كتب صبحي حديدي *- أمريكا والباكستان: أبعد من كريكت عمران خان

ما تخسره الولايات المتحدة من حلفاء عقود طويلة، بسبب سياسات الرئيس الأمريكي الحمقاء أو الطائشة أو المتغطرسة، أو حتى العنصرية المكشوفة، تسارع روسيا إلى خطب ودّه واكتسابه؛ حتى حين يكون المكتسَب الجديد قادماً من عقود، طويلة بدورها، حفلت بالعداء والبغضاء. ليست تركيا رجب طيب اردوغان آخر الأمثلة، وإنْ كانت أوضحها لجهة العلاقة مع الحلف الأطلسي في أقلّ تقدير، بل هي اليوم باكستان رئيس الوزراء الجديد عمران خان؛ الذي حقق حزبه، «حركة الإنصاف» فوزاً مباغتاً في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وألحق هزيمة نكراء بحزب «الرابطة الإسلامية» وزعيمه نواز شريف.
صحيح أنّ إدارات أمريكية سابقة، جورج بوش الابن وباراك أوباما، لم تكن سعيدة بخيارات الباكستان في عدم الضرب بقوّة كافية ضدّ جيوب الطالبان، وحلفائهم، داخل الأراضي الباكستانية؛ إلا أنّ أياً منهما لم يقطع الشعرة الحاسمة مع إسلام آباد، خاصة تلك التي تربط جنرالات الأمن الباكستاني بجنرالات البنتاغون والـCIA، حيث الذكريات عطرة طافحة بالتعاون المثمر ضدّ السوفييت في أفغانستان. ترامب فعلها، بل اختار أن يكون التعريض بالباكستان أوّل تغريدة له يفتتح بها العام 2018: «بحماقة قدّمت الولايات المتحدة إلى الباكستان 33 مليار دولار من المساعدات طيلة 15 سنة، ولكنهم لم يعطونا أي شيء سوى الأكاذيب والخداع، ظانين أنّ قادتنا حمقى. إنهم يوفرون الملجأ الآمن للإرهابيين الذين نطاردهم في أفغانستان، مع قليل من العون. كفى!».
والحال أنّ ترامب يعلم، أكثر من أيّ مخلوق على هذه البسيطة، أنّ الإدارات الأمريكية ليست جمعيات خيرية تمنح مليارات المساعدات إلى عشرات الأنظمة في أربع رياح الأرض، هكذا بالمجان؛ أي دون مقابل جيو ــ سياسي وأمني وعسكري واقتصادي وثقافي، ليس مجزياً ومكافئاً لتلك المليارات فحسب، بل لعله مقابل أقرب إلى النفقة الواجبة لقاء رفعة المركز الإمبريالي والرأسمالي الكوني الأوّل، واستمرار سطوته وهيمنته. وكما يمتلك ترامب، اليوم، سلطة تجميد مساعدات إلى الباكستان بقيمة 255 مليون دولار، فإنّ بوش الابن وأوباما امتلكا السلطة ذاتها حول مساعدات مماثلة، طيلة 16 عاماً؛ لكنهما أحجما عن أيّ تجميد لأنّ الرهانات الأمريكية في جنوب شرق آسيا، وليس في أفغانستان وحدها، تتجاوز بكثير هذه الملايين.
أية إطلالة سريعة على تاريخ العلاقات الأمريكية ــ الباكستانية سوف تؤكد أنّ انفتاح الإدارات الأمريكية المختلفة على ضباط الأمن والنُخب العليا السياسية والاقتصادية في الباكستان، اقترن على الدوام بإهمال ضبّاط الجيش والتشكيك في ولائهم؛ وأسفر، بالتالي، عن تغريب قيادة الجيش، ودفعها أكثر فأكثر إلى الحاضنات الأخرى المؤهلة لاستيعاب هواجس العسكر: الحاضنة القومية (وتكفلت بها مسائل النزاع مع الهند حول حقوق الباكستان في كشمير)؛ والحاضنة الإسلامية (تحت تأثير الثقافة غير العلمانية لمؤسسات الجيش، على نحو خاصّ)؛ والحاضنة السياسية والحزبية، التي كانت تجد مرجعية دائمة في حالة انعدام الاستقرار ولعبة الكراسي الموسيقية بين «حزب الشعب» و«حزب الرابطة الإسلامية».
وفي أواخر التسعينيات، حين اندلعت أزمة التجارب النووية بين الهند والباكستان، كان رئيس الوزراء يومذاك، نواز شريف، قد رضخ لطلب الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، فصرف النظر عن معاملة الهند بالمثل، وأوقف تنفيذ تجارب نووية باكستانية. لكنّ الجنرال جهانجير كرامات، قائد الجيش الباكستاني في حينه، أبلغ شريف امتعاض الجنرالات من هذا القرار وإلحاح الجيش على تنفيذ تجارب نووية، بل وأطلق تصريحات ضدّ مؤسسة رئاسة الوزراء اعتبرها شريف كافية لإقالته واستبداله بجنرال طيّب منضبط غير مسيّس، هو… برويز مشرّف! ولقد استغلّ مشرّف الفوضى السياسية، وضيق الشارع من الفساد، وأزمة التجارب النووية مع الهند، لكي يستكمل انقلابه العسكري وينقضّ على الدستور.
