كتب الحبيب بوعجيلة: من حزيران الى تموز من ناصر الى نصرالله

(لمن يصبر على قراءة المطولات )

كانت هزيمة 67 التي لطفناها الى نكسة حدثا فارقا طبع الفكر و الأدب و السياسة لتدخل الساحة العربية في مسارات انكسار رهيب بعد ألق المشروع العربي الذي اختزله الزعيم جمال عبدالناصر أوائل الخمسينات عقلا و روحا و قيادة .و بقطع النظر عن العوامل الذاتية و الموضوعية التي تسببت في الهزيمة فان نتائجها ظلت ماثلة في الوجدان و الفكر العربيين و كانت انعكاساتها على صراع العرب مع العدو كارثية على امتداد العقود الثلاثة التالية لها .

عقود الانكسار..

بؤر الضوء التي تخللت عقود السبعينات و ما تلاها حتى الالفين لم تكن كافية لازالة آثار عدوان الهزيمة على الضمير و العقل و السياسة:

الانتصار الجزئي في حرب اكتوبر1973 بفضل التغييرات الجذرية و الاستعدادات التي قام بها عبد الناصر سرعان ما اكتشفنا أنه نصر أجهضه السادات سريعا عبر تعاطيه الخياني مع ثغرة الديفرسوار و مفاوضات الكيلو101 وصولا الى معاهدة كامب ديفيد التي أخرجت مصر نهائيا من المواجهة بما أكد وضع الاختراق الذي تم الاشتغال عليه في تنظيم الضباط الأحرار وصولا الى “اغتيال” الزعيم عبد الناصر ماديا و معنويا و انهاء أكبر حلم عاشته الأمة بعد تجربة محمد علي .

الانقلابات التصحيحية (الثورات) التي شهدتها العراق و سوريا و ليبيا بعد الهزيمة لم تكن كافية لايقاف الانحدار و لم تتمكن “نظم الصمود و التصدي” من مواجهة التآمر على القضية العربية بعد أن استلمها الخليج المتصهين بعد كامب ديفيد .

انخرط العقيد معمر القذافي في مغامرات لا يغيب عنها صدق شباب عربي ناصري موجوع بهزيمة الزعيم و مشروعه و لكنها لا تتوفر على عقلانية استجماع شروط القوة الذاتية و حصانة الجبهة الداخلية و الامساك بناصية العلم و بعد سياسات متقلبة و استعمال غير عقلاني لفصائل مقاومة فلسطينية دون أفق انتهى العقيد الى نظام محاصر بسمات كاريكاتورية معزول عن “جماهير الجماهيرية” و مستعد لكل التنازلات مع غرب لم يتردد في اسقاطه ضمن خطة ربيع وظيفي قاتل.

صدام حسين الذي تحول حزبه الى طرف حاكم بأمره الكامل للعراق في سياقات الهزيمة العربية حاول “استئناف” الحلم العربي الناصري بنكهة أخرى لكن العمى الاستراتيجي و نزعة الفردانية القاتلة أدخلت المشروع العراقي في مسار من الانتحار الذاتي الغريب . تم ادخال العراق بتخطيط صهيوخليجي في حرب مع ثورة وليدة في ايران و تم تغذية هذه الحرب بمد الطرفين بالاسلحة على امتداد 8سنوات استنزفت طاقة قوتين اسلاميتين في المنطقة كان بامكانهما ملء الفراغ الاستراتيجي الذي تركته مصر العظيمة .

و بعد غزو الكويت بدا واضحا أن سنوات “البعث العربي” بلكنة عراقية شارفت على النهاية و لن يكون سقوط العراق في افريل 2003 الا نهاية طبيعية لمغامرة “زعيم عربي” آخر أنهى نفسه بلا أنصار في المنطقة و العالم الا بوجدان جماهير لا تملك له الا الشفقة و الاعتزاز بالمظلوم.

المقاومة الفلسطينية التي رفعت في السبعينات من وتيرتها الكفاحية في لبنان بعد مغادرتها للأردن سوف تضطر الى الخروج الحزين من بيروت 1982 بعد اجتياح صهيوني كاسر للروح العربية.
يطول الحديث عن الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها فصائل فلسطينية عديدة في لبنان في علاقة بالشعب و النظم العربية التي تداعت على لبنان و على البندقية الفلسطينية أثناء الحرب الاهلية المدمرة .
كانت الثمانينات عقد الحزن القاتل للقضية العربية فبعد الخروج و مجزرة صبرا و شاتيلا و قمة فاس الخيانية التي هندسها فهد ابن عبد العزيز سوف ينعقد المجلس الوطني الفلسطيني الشهير في الجزائر لاعلان “الدولة” و تحوير الميثاق تمهيدا لمفاوضات مدريد و اتفاقات أوسلو التي ستجعل عقد التسعينات عصر الاحباطات الفلسطينية و العربية الشاملة .

سوريا البراغماتية و لبنان المقاوم ..أسرار الله ..

