حركة النهضة المنطلقات والمآلات…بقلم محمد الرصافي المقداد

حركة النهضة المنطلقات والمآلات…بقلم محمد الرصافي المقداد

هل هي مصادفة أن يتزامن القبض على رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، مع قدوم فيصل المقداد وزير الخارجية السوري؟ مفارقة عجيبة اختزلت زمنا امتدّ بين المؤامرة على هذه البلد الشقيق وبين عودة الوعي لأنظمة تورّطت في الإساءة إليه، كلّ بالحجم الذي سجّله التاريخ عليه، هذا السباق الغير مُعلن جيّد في حصوله، حبّذا لو يكون تلقائيا ونابعا عن ندم ومسؤولية، وهذا أمر يبدو مستبعد لدول ربطت سياساتها الخارجية مع محاور غربيّة، لم تشتغل يوما لفائدة شعب من الشعوب المستهدفة، ما يعني أنّ ترميم ما وقع هدمه من السياسة الخارجية التونسية، بدافع هوى مُتّبع، بدأ بالرأس المدبّر لأسوأ عمل عدواني تلقته الشقيقة سوريا، تدبير أحمق لا ناقة للشعب التونسي فيه ولا جمل، اجتمع على أرضه أعداء سوريا ليبدؤوا مؤامرتهم عليها، وقد أعدّ الغرب عدّته التخريبية لذلك، لولا الغباء المستحكم في رؤوس ما يمكن أن نسميهم عرَضا زعماء البلاد، لما تمكن هؤلاء الأعداء من إلحاق كل هذا الضرر بدولة وشعب شقيق، لا يزالان يعانيان إلى اليوم من تبعات عدوان دولي، يُصرّ شركاؤه على إبقائه على نتائجه السلبية، وآثاره الكارثية على جميع مرافقه الحيوية، فضلا عن العقوبات الظالمة المسلطة عليه، بعد فشل مشروع إسقاط نظامه.

بدأت حركة النهضة حاليا والاتّجاه الإسلامي  قديما، طارحة نفسها بديلا إسلاميا عن النظام العلماني البورقيبي القائم، ولم تكن شعاراتها ومبادئها المعلّنة من طرف قياداتها، سوى تجسيد للمسار الديني الذي أخذته على عهدتها كوادر وقواعد، لكن المفاجأة حصلت عندما عادت قياداتها من المنافي، لتقرّر أن حزبها مدنيّ لا يطرح مسألة الإسلام السياسي، كبديل للنظام القائم على استبعاد الدين من عالم السياسة،

أثناء فعاليات مؤتمرها العاشر المنعقد في صرّح رئيس الحركة راشد الغنوشي أن حزبه سياسي ديمقراطي مدني له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية.. قائلا : (نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية”. مضيفا “نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديموقراطية المُسْلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون، ولا نعرّف انفسنا على أننا (جزء من) الإسلام السياسي”. وبتعبير آخر هو دعوة إلى أن
أن يكون النشاط الديني مستقلا تماما عن النشاط السياسي. هذا أمر جيد للسياسيين، لأنهم لن يكونوا مستقبلا متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وهو جيد أيضا للدين، حتى لا يكون رهين السياسة وموظفا من قبل السياسيين).(1)

هذا الإنقلاب الكامل نفى تماما سياسات الحركة منذ نشأتها، فاصلا عنها توجهه السياسي الإسلامي، مقدّما إيّاها على أساس مدني سياسيي، فهل أُسْقِط ذلك الخيار بدافع تلقائي ونتيجة مراجعة سياسة الحركة؟ أم أنّه جاء بدافع تأثير خارجي أُرغِمت قيادات الحركة عليه كما هي حال تغيير اسم الحركة الأول (حركة الإتجاه الإسلامي) بحركة النهضة؟ لكنه على أيّة حال، فإنّ البصمة التركية في استنساخ حزب عدالة وتنمية في تونس تحت مسمى مغاير، لكنه لا يختلف عن التّركي في شيء تقريبا، ويبدو أن تطوّر حركة الإخوان في عالمنا العربي والإسلامي وتغيّرها، من ثابت الإسلام السياسي، وضرورته من أجل إقامة عُرى الدين، إلى مُتحرّك السياسي المدني الذي يستبعد من أولوياته إقامة حكم الله في الأرض، ويذهب إلى قبول مبدأ ديمقراطية حكم الشعب وخياراته، بدلا من أحكام الله وإقامة تعاليمه.

