كما سوريا كذلك فنزويلا: لا عودة إلى الوراء في التحرّر من أميركا

بقلم: سمير الحسن* |

تخرج الولايات المتحدة من سوريا ليس خروج الأبطال والمنتصرين. عندما تدخّلت، ربما كانت تعرف حدودها مُسبقاً، أي تعزيز التفاوض على المشاركة في المكتسبات تحت شعار محاربة الإرهاب. لذلك، لا نرغب أن نقول إنها خرجت من سوريا بسبب هزيمتها، فهي لم تتدخّل لتنتصر، وهي مهزومة قبل سوريا، في أفغانستان، والعراق، ولم تعد تقوى على المزيد من الخسائر.

كما أن مختلف الآفاق باتت مسدودة بوجهها، فلا الاتحاد الأوروبي باستطاعته دعمها، ولا تشكيل مجال للاستثمار فيه، ولا يمكن الاعتماد عليه كقوّةٍ حليفة، فله موجباته، وأسباب ضعفه، وتراجع نموّه، عدا عن محاولات منافسته للولايات المتحدة في غير موقع عالمي. ولا اتفاقية “آبيك” (آسيا-المحيط الهادي)، أبصرت النور لتجد الولايات المتحدة فيها مُتنفّساً من أزماتها الاقتصادية المُتفاقمة.

لكن الولايات المتحدة تشمّر عن زنودها، مُهدّدة ومُتوعّدة في فنزويلا، ومحاولة الالتفاف على ضعفها بالعودة إلى ماضٍ ليس ببعيد، يوم كانت ما تزال قادرة على التدخّل، والتدمير، والقتل فتكلّف أليوت إبرامز، المشارك في التخطيط للعديد من الحروب الأميركية في العالم ومنها حربها ضد العراق، بالملف الفنزويلي، رغم أنه ليس من فريق الرئيس الحالي دونالد ترامب، وتالياً لا يمكن النظر إلى تلك الخطوة إلا أنها تعبير عن ضعف الولايات المتحدة التي لم يبق عندها من الصقور ما تُهدّد به، فتستعيد الماضي لتُهدّد في الحاضر. مؤشّر من مؤشّرات المعركة الفنزويلية، ونتائجها، قبل اندلاعها.

تخرج الولايات المتحدة من سوريا، لـ”تبرق وترعد” فوق فنزويلا. حاولت الكثير منذ وصول الرئيس الراحل هوغو تشافيز إلى السلطة، وأسقطته مرة لكنه بفضل محبّة الجمهور الفنزويلي له، عاد منتصراً. ومنذ أن ورث الرئيس الحالي نيكولاس مادورو السلطة، وأعلن التزامه الثورة التشافيزية، عمدت الولايات المتحدة الأميركية إلى مُحاصرته، فمنعت البضائع عن فنزويلا، وضغطت بالدولار، وبمُمارسات كثيرة حتى تحوّلت فنزويلا من بلدٍ غني، إلى بلدٍ يشكو شعبه الفقر رغم الثروات الطائلة التي يكتنزها.

التحوّل الذي شهدته فنزويلا منذ عصر تشافيز، وحتى اليوم مع مادورو، لا يختلف عن التحوّلات التي شهدتها أميركا اللاتينية أواسط القرن الماضي، حيث وصل اليسار إلى أغلبية السلطات اللاتينية، فحدثت عدّة انقلابات أعادت القارة الجنوبية إلى أحضان الولايات المتحدة، ما خلا كوبا التي نجت لأكثر من سبب، منها التفاف الجماهير حول قيادتها، والدعم المباشر الذي تلقّته من الاتحاد السوفياتي آنذاك.

في العقد الماضي، شهدت أميركا اللاتينية تحوّلاً كبيراً نحو اليسار، لكن الولايات المتحدة الأميركية لم تولِ الاهتمام الكبير للتحوّل، تاركة إياه للحظة الضرورية في ظلّ انهماكها في ملفات عالمية أخرى أبرزها مواجهة الصين، وإيران، والانخراط في الأحداث السورية. تحاول الولايات المتحدة إعادة ما أمكن من أنظمة إلى فضائها، فنجحت في البرازيل نجاحاً هشّاً. والآن تحاول التدخّل في فنزويلا، فتقيم انقلاباً غير دستوري، تحاول به استعادة تجاربها في أمكنة أخرى من العالم بإحداث ازدواجية سلطة، تتمكّن من خلالها التدخّل بالطريقة التي تُناسبها.

