حرية تونس بين سفارتين…بقلم محمد الرصافي المقداد

حرية تونس بين سفارتين…بقلم محمد الرصافي المقداد

تشرفت بالمشاركة في الوقفة الاحتجاجية التي تمت يوم الأحد 10/12/2023، وانتصبت أمام مدخل السفارة الامريكية على الساعة الحادية عشرة، وقد ضمت الوقفة نخبا من المثقفين التونسيين من مختلف التيارات السياسية، في غياب تام عن قواعدها، ما يدفعنا إلى التساؤل: عن سبب التباعد بين هذه النخب وقواعدها؟ هل هو تقصير من النّخب في أداء واجبها في توعية الجماهير؟ أم إنّ الجماهير نفسها تخلّت عن نضالاتها، فلم يعد يهمّها من واجباتها سوى ما يقيها العوز المادي، متخلّية بمحض ارادتها عن حقوق كان من الأجدى لها أن تحرص على رعايتها.

 

إصلاح وربئ هذه القطيعة مقدمة لتحقيق تلاحم جماهيري، سيؤدي حتما إلى نتائج نضالية جيدة من شأنها أن تعيد فاعلية أي عمل ثوريّ، فيكون له الأثر البالغ في الإعتبار من حيث قيمته الشعبية، وما يختزله من موقف يزداد قيمة، بازدياد وعي أفراد الشعب بقضاياه المصيرية والهامة، وفي طليعتها قضايا الحرّية، وفي مقدّمتها قضية الشعب الفلسطيني، التي لا تزال عالقة بلا حلّ بعد مضيّ 75 سنة على نكبته التي صنعتها بريطانيا.

 

عدد المشاركين ما بين رجال ونساء لم يتجاوز ال300 شخص، رغم أن ذلك اليوم هو يوم عطلة أسبوعية، ولا عذر فيه لمتخاذل، فإنّ أقل ما يمكن فعله من مناصرة الشعب الفلسطيني الشقيق، هو التواجد أمام السفارة الأمريكية للتعبير عن موقف الشعب التونسية المساند لأشقائه الفلسطينيين في سعيهم لتحرير أرضهم من براثن الكيان الصهيوني، فبقدر العدد المشارك يكون الأثر البالغ في نقل صورة مؤازرة الشعب التونسي إلى الإدارة الأمريكية، لتعي جيّدا أن القضية الفلسطينية ليست حكرا على الشعب الفلسطيني، وإنّما توسّعت لتشمل الشعوب العربية والإسلامية، وتمتدّ لتكون من اهتمام الشعوب الحرّة الرافضة للهيمنة الامبريالية، التي تعمل أمريكا على فرضها بمنطق القوّة.

 

السفارة الامريكية الواقعة على طريق (المرسى) بمساحتها الكبيرة جدا بما يفوق أي مساحة حتى وزاراتنا مجتمعة، يدعونا إلى التساؤل لماذا أعطيت هذه الدولة الاستكبارية الغاشمة كل هذه المساحة ونحن نعرف أساسها الأول و تاريخها الحديث، ولم يعد خافيا على أي أحد الأدوار التجسسية التي تقوم بها سفارات أمريكا في العالم، فما تحصل عليه الثوار الإيرانيون من وثائق سرّية،غنموها بعد اجتياحهم لمبنى السفارة الأمريكية بطهران بتاريخ 4/11/1979 (1) يؤكد تورط أمريكا في الإنقلابات العسكرية التي حصلت في إيران وفي دول اخرى بالمنطقة، والدور التجسسي الخطير الذي تقوم به هذه السفارات، يجب أن يرى بعين وطنية، ترفض أن يقام على أرضها أعمال تتجاوز الدور الدبلوماسي، إلى أدوار استخبراتية، من شأنها أن تهدد خيارات الشعب في حريته.

 

للتذكير، (ففي لحظات اقتحام الطلاب لمبنى السفارة الأمريكية في طهران، سارع العاملون إلى تدمير أكبر عدد ممكن من الوثائق، وجرى تمرير رزم من الوثائق من خلال آلات تمزيق الورق، إلا أن ذلك لم يفيد، تمكن المقتحمون من استعادة معظم القصاصات، وقررت السلطات الإيرانية نشر الوثائق السرية المكتشفة والتي أعيد لصقها من دون رقابة، وقد تواصل نشر أسرار السفارة الأمريكية في وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، وفي وسائل أخرى لعدة سنوات متتالية، وتم في المجموع نشر 77 مجلدا، مع المراسلات الداخلية والكتيبات والتقارير الدبلوماسية تحت العنوان العام: “داخل مخبأ التجسس الأمريكي”.(2)

