد – لـمّا يستعمل قلم الرصاص والممحاة والفحم. والتشكيل «الساذج» مقصود، إذ يريد أن يقرّب الرسم مـمارسةً واهتمامًا إلى أوسع جمهور، فيصبح هذا الفن قريبًا من الطبيعة والعصامية، ويدخل ضمن عادات الطفل والشاب والكهل المسلمين. والأهم أن علماء الدين عندما يصبحون فنانين سيتغير العالم الإسلامي جذريًّا.

المصادر

[1] محمد الناصر صدّيقي، القرامطة من القرن الثالث إلى القرن الخامس الهجريَين، الصفحة 495 .

[2] جمعت هذه المعطيات السّيَريّة من الرسام نفسه، أثناء زياراته لاتحاد الكتاب التونسيين بتونس وأثناء زياراتي لبيروت، بين عامَي 2011 و2012.

[3] فضل مخدر، شِقْشِقَة قلم، الصفحة 97.

[4] المصدر نفسه، الصفحة 97.

[5] المصدر نفسه، الصفحة 97. 

[6] المصدر نفسه، الصفحة 97.

[7] المصدر نفسه، الصفحة 99.

[8] الجَمْهَرَة باللغات الأوروبية: Encyclopedy.

[9] فضل مْخدّر، «الفنون الجميلة في الإسلام و تحديات المرحلة»، السفير، 28/09/2012، الصفحة 7.

[10] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[11] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[12] الانطباعية مدرسة تصويرية ظهرت بين عاميْ 1874 و1886، بأوروبا الغربية، مسجّلة القطيعة الأوروبية الغربية لأول مرة مع الفن «الواقعي»، ولكنها لا تعني القطيعة الكلية معه. إنه مذهب تشكيلي ينافح عن الانطباعات الحرة وحراك الظواهر أكثر من الطابع القار والتصوّري للأشياء، و أساسية النور وتصريف الألوان.

 [13] المصدر السابق، الصفحة نفسها.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023