«حروب الجيل الواحد»!؟…بقلم عماد خالد الحطبة

في زمن المقاومة لا بد أن يكون الاقتصاد اقتصاد مقاومة، والتعليم تعليم مقاومة، والسياسة سياسة مقاومة.

عبر التاريخ كانت الحروب التهديد الأخطر للبشر، فهي لم تكتفِ بحصد أرواحهم ولكنها عملت أيضاً على تشريدهم وتغيير تاريخهم. على الرغم مما ينتج من خسائر بسبب الكوارث الطبيعية والأوبئة إلا أن الحرب تكتسب مكانة خاصة كونها من فعل الإنسان، وبمحض إرادته، ولأن هذا الإنسان رغم كل الكوارث التي جلبتها بقي يطور الحروب ويُحسن وسائلها إلى درجة نستطيع معها القول إن الأرض، ومنذ أن أوجد الإنسان تجمعه الأول، لم يمر عليها يوم واحد من دون أن تكون هناك حرب ما في مكان ما.

في العصر الحديث تجاوزت الحرب كونها شأناً سياسياً عسكرياً، وتحولت إلى علم يُعنى به خبراء السياسة والإستراتيجيا والاقتصاد والإعلام. وأصبحت الحروب أجيالاً نعيش اليوم جيلها الخامس. يعد هذا التقسيم معاهدة «وستفاليا» -التي وُقّعت عام 1648 وأنهت الحروب الدينية في أوروبا- نقطة الانطلاق، فالحروب التي سادت القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر تعد حروب الجيل الأول وتميزت باستخدام البنادق والمدافع البدائية.

يبدأ الجيل الثاني مع الحرب العالمية الأولى التي أدخلت تقنيات المدرعات والطائرات الحربية والأسلحة الكيميائية والجرثومية، وحصدت أرواح 16 مليون إنسان؛ لم تردع هذه الأرقام الإنسان عن المضي قدماً في تطوير أدواته الحربية لتحمل لنا الحرب العالمية الثانية معالم الجيل الثالث من الحرب والذي تميز بتطوير وسائل الاتصال والنقل وارتفاع تقنيات الطائرات والمدرعات والقدرة على القيام بالهجمات السريعة الخاطفة، كما فعلت ألمانيا في احتلالها لأوروبا، انتهاء باستعمال القنبلة الذرية ضد اليابان من الولايات المتحدة الأميركية، ولتحصد هذه الحرب أرواح 60 مليون إنسان يشكلون 2.5% من سكان العالم حينها. في منطقتنا تعد حرب 1967 نموذجاً لحروب الجيل الثالث، حيث تحرك العدو بشكل خاطف على ثلاث جبهات، واستخدم الطيران بكثافة ليحسم المعركة قبل بدايتها.

مع نهايات القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين ظهرت حروب الجيل الرابع، التي اعتمدت فكرة الحرب بالوكالة. تقوم الفكرة على تمويل عصابات تخريب وإرهاب لضرب العدو المستهدف، دون الحاجة إلى الدخول في معركة مباشرة بين الجيوش النظامية. كانت الحرب في أفغانستان المثال الذي أقنع الجميع بأن هذا الشكل من الحروب أقل كلفة وأكثر فعالية، فظهرت حركة “طالبان”، وما يسمى “الدولة الإسلامية” في العراق التي أصبحت لاحقاً تعرف باسم “داعش”، و”جبهة النصرة” وعشرات التنظيمات الإرهابية الأخرى التي عملت كبنادق مأجورة لمخططات العدوان على الدول وتدميرها كما حدث في الشيشان ويوغسلافيا.

وصلت الحرب إلى ذروة جديدة مع انطلاق حروب الجيل الخامس التي استفادت من كل الوسائل التي استعملتها الأجيال السابقة، وأضافت إليها استخدام التقنيات الأكثر حداثة في عالم الاتصال والمعلومات والأسلحة كالطائرات المسيرة، واليورانيوم المنضب، واللجوء إلى القوة الغاشمة لإحداث أكبر دمار ممكن في البنية التحتية للدول المستهدفة، وأنصع مثال عليها ما يسمى «الربيع العربي». لكن الميزة الأهم لحروب الجيل الخامس كانت لجوءها إلى إحداث حالة من الفوضى وتغذية الصراعات المحلية (دينية، طائفية، إثنية.. إلخ) والتدخل لصالح هذا الطرف أو ذاك بما يضمن عدم قدرة أي من الأطراف على حسم المعركة لصالحه وتحقيق النصر النهائي، إلا بعد تحقيق مخططاتها والوصول إلى أهدافها. هذا التطور في الحرب مكّن الدول المعتدية من تخفيف خسائرها البشرية من خلال اللجوء إلى تقنيات حروب الجيل الخامس، بمقارنة بسيطة لخسائر الولايات المتحدة في حروبها المختلفة نلاحظ أن حجم الخسائر في حرب فيتنام بلغ 50441 جندياً، وفي أفغانستان 20660 جندياً، وفي العراق 4487 جندياً، وفي دول أخرى أقل من عشرة جنود. بغض النظر عن دقة الأرقام إلا أن الفرق يبقى واضحاً جداً.