لم تعد الولايات المتحدة تتحمّل المزيد من الهزائم العالمية إثر إعلان انسحابها من سوريا. ولا تستطيع “العنتَرة” إلا في مكان ضعيف، بضعف الاختلاف بين حجمي البلدين: الولايات المتحدة وفنزويلا. والولايات المتحدة تواجه اليوم عالماً غيره في أواسط القرن العشرين. وليس همّها سلطات موالية، بقدر ما يهمّها وقف انهيارها بما بات العالم الشرقي الصاعد يهدّدها به، والركيزة الاستغناء عن الدولار كعملة تبادُل، وكاحتياطٍ للعملة الوطنية في العديد من الدول العالمية، انطلاقاً من دول “البريكس”، ومن يلفّ لفّه من دولٍ أخرى لا تقلّ أهمية مثل إيران وتركيا.

إن أكثر ما يؤلم الولايات المتحدة اليوم هو تخلّي العديد من دول العالم عن الدولار كعملة تبادُل، وكاحتياطٍ لبقية العملات الوطنية، واعتماد الذهب كاحتياط بديل من الدولار. وهذا ما قامت به دول “البريكس”، وإن بشكل نسبي في بداية الطريق، وسحب كميات من الذهب من البنوك الأميركية، وكذلك سحب سندات الخزينة من البنوك الأميركية، خصوصاً الصين وروسيا، وبيعها في الأسواق العالمية.

وإذا شئنا ألا نظهر تضخيماً للمسألة، ولا في انعكاساتها على اقتصاد الولايات المتحدة بصورةٍ واضحةٍ بعد، لكن نهوض دول كبيرة أخرى، وحلولها محل الولايات المتحدة في العديد من الساحات العالمية، وصولاً إلى أميركا اللاتينية، يُقلق الولايات المتحدة، ويُهدّدها في سلاحها الأول الدولار الذي تسيطر به على العالم.

ولا تشذّ فنزويلا عن القاعدة، فقد كانت من الدول السبّاقة بالتخلّي عن الدولار، والتعامُل به، بصورةٍ تامة، أي بطريقة أكثر حدّة وجذرية من بقيّة دول العالم التي اتّخذ منحاها الاستقلالي عن الدولار منحى نسبياً، وليس مُطلقاً كما فنزويلا.

وما فاقم المسألة تعقيداً، وأكثر ما أثار حفيظة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، خصوصاً البريطانيين، ودفعها لإعلان انقلاب كان يمكن إعلانه سابقاً، فهو المستجد، وتحديداً طلب فنزويلا جزءاً من ودائع ذهبها في البنك البريطاني، ما دفع بإنكلترا لرفض إعطاء الذهب إلى فنزويلا، وجرت مفاوضات، وتجاذبات عليه، أدّت في ما أدّت إليه، إلى قيام الانقلاب الوَهمي ضد مادورو.

وإذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، منزعجين ومتضرّرين من المنحى الاستقلالي الاقتصادي للعديد من دول العالم، فإن هذه الدول مهتّمة بالحفاظ على ما حقّقته من استقلالٍ وطني نسبي بالاستقلال عن الدولار، والاعتماد على الذهب كاحتياطٍ لاقتصادها. ومن هنا، وقفت كل هذه الدول إلى جانب مادورو في فنزويلا بعد إعلان الانقلاب، غير قابلة بالعودة إلى الوراء في أية خطوة خطتها إلى الأمام حتى الآن.

من هنا يمكن القول إن نتائج التدخّل الأميركي في سوريا لإنقاذ صبرا، وجربا، وغليون، والأتاسي ومَن شابَههم من نصوب معارضة، لن يكون أكثر فاعلية في دعمها “غوايدو” في انقلابه على مادورو.

* كاتب لبناني

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023