في مدرسة السياسة الإيرانية… بقلم محمد الرصافي المقداد

في مدرسة السياسة الإيرانية… بقلم محمد الرصافي المقداد

بقطع النظر عن تاريخ ايران القديم الحافل بالساسة والسياسيين، ومواقفهم السياسية، التي جعلت منها بلدا ذا حضارة عريقة، تبوّأت مكانة مرموقة في تاريخ الانسانية، وكسرى أنو شروان الملك الذي ضرب به المثل في العدل وتناقلت سيرته الأجيال على مدى قرون طويلة، يعطينا إطلالة على التاريخ السياسي المشرّف الذي حازته ايران قديما.

أما في العصر الإسلامي، فإن كبار الوزراء ورجال الدولة في الفترة العباسية، كانوا من أهل فارس، ولم يكن ذلك ليحصل، لولا رسوخ أقدام هؤلاء الرجال في عالم السياسة، أما العلماء فإن المطّلع على هذا الجانب، يستطيع ان يخرج بمحصّلة تقول: ان أغلب علماء الاسلام كانوا من بلاد فارس، فقلّما تجد عالما منهم لا ينسب اليهم، فمنهم الحفاظ والمفسرون والفقهاء، وأهل اللغة العربية، والتخصص في شتى العلوم الانسانية، فألقاب: النيسابوري، والرازي، والغزالي، والفردوسي، والدينوري، والبيروني، والجرجاني، والخازن، والفارابي، والبلاذري، والبغوي، ابن حيان، والبهائي، والشيرازي، وابن المقفع، وعضد الدولة، والآملي، والقمي، والبيرجندي، والكاشي، والكاشاني، والبخاري، والطوسي، والهمداني، والبهبهاني، والقزويني، وسيبويه، والأصبهاني، والجويني، والسبكي، تعود أصول أصحابها مباشرة الى الفارسية، شخصيات اسلامية عظيمة، تركت بصماتها العلمية في مختلف العلوم، واعطت به نسبة لا تقبل الدّحض، ولا يرقى اليها ادنى شك، في أن لهؤلاء القوم عقلية تميزوا بها قديما، وزادهم الاسلام بها تألّقا ونبوغا في رحابه.

هذا قديما ووسيطا، أما حديثا، فإنه منذ ان قرر الشعب الايراني اعتماد الاسلام منهج حياة، واتخذ منه نظام حكم وسياسة دولة، بعد انتصار ثورته الاسلامية في 11/02/1979، بدأت كفة رجاحة ذلك الاختيار المصيري والهام، تميل الى جانب شعبها، تحت قيادة ولاية الفقيه التي اختارها الشعب بمحض ارادته، ولم تفرض عليه، كما هي شأن انظمة الحكم في العالم، نظام حكم سهر على حسن سير أجهزة ودواليب الدولة الاسلامية، على ضوء مخرجات الشريعة الاسلامية ( القرآن الكريم والسنة المطهرة).

وايران الاسلامية بعد ان اجتازت عتبة الأربعين سنة من تأسيسها، برهنت على رسوخ في عالم السياسة، وباع كبير في التعاطي مع الملفّات الدّولية الهامة، وقدرة عالية على تخطي العقبات التي اعترضت طريقها، أثبتت جدارة القيادة الاسلامية الإيرانية بقيادة شعب وفيّ، كان حاضرا في كل حدث تعلّق بمصيره ووقف مساندا نظامه، ومدافعا عنه بقوة، أشّرت الى وجود تناغم فريد بين القيادة والقاعدة، اختص بها الايرانيون وتميّزت حياتهم بأحداثها ونتائجها الإيجابية.