لكنّ خطاب العسكر اشتغل، أيضاً، على تعريض المؤسسة العسكرية (وربما الوجدان الباكستاني القومي، والشعبوي بصفة عامّة) إلى مهانة انسحاب الجيش والميليشيات من سفوح هيملايا لصالح الهند، تحت ضغط أمريكي. ولقد ظلت المفردات إياها، أو معظمها، مهيمنة على خطاب مشرّف حين حلّ البرلمان ومجلس الشيوخ والمجالس المحلية، وحين أعفى الرئيس محمد رفيق ترار من مهامّه، ونصّب نفسه جنرالاً رئيساً وقائداً للجيش وزعيماً مطلق الصلاحيات؛ قبل أن يفرض سيرورة انتخابه، عن طريق فرض حالة الطوارئ… هذه التي سوف يضرب عن الطعام، احتجاجاً عليها، أيقونة لعبة الكريكت عمران خان؛ ومن بوّابتها تلك سوف يدلف إلى السياسة، ويؤسس حركته، ويكتسح الانتخابات قبل أيام.
ولم يكن عجيباً، والحال هذه، أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (خرّيج استخبارات الـKGB والطور المتأخر من استهداف «الجيش الاحمر» في أفغانستان، حين كان للباكستان دور محوري)، أرسل على الفور نائب وزير الدفاع ألكسندر فومين لمناقشة عقود التسليح الجديدة الممكنة؛ وذلك بعد أن كان السفير الروسي في إسلام آباد بين أوائل الوافدين إلى مقرّ خان الانتخابي لتهنئته بالفوز، خلافاً للتقاليد الدبلوماسية. وهذا خيار لا يعتمده الكرملين نكاية بسياسات البيت الأبيض، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الولايات المتحدة تسعى إلى الاستئثار بالعلاقة مع الهند، في ظلّ حكومة ناريندرا مودي وحزب «بهارتيا جاناتا». كذلك فإنّ رعاية موسكو لحوار أفغاني ــ أفغاني، تشارك فيه حركة طالبان، خطوة تستكمل ستراتيجية روسية شاملة في جنوب شرق آسيا.
وهذه إدارة أمريكية لا تقصّر، والحقّ يُقال، في مدّ يد العون إلى الكرملين عن طريق اتخاذ قرارات لا تقوم بما هو أقلّ من إذكاء نيران الغضب في نفوس جنرالات الباكستان؛ وبالتالي منح خان أكثر من ذريعة، قومية وشعبوية، في إدارة الظهر لواشنطن، والتطلع إلى موسكو. على سبيل المثال، أشارت تقارير صحافية أمريكية مؤخراً إلى أنّ وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو يعتزم تعيين زلماي خليلزاد مبعوثاً خاصاً إلى أفغانستان، لأسباب شتى ليس أوّلها أنّ الأخير أفغاني الولادة وينتمي عشائرياً إلى الأغلبية البشتونية. المشكلة، مع ذلك، تكمن في أنّ خليلزاد (السفير الأمريكي الأسبق في أفغانستان والعراق) هو أحد رجال الإدارات السابقة الأكثر بغضاً في أوساط الجيش، وفي قواعد «حركة الإنصاف» أيضاً وعلى وجه التحديد.
ولهذا، ولأنه لاعب كريكت محترف سبق أن قاد منتخب بلاده إلى الفوز ببطولة العالم سنة 1992، فإنّ خان أعلن أنّ إيران سوف تكون أوّل بلد يزوره بعد أدائه القسم كرئيس للحكومة، الأمر الذي لا تخفى دلالاته لجهة واحدة من أحجار الأساس الكبرى في سياسة ترامب الشرق ــ أوسطية الراهنة. وأمّا ذااك الذي يذهب أبعد من تكتيك الحركة الالتفافية في الكريكت، فقد كان قرار خان أن تكون المملكة العربية السعودية هي الدولة الثانية بعد إيران؛ حيث يمكن الجمع بين النفوذ الروحي الذي يملكه المرشد الأعلى الإيراني على خامنئي لدى جمهور الشيعة في الباكستان، وبين ملايين الدولارات التي يمكن أن تتولى الرياض صرفها، تعويضاً عن مساعدات واشنطن المجمدة.
حركة الالتفاف ذاتها يمكن أن تفترض وجود خطّ وفاق باكستاني متماثل، بين الرياض وطهران؛ كما تفترض أنّ رئيس حكومة إسلام آباد، التي يشارك جيشها رسمياً في «عاصفة الحزم»، ليس هو نفسه عمران خان الذي تلقى ساعة فوزه تهنئة حارة من زعماء الحوثي! وفي كلّ حال، ما صنّفه ترامب ذات يوم في خانة بلدان «حفرة البراز» التي ستمتنع أمريكا عن استقبال المهاجرين القادمين منها، يعيد اليوم العلاقات مع الولايات المتحدة إلى طور لا مليء بحفر أخرى كثيرة، تذهب أبعد من خطوط الكريكت، وأدهى.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023