من الثمانينات الى تحرير الجنوب في 2000 كان هناك قوة صامتة تشتغل و تعد و تراكم في غفلة من صخب الانكسارات .كانت ملامح استعداداتها تبين للعين المتفحصة و لكن غفلة العدو عنها كانت بمثابة “اللطف الالاهي” الذي حفظ سرها .لكن النظام السوري كان عاملا اخر من عوامل انتصار هذه القوة .

تولى النظام “الأسدي” البعثي حكم سوريا في أوائل السبعينات بعد “حركة تصحيحية” قادها حافظ على خلفية هزيمة 67 و بعد مشاركة فعالة في حرب اكتوبر 73 سوف يدخل النظام السوري في مسار غرائبي تمكن فيه من الخروج سالما من أحلك فترات الانهيار العربي دون أن يتنازل في الصراع مع اسرائيل بما يجعله شبيها بحليفه في الحرب النظام المصري.

كان كيسنجر يقول أن العرب لا يحاربون بدون مصر و لكن لا سلام معهم بدون سوريا .
على هذه الورقة لعب النظام الأسدي بابتداع ما سيسمى بسياسة “الممانعة” التي تعني أن العرب اذا لم يقدروا على الحرب مع اسرائيل فيجب أن لا يعقدوا معها السلام .بعد أكثر من 50 سنة على هزيمة 67 و تولي نظام الاسد قيادة سوريا سقطت نظم و تغيرت معطيات و بحساب الربح و الخسارة في السياسة و الاستراتيجيا تبدو سوريا اليوم قوة اقليمية على أرضها تغير مسار العالم وتبلورت ملامح نظام عالمي جديد و تشكل محور مقاوم يبدو اليوم أفقا انتصار عربي ناجز.

استثمر النظام السوري على امتداد عقود ثلاثة بدهاء أموي و صرامة تدمرية في اوراق اللعبة بالمنطقة .

استفاد من اتفاق وقف الاشتباك بعد 73 و استعمل الورقة اللبنانية الى أقصاها منذ قيادته لقوات “الردع” و لاعب خصومه و اصدقاءه بأوراق القوى اللبنانية التي أمسك بكل خيوطها. استثمر في العلاقة مع الاتحاد السوفياتي الى آخر نفس فيه و شبك مع “النظام الرسمي العربي” دون أن يطيعه كليا و مد خيطا مع “ثورة وليدة” في ايران و راهن بدون مجازفة مع “الفصائل الفلسطينية” المتمسكة بالبندقية .على مستوى الجبهة الداخلية لم يكن بعيدا عن سمة التسلط و الاستبداد العربي السائد لكنه استثمر في التنوع و دوزن مشهدا سياسيا وجدت فيه تيارات عربية عديدة من أقصى اليسار الى أقصى اليمين عديدة مكانها فيه و انعكس ذلك كحزام سياسي داخلي لنظام في دولة مواجهة يوازن بين مخابراتية صارمة و فكر سياسي ممانع و جامع للممانعين .

لم يغامر النظام السوري في وضعيات الاستقطاب الكبرى التي شهدتها المنطقة . بل تصرف معها ببراغماتية صادمة .ساهم في حشود حفر الباطن لتحرير الكويت في التسعينات و لكنه فتح الحدود للاجئين و المقاومة العراقية في الالفين .ذهب الى مدريد أوائل التسعينات و لكنه لم يصل الى أوسلو و وضع شروط “الحل الشامل” . قبل المبادرة العربية لكنه وقف مع اميل لحود يدافع على تحوير نصها الاصلي حتى فقدت سندها الامريكي الصهيوني .

“القوة الأسدية ” التي بدأت في حركة متحفظة على امتداد ثلاثة عقود بعد الهزيمة لم تبدأ في الحركة المريحة الا بعد اكتشاف قوة مقاومة نشأت غامضة في اوائل الثمانينات بعد انشقاق شباب من حركة حليفة للسوريين .

حاول النظام السوري التعرف على هذه الورقة ظنا منه أنها كغيرها من “أوراق الاستعمال الوظيفي” و قد توترت علاقته معها في البداية الى درجة استشهاد مقاتلين من حزب الله على يد الجيش السوري و لكن سنوات قليلة كانت كفيلة بأن تثبت للنظام “الممانع” أنه أمام قوة مقاومة بروح جديدة ورؤية أخرى لم يعرفها سابقا و أنه مدعو للتعامل معها بالجدية اللازمة التي تستحقها .

تأكدُ حزب الله قوة لبنانية وطنية رئيسية مختلفة كانت بعد سنوات قليلة من تشكله و في سياق هذا التأكد سيبدو للنظام السوري أنه قد يجد حليفا يمثل معه قوة اقليمية في منطقة تذهب للانتصار ..كانت انتصارات اواسط التسعينات ثم تحرير الجنوب وصولا الى ملحمة 2006 و انتهاء بانتصارات 2017 و 2018 تتويجا لقصة عجيبة بين “نظام” و “مقاومة” كتبت التاريخ الراهن لانتصارات العرب ..(يتبع)

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023