لقد كان لانتصار الثورة الإسلامية حافزا كبيرا للحركة، لتبدي تعاطفا وتأييدا لها في البداية، سرعان ما تلاشى ذلك ليحُلّ محلّه جمود واسترابة، وكثير من الظنّ والإتهامات التي لم تُبدِ منها إيران شيئا، يدعو الى الشكّ في حسن نواياها، لكنه مع ذلك لم تُعْدَم الساحة الإسلامية في تونس من عناصر مؤمنة بالثورة الإسلامية، وبنظامها القائم على مبدأ ولاية الفقيه العادل، وكان ذلك بحدّ ذاته ثورة في عالم الفكر الإسلامي، أخرجت الفقيه من إطاره الضيق، في استنباط الأحكام الإلهية، إلى مجال العمل والحكم بها، ومن فقيه كان خادما للسلطان الغاشم، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، إلى فقيه طارح نظرية الحكومة الإسلامية، وليّا حاكما بما استنبطه من أحكام شاملة، جامعة لجميع أوجه الحياة.

مواكبة الإعلام التونسي للأحداث الجارية في تونس، لم تكن موفّقة في تحليلات أقلامه، مكتوبة بحبر لا يعبّر عن مسؤولية وطنية على الأقلّ، ولا يرتقي إلى مستوى معالجة قضية من القضايا الوطنية العالقة، فلا اعتدال فيه ظاهرا ميالة إحدى كفّتيه إلى رواسبها التاريخية السيئة، وبينما بقيت الكفّة الثانية خاضعة لأيديولوجية كتّابه، التي عادة من تأخذهم إلى انحرافات عن الحقّ تبتعد بهم عنه بُعد المشرقين.

بعد سلسلة من التحقيقات الماراطونية المطولة والمتعددة، قرر قاضي التحقيق الإذن بإيقاف زعيم حركة النهضة الغنوشي، على خلفية بقيت محلّ تساؤل، هل صدر ذلك القرار نتيجة ما أسفر عنه البحث، ونحن نخمّن فقط أنّه متعدد التّهم وفي مقدّمتها قضية التسفير على بؤر التوتّر الشائكة؟ أم بناء على تصريحات أعتبرت خطيرة عندما ظهر الغنوشي آخر مرة في أمسية رمضانية، بمقر جبهة الخلاص المعارضة، ندد خلالها بالنخب المحتفية بما سماها انقلابات، قائلا “الإنقلابات لا يُحتفى بها، الإنقلابات ترمى بالحجارة”، مضيفا أنه لا يجب التساهل مع تلك النخب أو التعامل معها بسماحة، وقال أيضا إن “تونس دون إسلام سياسي أو يسار أو أي مكون من المكونات هي مشروع حرب أهلية”، مضيفا أن من احتفوا بما سماه الإنقلاب هم انتهازيون وإرهابيون ودعاة حرب أهلية. (2)

إن كان الشيخ راشد يرى الديمقراطية بمنظار تحريضيّ فعليه أن يغيّره، لأنّه كلام مناقض لدعواه في قبول لعبة الديمقراطية، فإن لم يفعل فهو مدّع، وتعبيره الذي أدلى به دكتاتورية لا أثر للديمقراطية فيها، وما جاء به قيس سعيد كان يجب أن يكون من البداية، من أجل انقاذ تونس من فساد استشرى، في جميع مرافق الدولة، ولا يمكن التغاضي عنه، وتأخّر التعاطي معه قانونا إلى مجيء الرئيس قيس سعيد، كان هو سببا فاعلا فيه،  بالسكوت والتغاضى عما ارتُكِب في العشرية الفارطة، ولما سُحِب البساط من تحت أقدامه، انتفض ليعبر عن عدم رضاه لكن بماذا؟ باتهام قيس سعيد بأنه انقلابي، على أية حال كان على راشد الغنوشي أن يراجع مواقفه المتناقضة، فيرسي بها على برّ أفضل، والعودة إلى الحق فضيلة، فأما أن يكون حزبه دينيا أو سياسيا بعد فصل المجال الدعوي عن السياسي، واقراره هو بذلك، فبأيّ منطق يتوعّد اليوم معارضيه؟ وأيّ وجهة جديدة يريد بها صبغ حزبه إن بقي كحزب، ولم يكن قد ورطه في ملف التسفير الشائك، الذي يُنتظر أن تُسْتَقْدَمُ ملفاته من دمشق، وعندها تُفْرزُ السليمة من ذات العاهة.

المراجع

1 – الغنوشي النهضة تودّع الإسلام السياسي وتتحول لحزب مدني

https://arabi21.com/story/909804/

2 – بعد اعتقال الغنوشي وحديث سعيّد عن حرب تحرير وطني.. إلى أين تتجه الأزمة في تونس؟

https://www.aljazeera.net/politics/2023/4/18/

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023