زنازين السعودية: تعذيب حتى الموت أو الجنون بتهمة “الخروج على ولي الأمر”

تعذيب حد فقدان العقل، أمر غير مستغرب في زنازين السلطات السعودية، التي لطالما رفعت سوط القمع في سجونها المنتشرة على طول البلاد وعرضها وأطلقت للمحققين عنان التوحش في زنازينها الضيقة المظلمة.
ودونما رأفة، تتلوّن صنوف القمع والاضطهاد في غياهب الظلم المحدق تحت سمع وبصر السلطة، الجاهدة لإسكات كل صوت مغاير ومعارض لسياساتها وممارساتها على أرض الواقع، وغير مفرّقة بين صغير وكبير، شاب وفتاة، مراهق وكهل.. فآلة الاعتقال والتعذيب والتنكيل، واحدة وتمر فوق رؤوس الجميع، منذ عقود خلت،،، مرآة الجزيرة ـ سناء ابراهيم تعذيب ممنهج مارسته السلطات السعودية على جسد الدكتور موسى القرني المعتقل منذ العام 2007م، بزعم اتهامات معوّمة تستخدمها السلطة السعودية في كل مرة تريد قمع مَنْ لا يوافقها في نهجها السياسي.

تكررت هذه الاتهامات بصيغ متعددة كـ“الخروج على ولي الأمر، ونزع يد الطاعة من خلال الاشتراك بتأسيس تنظيم سري يهدف إلى إشاعة الفوضى والوصول إلى السلطة”، إضافة لعقد الاجتماعات السرية لوضع الخطط الاستراتيجية لذلك التنظيم، على حدّ زعمها، وقد طالبت عبرها النيابة العامة بإنزال حكم الإعدام على القرني، ومعه الدكتور سعود مختار الهاشمي في مجموعة ما عُرف بـ”إصلاحيي جدة”.

لقد حرم الهاشمي والقرني من الحق بتوكيل محام على مدى ثلاثة أعوام بزعم استكمال التحقيقات كما تسميها السلطات والتي في حقيقتها وجبات تعذيب جسدي ونفسي تهدف لانتزاع اعترافات توائم هوى المحققين وتخلق لهم الجو المناسب لإقناع الرأي العام بقصص من نسج خيال عناصر المباحث، تسمح لهم بتمرير عقوبات جائرة على كل مَنْ تسول له نفسه مخالفة أو عدم تأييد التوجه السياسي للعائلة الحاكمة، وقد قضت المحكمة الجزائية في العام 2011م، بالحكم على القرني 15 عاماً ثم الحكم على الهاشمي بالسجن 30 عاماً، ومثلها أعوام منع من السفر.

على امتداد أيام الاعتقال المستمرة حتى اللحظة، عانى القرني من أساليب متنوعة من التعذيب الوحشي المُمنهج نفذتها أيادي جلاوزة المباحث على الرجل الستيني ـ القرني من مواليد 1955 ـ الذي تلوّى من شدة التنكيل والاضطهاد الذي مورس بحقه، فقد أجبر على الوقوف المتواصل لساعات طويلة على قدم واحدة وعُزل انفرادياً في زنزانة ضيقة ترتفع وتنخفض حرارتها بشكل موافق لدرجة الحرارة الخارجية حيث ترتفع حرارتها في فصل الصيف وتشتد برودتها في فصل الشتاء.

يروي مصدر مطلع ملامح وتفاصيل التعذيب الذي تعرّض له القرني في السجون السعودية التي نُقِّلَ بين زنازينها ومنها سجن الحائر، إذ تم إجباره على الوقوف مقابلاً الجدار لعدة ساعات متواصلة، تصل للثمان ساعات يوميا، وأُجبر على الوقوف فوق كرسي على قدم واحدة، مضيفاً أن الوقوف لساعات قد يتخلله إجبار القرني على دفع الجدار بكلتا يديه وجسده وبكل قوته للتهكم به وإذلاله واخضاعه، في نوع من الترويض النفسي الذي يهدف إلى إيصال رسالة للمعتقل بأن ما يصبو له خارج السجن من تغيير أو تعبير عن الرأي أو توعية الجمهور هي كعملية دفع الجدار الذي لن يتحرك فهو مستحيل التحقق والحدوث.

ضرب مبرح وعزل انفرادي وانعدام أخلاقي وأضاف المصدر أن ساعات التعذيب والإهانة لا تنتهي، إذ أجبر القرني وغيره من المعتقلين، على ممارسة “الهرولة” لساعات طويلة في المكان نفسه، “قف مكانك وهرول”! يقول السجان بصوت خشن تشرئب منه رائحة التعذيب النتنة”، ليبث الخوف والرعب عبر تهديداته، “نفذ العقوبة وإلا سيأتي فوج الملثمين من المعذبين ليبدأوا بمراحل الضرب عقاباً لك”.

بالهراوات والسياط والعصي الكهربائية أُوسع القرني ضرباً، تلوّى جسده الضعيف فهو في العقد السادس من العمر، ومن دون مراعاة لسنه أو علمه أو مكانته، فعناصر السجن التي تتناوب على التعذيب قد تصغر أبنائه سناً، إلا أن الأوامر لا تدع للاحترام والحق في الحياة مكاناً في غرف “الموت السعودية”، سواءٌ كانت زنازين انفرادية أم عنابر جماعية، فالتعذيب تتعدد أوجهه لكن النتيجة واحدة.

