“على وقع مجزرة نيوزيلندا” كتب د. الهذيلي منصر: الأغلال المجنّحة

“على وقع مجزرة نيوزيلندا” كتب د. الهذيلي منصر: الأغلال المجنّحة

كيف نفهم ما وقع اليوم من جريمة قتل بشعة ذهب ضحيّتها عشرات المصلّين المسلمين؟ كيف نفهم ذلك بعدا عن التحليل البسيط وخارج ردّ الفعل الغريزي المتشنّج وبعدا عن حديث الثّأر؟ كلّ هذا لا يعين على الفهم بل يُبعد عنه كثيرا. هل نقول أنّ مسيحيين يقتلون مسلمين؟ فيكون في ذلك توجيه مسلمين لقتل مسيحيين؟ ثمّ ألم يقتل في السّابق مسلمون مسيحيين على الهويّة؟ مشترك المتديّنين الوحيد اليوم أنّ بعضهم يقتل بعضا.

وليت الظاهرة تقف عند صدام بين دين ودين. ألم نشهد خلال السنوات الماضية تقاتلا داخل الدين الواحد؟ ألم يقتل شيعة سنّة لأنّهم شيعة ولأنّ المقتولين سنّة؟ ألم يقتل سنّة شيعة من منطلق أنّ العقيدة الصميمة والأصيلة سنّية وأنّ التشيّع لوثة؟ يمكن أن نزيد ونذكّر بأنّ التقاتل داخل ذات المذهب تقليد قديم. حلقة مفرغة لا فكاك لنا منها إذا بقينا على السّطح ولم نباشر تفكير المهمومين الجزعين الباحثين بصدق عن الحلول. غريب أن يكون هذا بين متديّنين لأنّ أصل الدّين أن يمنع سفك الدّماء والإفساد في الأرض. عندما يكون من هذا التوحش بين لادينيين قد نجد أو نلتمس لهم عذرا فهم بقطع صلتهم بغيب وسماء وآخرة يثّاقلون إلى الأرض والأرض تلقّن أنّ القوّة قانون وأنك لا توفّر لنفسك منها إلّا بقدر ما تفتكّ لحسابك عنوة ورغما عن الآخرين.

ليس أخطر علينا وعلى الدّين من دنونة الدّين أو عّلمنته والقصد أن يُصبح الدين محتكما، وعيا به وتأسيسا عليه وانطلاقا منه، إلى سياقات التاريخ التفصيلية. الدين منظومة مستقلّة بذاتها ورؤية خاصّة ومفردات متناسقة متّصلة أمّا هذه المفردات التي يفرزها الزمن وتأتي بها الينا حركتنا البشرية فأمر مختلف هو من العالم لا من الدّين. ينهزم الدّين عندما ينسلخ من مفرداته وينفض رؤيته ويستبدل ذلك بمفردات العالم. إذا طغت سياسة تسيّس الدّين وإذا طغى الكلام صار الدين كلاما وإذا توحّش العالم توحّش معه. متديّنون كثر يكونون في كلّ هذا ويعتقدون أنّهم بهكذا سلوك يكونون في الدّين أكثر. أي أنّهم ينخرطون غير منتبهين في إغتراب مقدّس وهي قداسة يضفونها ولا تأتي من هذا الذي هم فيه.

الدين نظام معاني ورسالة المتديّن أن يجلّي هذه المعاني فيه وأن يعرّف بها من حوله بحسب قدرته واستطاعته. هذا انتصاره اذا أراد لنفسه انتصارا وأراد إنتصارا للدّين. تحوّله مكينة سياسة أو غول قتل هزيمة له وللدّين. يصبح الدّين هكذا عبدا للعالم مسكونا به والأصل أن يكون خلاصا للعالم مسكّنا للمعنى فيه. قد يكون المتديّن في سياسة ومال وإعلام وساحة قتال ولكنّه إذا كان يكون بمفردات الدّين وروحية الدّين ومقصديته. إذا كان في سياسة كما تفرض السياسة أن يكون وكان في المال بما يفرض المال أن يكون وكان بمعارك تحوّله طاقة عدم ماذا بقي منه ومن الدّين؟ مشكلة العالم اليوم أنّه يطلب خلاصا لا يأتي إلّا من الدين ولكن جمهور المتدينين يثبت مرّة بعد مرّة أنّه الأعجز عن الإتيان بهذا الخلاص وضمانه للعالم وساكنته. لهذا فالإشتغال المستعجل والأولوي اليوم وعلى نطاق واسع هو اشتغال على الدّين بعودة راديكالية إلى أصله المعنوي والروحي أو إلى بساطته الأولى وأفقه الرحيمي.

زمن جلال الدين الرومي يشبه زمننا الى حدّ بعيد. زمن مغولي وزمننا الأمريكي الصهيوني مغولي أيضا. أباد المغول على طريقهم الى بغداد مدنا كثيرا وشرّدوا خلقا لا يعدّ وكانت الأمصار الاسلامية فاقدة لحصونها المادية والمعنوية لذلك تداعت وسقطت. جلّى المغول واقع أنّ سلطان القوّة المادية عظيم وكان درس الرومي أنّ المعنوية أقوى ولذلك كان المثنوى ديوان شعره الشهير. ذهب المغول وبقي المثنوي وفي ذلك آية ودرس عظيم. بزمن مادّية مزهوّة ومتحفّزة ومتحكّمة قاهرة لا تكون الثورة الحقيقية والتي يعوّل عليها إلا معنوية روحية.

من هذا الباب ومن هذا الباب فقط قد يتسنّى تغيير العالم. غير ذلك فإن كلّ ما نسعى ونجتهد فيه ليس إلا تثبيتا وإدامة لما هو عليه. تقول”الله أكبر” ولا روح فيك تتحوّل تكبيرتك سلاحا بيد المستكبرين والجشعين ويوظّفونها لمزيد تدميرك وتدمير الدّين. نحن في كلّ الأغلال وقدرنا أن نقدّ منها أجنحة لنطير. قد يأخذ هذا وقتا ولكننا إذا بذرنا لا نبذر غير هذا البذر ويكون منه إذا بارك الله كلّ الحصاد وعموما فالمسؤولية تقف عند المقدّمات أمّا النتائج فبأمر غيبي. قال عبد المطّلب وفيلة أبرهة نحو الكعبة: إنّ للبيت ربّا يحميه. لم تفتنه القوّة وليس هذا بالقليل ولا هو باليسير. ذلك الوعي الصادق العميق أهلك أبرهة وحرّك الأبابيل.

ملاحظة: الصورة تُقرأ من تحت الى فوق. واقعا الحاصل هو العكس. نحن نتفنّن في تحويل الأجنحة أغلالا.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023