بعد هذه المقدمة الطويلة, والتي أعتقد أنها ضرورية لتوضيح ما نسمعه كل يوم على الإعلام، لا بد أن نطرح سؤالاً بدهياً وبسيطاً: بالنسبة للضحايا ما الفرق بين أجيال الحروب،هل نستفيد فعلاً من إغراق الناس في تفاصيل أجيال الحروب، فنحصنهم، مثلاً، من الوقوع في براثن العدو ومخططاته، هل يملك الضحايا الخيار؟

بالنسبة للضحايا كل الحروب جيل واحد، فالعدو الطامع بالجغرافيا أو الاقتصاد يستخدم كل ما يقع تحت يده من الوسائل لإيقاع أكبر الخسائر بالمُستهدفين، لكسر إرادتهم أولاً، وتدمير بلادهم ثانياً، وفرض إرادة العدو على واقعهم ومستقبلهم كهدف نهائي للحرب. وكل الحروب عبر التاريخ اعتمدت بدرجة أو أخرى على عدو الداخل، وهو مجموع المتضررين من الوضع القائم، سواء كانوا من عليّة القوم وبرجوازيتهم، الذين يرون في الوضع القائم عائقاً أمام طموحاتهم الطبقية وسعيهم للالتحاق بدورة المال الكبرى، أو كانوا من “حثالة الطبقات” كما وصفهم كارل ماركس في كتابه «جماهير الثامن عشر من برومير».

إلى أي جيل تنتمي الحرب؟ أمر لن يعرفه الضحايا إلا بعد أن تنطلق المعارك، ويدفعون حيواتهم ثمناً لتلك المعرفة. لكن ما نعرفه اليوم عن الحروب يضعنا أمام تحدي تحصين جبهتنا الداخلية، والأخذ بالأسباب التي تجعل العدو يفكر مرتين قبل خوض الحرب ضدنا.

هذا التحصين يتجاوز الاستعداد بالمعدات والخطط العسكرية وتقنيات الاتصال المناسبة، إلى إعادة بناء علاقة المواطن بالوطن. الإرادة التي يسعى المستعمر لكسرها ليست كلاماً إنشائياً ولا قراراً فردياً، هذه الإرادة تنبع من شعور المواطن بأنه شريك في كل ما يتعلق بالوطن من قرارات، وهذا لا يعني الاحتكام إلى الديمقراطية «الليبرالية» العرجاء، ولكن إلى الوجود القوي للوطن ممثلاً بجهاز الدولة ولعبه دوراً إيجابياً مؤثرا في حياة المواطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية. عندها سيكون حرص المواطن أكبر على مرافق الوطن وبنيته التحتية، وسوف يتصدى لمحاولات الرعاع والفاسدين تخريب هذه البنية. وفي حال قيام العدو بالحرب ستتجلى الإرادة والحرص بالصمود والمقاومة وإفشال مخططات العدو.

يسعى العدو اليوم لتأبيد الواقع، والحفاظ على مواقعه رغم الهزائم التي لحقت به، ويسعى لاستغلال ما بين يديه من أرض وما يملكه من قوة عسكرية للحصول على تنازلات ومكاسب فشل في تحقيقها في ميدان المعركة. ما زالت الحرب تدق طبولها، وما زال جوّابو الآفاق يحملون مطامعهم من جبهة إلى أخرى، فيحاصرون اقتصادياً، وتقصف طائراتهم التجمعات المدنية والعسكرية، ويعمل عملاؤهم في الداخل على نشر الإشاعات واستغلال العثرات، وما زلنا مُطالبين بالصمود وتقديم المزيد من التضحيات.

في زمن المقاومة لا بد أن يكون الاقتصاد اقتصاد مقاومة، والتعليم تعليم مقاومة، والسياسة سياسة مقاومة.

كاتب من الأردن

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023