هول التعذيب والتنكيل الذي مورس على القرني ووضعه في العزل الانفرادي وسط الحرمان من الطعام والشراب، وانعدام وسائل الراحة والجلوس أو النوم، فضلا عن الضغط النفسي والتهديد المتواصل بالاعتداء على عائلته، التي حُرِمَت من زيارته لفترات طويلة، خلّفت آثارها على صحة ونفسية القرني مما تسبب له في أمراض وعلل لازال يعاني منها.

وعلى الرغم من سماح السلطات السعودية لاحقاً بالزيارة لذوي القرني إلا أنها استغلت الزيارة كفرصة من أجل الإذلال والتنكيل بالسجين القرني وعائلته، حيث يُمارس عناصر السجن صنوف التجاوزات اللفظية والجسدية حين الإقدام على تفتيش ذوي القرني وبشكل غير لائق ومناف للقوانين والمعايير الدينية والأخلاقية.

التعذيب يصيب القرني بجلطة دماغية تفقده عقله ما بين سجن جدة والحائر نُقِل الشيخ موسى القرني مكبّلاً بالأغلال الحديدية، مُغطى الرأس، والسلاسل المعدنية الثقيلة تربط بين أكفه وقدميه، ليصل إلى زنزانة ضيقة رُصّ فيها وعشرات المعتقلين بسجن الحائر.

زنزانة لا تتسع إلا لشخصين على الأكثر وتخلو من متطلبات الحياة الكريمة، حيث تتضمنها دورة مياه لا يفصلها عن الغرفة سوى حاجز صغير لا يغطي ما بداخلها من شيء، وقد أشار القرني في أحد أبيات قصيدته “إلهي لك الشكوى”، الحالة التي كانوا يعايشونها حين يمنحهم السجان ثلاث دقائق فقط من أجل الاغتسال، حيث يُسارعون إلى استخدام أكياس القمامة من أجل ستر أنفسهم لتبديل ملابسهم والاستحمام بهذه الثواني المعدودات. ابن الرابعة والستين من العمر، الذي يعاني الضغط ومرض السكري تتكتم السلطات على حالته ووضعه الصحي المتدهور، إذ كشفت معلومات عن حرمانه أدوية السكر والضغط في وجه من أوجه التعذيب غير القانونية والتي تنتهك المعايير الحقوقية وتعاليم الشرع والقوانين المحلية والدولية، وجميع المواثيق المصادق عليها من قبل السلطات.

لم يشفع لابن مدينة جازان، نسبه إلى والده قاضي التمييز محمد بن يحيى القرني، وقضاء سنين عمره في البحث العلمي لنيل درجات الدراسات العليا، في منع آثار التعذيب من الارتسام على جسده، ومعاملته كالمجرمين بل وأكثر، فقط بسبب دعوته ومجموعة من الإصلاحيين من زملائه إلى تحسين الأوضاع في البلاد.

بعد 11 عاما من التعذيب والتنكيل المتواصل في الزنازين، تعرّض القرني لجلطة دماغية تسببت بفقدانه عقله وإلحاقة بمستشفى الأمراض العقلية، وفق المصدر، الذي أشار إلى أن الإهمال الصحي على مدى سنين الاعتقال التي لم تخلُ من شتى أوجه التعذيب تسببت في إصابة القرني بجلطة دماغية ظهرت آثارها بشكل فقدان العقل، وهو ما يُعد جريمة في الأعراف الدولية والمواثيق والشرعة الحقوقية.

“إلهي لك الشكوى” مدرس أصول الفقه ومدير الجامعة الإسلامية للعلوم والتقنية الشيخ موسى القرني، الذي كان يعمل مدافعاً ميدانياً عن المظلومين يقبع اليوم في مشفى الأمراض العقلية، أي في سجن من نوع آخر فرضته آلة التعذيب الحادة، يقول المصدر، وينقل كيف بدأت حالات فقدان التركيز على القرني، قائلاً “أنه كان قد تهجّم عدة مرّات بشكل غير مبرّر على السجين الموجود معه بنفس الزنزانة، فتمّ نقله للعزل الانفرادي، وبعد تكرار تصرفه بشكل غريب تبيّن أن السبب هو جلطة دماغية وهو حالياً في مستشفى الأمراض العقلية”!

تضيف حالة الشيخ القرني إلى سجل الرياض جريمة حقوقية جديدة تعيد إلى الأذهان ماجرى مع الشيخ عبدالعزيز الوهيبي قبل سنيتن، حيث جرى معه نفس الأمر، غير أن الانتهاكات لا تزال مستمرة وبشكل متصاعد. يُشار إلى أن موسى القرني وصف حال الاعتقال والسجون السعودية، والظلم الواقع فيها على كل ذي صوت مطلبي إصلاحي، ضمن قصيدة كتبها داخل المعتقل، بعنوان “إلهي لك الشكوى”، وتم تسريبها على منديل من داخل السجن، روى ضمنها أشكال التنكيل والتعذيب غير الأخلاقي واللاإنساني الذي عايشه، ومن بعض أبياتها: “إلهي لقد جاروا علينا لأننا إلى العدل والإصلاح ندعو وننذر وندعو إلى الشورى التي قد دعا لها نبـي الهـدى والظلم والقهر ننكر”.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023