النظام الاسلامي في ايران، لم يكن بمنأى عن محيطه الاقليمي، وقد عبّر بصورة واضحة على رؤيته الشاملة، في التعاون المشترك بينه وبين دول الجوار، ووضع النقاط على الحروف بشأن مشاغله الأمنيّة، معتبرا ان وجود قوات اجنبية على قواعد في تلك البلدان، خطر محدق بالجميع بما فيها الدول المضيفة، وأن امن المنطقة يحفظه أهلها، ولكن بقي صوت ايران وموقفها المشرّف نشازا، وسط دول بنت أمنها وبقاء حكمها على الغرب، لكنها بساستها المرنة بقيت متمسكة بخيط أمل، باستفاقة الدول الجارة يوما ما، وحين لا يكون قد فات الأوان.

ولعل إدارة الأزمة الأخيرة التي نشبت بين ايران وبريطانيا وأمريكا، والتي كان محورها أزمة احتجاز بريطانيا ناقلة النفط الايرانية في مضيق جبل طارق، والتي قام الحرس الثوري في مقابلها باحتجاز ناقلة نفط بريطانية، قد برهنت من جديد على رسوخ النظام الاسلامي في التعامل مع الأزمات الطارئة، ومواجهتها بما يلزم من اجراءات ومواقف حازمة وحاسمة، قدّمت للعالم نظاما اسلاميا عتيدا، سائرا بخطى ثابتة نحو عزته وكرامته، متمسكا بحقوقه دون تنازل عن أيّ شيء منها، مهما كانت صغيرة أو عرضية.

لقد اثبت النظام الاسلامي الايراني، من خلال تعاطيه مع ازمة الناقلات المفتعلة امريكا وبريطانيا، قدرة على حسن ادارة الازمة، بحيث عجز المفتعلون لها عن تحويلها لصالحهم، وتمكن الايرانيون من كسب جولتها الوحيدة، والتي أعتقد ان الامريكان والبريطانيين قد استوعبوا درسها، ومعهم دول الخليج، وخرجوا منها بقناعة، انه ليس من صالحهم أن يعيدوا تكرارها مرة أخرى، ولا لدول الخليج أن تؤمّل في ما كانت تتوقعه، من وعود صعبة المنال، لم تدرس بشكل جيّد.

سياسة المعاملة بالمثل أقرّها القرآن الكريم: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليهم بمثل ما اعتدى عليكم.) (سورة البقرة الآية 194) وعمل بها النظام الاسلامي في ايران معبّرا فيها بقدرته على موجهة التحدّيات مهما كان مصدرها، ولا شيء يثنيه عن مقابلة الخرق والتجاوز بالأسلوب الذي يسمح له باستعادة حقوقه التي يحاول اعداءه غصبها أو الدّوس عليها.

والنتيجة الماثلة أمام أعيننا اليوم، تختزل نجاح 40 سنة من السياسة الحكيمة، التي حيّرت الغرب، واربكت حساباته بشأن إيران والمنطقة، بل ووضعتها في طريق الفشل والافلاس، الوقوف بندّية امام غطرسة بريطانيا وامريكا، نتج عنه انصياع بريطانيا، واذعانها لحق ايران باستعادة ناقلتها، فاطلقتها مقابل الناقلة المحتجزة لدى ايران، مع اعتذار رسمي عمّا بدر منها.

وهذا نجاح جديد، يضاف الى سلسلة النجاحات، التي حققتها السياسة الخارجية الايرانية، في تعاطيها مع الأزمات، سواء كانت ظرفية مفتعلة مثل هذه الأزمة، أو عميقة متعلّقة بملفات مركزية كقضية الشعب الفلسطيني، من أجل استعادة كامل ارضه، وقضية الشعب اليمني، من أجل وقف العدوان الاعرابي الخليجي عليه.

مدرسة السياسة الاسلامية الإيرانية، لا تزال تقدم الدرس تول الآخر، لتثبت مرة بعد اخرى، أنّ نظام الحكم الإسلامي، الذي قام في إيران بفكر الامام الخميني مطابق للإسلام المحمدي الأصيل، سيكون له شأنه كبير في المستقبل، وسيقنع من كان مشككا في جدواه، بانه رصيد اسلامي في عالم السياسة، تحتاجه الشعوب للنهوض بدينها واعلاء كلمته.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023