ما يمكن استخلاصه من العرض المسرحي (واقعة الطف) من أثر في الأنفس…بقلم محمد الرصافي المقداد

ما يمكن استخلاصه من العرض المسرحي (واقعة الطف) من أثر في الأنفس…بقلم محمد الرصافي المقداد

تميّزت قرية الجرسين بولاية قبلي بخصال طيّبة اجتمعت فيها، قلّما اجتمعت في قرى اخرى، فهي من القرى الصحراوية، المتاخمة لجنوب شرقي شط الجريد، وما يعنيه ذلك من قسوة صيف وشتاء، عُرِف أهلها بحسن الخُلُق وكرم الضيافة، وما ميّزهم عن غيرهم في هذه المناطق، سعيُ مثقفيها الدؤوب والمشروع، من أجل أن تكون قريتهم الجرسين مميّزة عن غيرها من القرى، معروفة بأنشطتها الثقافية والتربوية وجهود أهلها الحثيثة من أجل نماء قريتهم، وتصدّرها المشهد الثقافي في الجهة، وأهل الجريسين تُعجبهم الإحتفالات وتشدّهم التظاهرات قديما وحديثا، ويُولُونها من حياتهم أهمّية بالغة، بحيث يحضر إحياءها غالبيتهم ويشاركون أوقاتها بكل جدية وحماس، ويتفاعلون معها تفاعلا لافتا.

 

هذا الاهتمام الكبير والتلقائي برز على مدى وجود هذه القرية، وليس جديدا أن تتطوّع جمعية الأمل الثقافية بالجرسين لاحتضان الدّورة الرابعة للمهرجان الدولي للمسرح في الصحراء من 1الى 5 ماي 2024، شاركت فيه 24 دولة من بينها ايران التي قدّمت فرقة الأهواز عرضا مصوّرا لحادثة الطّفّ ( مقتل الامام الحسين عليه سيد شباب أهل الجنة عليه السلام)، وكان عرضا مميّزا أجاد ممثلوه في تقريب صورة تاريخية عن مظلومية الامام الحسين خامس أصحاب الكساء وهو في طريقه الى الكوفة استجابة لرسائل أهلها الذين دعوه للقدوم من أجل أن يخلّصهم من قبضة يزيد بن معاوية وبني أميّة الذين (اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا ودينه دغلا)، فما كان منه سوى الاستجابة إلى التماسهم.

 

هذه الحادثة التاريخية المغيّبة عن عامّة الناس، وتغييبها كان متعمّدا من طرف حكام الظلم والجور على مرّ التاريخ وقد بذلوا جهودهم من أجل اعفاء ذكرها، لكن دون جدوى ذلك أن مودّة الحسين وأهل بيته هي من تفاصيل الإسلام وأحكامه بخصوص هؤلاء الذين اذهب عنهم الله الرجس وطهّرهم تطهيرا، وقد قال تعالى: ( ذلك الذي يبشّر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إنّ الله غفور شكور ) سورة الشورى الآية 23 وقد أخرج المحدّثون والحفاظ وأهل التفسير في أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال: علي وفاطمة وولدهما) ونقل أنه لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا أقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قربى الفتنة. فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: اقررأت القرآن؟ قال: نعم. قال: اقرأت أل حم؟ قال قرأت القرآن ولم اقرأ آل حم. قال: ما قرأت (قل لا أسألكم عليه أجرا إلّا المودّة في القربى)؟ قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم. الدرّ المنثور جلال الدين السيوطي سورة الشورى الآية.

 

ما يمكن تسجيله هنا هو الوعي الذي اتّسم به الحضور، ومشاركة الأهالي الواسعة بالحضور والتفاعل أثناء العروض المسرحية، وخصوصا العرض الذي قدّمته الهيئة المسرحية أم البنين بمحافظة خوزستان بإيران بعنوان (واقعة الطفّ)، وهو عرض مميّز أعطى للحضور فائدتين: الفائدة الأولى: مكنتهم من الاطلاع على حدث تاريخي هام وخطير، أدّى بعد حصوله إلى حدوث رجّة معنوية وروحية بين أهل الإسلام وخصوصا أحراره الذين تشبّثوا بقيمه العليا في الدفاع عن بيضة الدين والتضحية بكل عزيز من أجل الحفاظ عليه، والمشاهد التي تابعها أهلنا بالجرسين العزيزة أعطتهم فكرة على ما لقيه أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من متاعب وأحزان جمّة بعد رحيل جدّهم.

 

الفائدة الثانية: هذه الحادثة التي تعرض لها هؤلاء الأبرار الأخيار، من شأنها أن تدفع إلى التساؤل أين هي مودّة هؤلاء الصفوة التي فرضها الله سبحانه على أهل الإسلام، والامام الحسين عليه السلام هو رأس أهل البيت عليهم السلام ورئيسهم، وهو مشمول بتلك المودّة فضلا عن كونه سيد شباب أهل الجنة، وهي تستوجب حبّتهم دون تحفّظ فيها، يفرح فيها المؤمن لفرحهم ويحزن لحزنهم، وإنّ قتْل الإمام الحسين عليه السلام، وأبنائه وأبناء أخيه الحسن عليه السلام، و أخيه العباس قمر بني هاشم وخيرة أصحابه، عطاشى وذبح ابنه الرضيع علي الأصغر بين يديه، أراد ارواء عطشه بطلب الماء له، فعالجه أعداءه لعنهم الله جميعا بنبل أصاب رقبته فذبحه، وأيّ مصيبة أعظم من هذه المصيبة التي ابتليت بها الأمّة الإسلامية في العشر من المحرم سنة 61 هجرية.

 

هذه الحادثة كانت لها آثارها الإيجابية رغم قسوتها وما اثارته من أحزان، فقد زعزعت استقرار حكام بني أميّة وهدّدت سلطانهم بشكل لم يسبق لهم أن عاشوه من قبل، ومن واقعة كربلاء استلهم الاحرار والثوار نهج اصلاحهم في الأمّة، فقامت ثورات عديدة من بعدها، بدأ من ثورة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، وثورة المختار الثقفي، الذي استأصل شأفة كل من شارك في قتل الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام، ولم يبقي منهم أحدا على قيد الحياة تقريبا، وتواصلت ثورات الأحرار بعد ذلك، إلى أن سقط الحكم الأموي الظالم، وإلى اليوم يستلهم الثوار من اتباع منهاج الأئمة الأطهار، من أهل بيت النبي المصطفى المختار صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نسج قوم سلمان على ذلك المنوال الصالح، ونجحوا في إزاحة طاغيتهم الشاه، بقيادة حكيمة من رجل دين مجتهد، اسمه روح الله الخميني، أقام على أثرها نظاما إسلاميا عتيدا، ينافس اليوم ويتحدّى القوى الغربية العظمى المستكبرة، افتتح عهده بكلمة بليغة المعاني: ( كل ما لدينا من عاشوراء)، فَهِمَ منها العالم المثقّف الآثار التي ترتّبت على ثقافة الثورة الحسينية، التي تبنّاها خلّص الموالين لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحدثوا بها تحولات جذرية في مجال الحكم والسياسة .

 

 

 

 

شارك على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023