 

خوف السلطة من تكرار أحداث مهاجمة السفارة الأمريكية، دفع بها إلى تعزيز حمايتها بأعداد كبيرة من قوات الأمن بالزيين المدني والأمني، ليس له ما يبرره اليوم، والسّلط الأمنية تدرك جيدا، أنه لا نية مطلقا لمن حضر الإحتجاج، بمحاولة اقتحام الحاجز الأمني ومهاجمة السفارة، بل انه من سابع المستحيلات القيام بذلك مهما بلغت قوّة الجماهير، لذلك أقول أن كثافة الحضور الأمني كان احتياط مبالغ فيه.

 

من حقنا أن نتساءل، لماذا منحت أمريكا كل هذه المساحة من أرضنا، والحال أن حاجة التمثيل الدبلوماسي لا تتطلب كل هذه المساحة، وكل هذه الأعداد من العاملين، وهي بهذه الحال عبارة عن قاعدة أو ثكنة عسكرية، وهذا مظهر مسيء لنا كتونسيين في بلادنا، يجب أن ينظر إليه المسؤولون نظرة وطنية جادة، فكرامتنا قبل المساعدات والهبات الأمريكية، ولن تغلق تقدمه أمريكا لبلادنا حقيقة الشبهة الكبيرة لمساحة هذه السفارة وأدوارها، سواء في تونس وما قد تشكله من خطر على شقيقتنا الجزائر ودول افريقية أخرى تعمل أمريكا على تغيير أنظمتها، وقد أثبتت الإدارة الأمريكية تورطها في أعمال تجسّسية وعدائية، قامت بها سابقا في عدّة دول، خارقة بذلك المواثيق الدولية في العمل الدبلوماسي، ومستهترة بحقوق الدول المضيفة لبعثاتها الدبلوماسية.

 

مظهر آخر له دلالة على أننا مازلنا نبحث عن حريتنا واستقلالنا الحقيقي، يستشفّه أيّ مواطن حرّ شريف، عندما يمر من أمام مقر السفارة الفرنسية المنتصبة في قلب العاصمة التونسية، ويرى الأسلاك الشائكة محيطة بهذه السفارة، من جوانب الشوارع الأربعة المحيطة بها، وذلك التّموقع الأمني والعسكري وأكياس المتاريس الموضوعة في زوايا المقر، كأننا نعيش حربا مستعرة، وكان من الأجدى إخلاء هذا المقر، ونقله إلى المقر الجديد للسفارة في البحيرة، وترك المقر القديم للإدارة التونسية، وهذا حقّ يجب المطالبة به، ومظهر من مظاهر الكرامة والحرّية التي بقيت منقوصة، في ظلّ تواجد مثل هذه الحالات الشاذّة التي يمتعض منها أي مواطن حرّ شريف.

 

وهنا لا نملك سوى التنبيه على حكومتنا بأن تلتفت إلى مثل هذه الإخلالات التي بقيت متواصلة بينما لا تحتاج سوى شيء من الحزم والروح الوطنية العالية، التي ترفض بقاء مظاهر مثلها مسيئة لبلادنا ومؤذية لشعبنا ومُعيبة لنضالات شعبنا، وحبّذا لو تقلّد الإعلام مسؤولياته في التوعية، وأدّى دوره في تحسيس القواعد الشعبية بأولوياته التي يجب عليه تعهّدها، والعمل من أجل تحقيقها، اعلام بمختلف أدواته لا يزال بعيدا عن مواكبة قضايانا، وتقريبها من الشعب بما يدفعه إلى تعهّدها، بالعناية التي تستحق.

 

حرّية شعبنا وكرامته قبل الهبات والمساعدات التي تقدمها أمريكا وفرنسا، وعلى حكومتنا أن تعي جيّدا أن هاتين الدولتين استعماريتين لم يتغير طبعهما منذ أن ركبهما داء الاستكبار، ويجب مراجعة الإمتيازات التي يحظيان بها في بلادنا، والتي من شأنها أن تؤثر على استقلالنا، وسلامة جارتنا الجزائر الشقيقة.

 

 

 

المراجع

 

1 – أزمة رهائن إيرانhttps://ar.wikipedia.org/wiki/

 

2 – الولايات المتحدة تتفاوض مع إيران بعد معجزة إلهية

 

https://arabic.rt.com/world/1427418-

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023