للفلسطينيين تجارب مريرة مع الحروب والصراعات الدولية والإقليمية والعربية، فبالرغم من أنهم لم يصلوا بعد للدولة المستقلة وما زالوا خاضعين للاحتلال إلا أنهم يجدون أنفسهم في موقف حرج كلما اندلع صراع دولي أو إقليمي أو حرب أهلية في بلد عربي، حيث تضغط عليهم دول وكيانات متحاربة ليتخذوا موقفا مناصرا لها مما يعني معاداة الطرف الثاني من الصراع الأمر الذي يُعرِض الفلسطينيين لعقوبات هم في غنى عنها، وهذا ما يجري اليوم مع حرب روسيا مع الغرب.
الحياد الفلسطيني معضلة وله قصة تبدأ منذ تأسيس منظمة التحرير. كانت منظمة التحرير منذ تأسيسها حتى نهاية الحرب الباردة تساند دوما المعسكر الاشتراكي وتعلن موقفا معارضا للغرب وهو موقف مقبول لأن الغرب حليف لإسرائيل والمعسكر الاشتراكي كان حليفا للفلسطينيين و لحركات التحرر في العالم، إلا أنه ومنذ انهيار المعسكر الاشتراكي وبداية عملية التسوية السياسية برعاية أمريكية، في مؤتمر مدريد 1991 و أوسلو 1993 ثم قيام السلطة الوطنية، والمنظمة تحاول الوقوف موقفا محايدا من أي صراعات أو خلافات دولية، وبالنسبة للخلافات بين الدول العربية تبنت منظمة التحرير مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية والوقوف موقف الحياد في النزاعات العربية، ومع ذلك كانت أحيانا تضطر لمناصرة طرف على حساب طرف آخر وحتى إن وقفت موقف الحياد كانت تدفع ثمن حيادها.
فمثلا، عندما كانت خلافات حادة بين سوريا والعراق خلال سبعينيات القرن الماضي وقفت منظمة التحرير الفلسطينية موقفا محايدا ومع ذلك شكلت سوريا منظمة تابعة لها (منظمة الصاعقة) وشكل العراق منظمة تابعة له (جبهة التحرير العربية) وتم فرضها على منظمة التحرير.
أثناء الحرب الأهلية وانقسام لبنان لمعسكرين، معسكر ماروني تسانده أمريكا وإسرائيل ومعسكر مسلم سني مؤيد لفلسطين وقضايا الأمة العربية، لم يكن أمام المنظمة إلا أن تتحالف مع المعسكر الثاني، ومع أن بذور الحرب الأهلية موجودة قبل وجود منظمة التحرير في لبنان حيث اندلعت حرب أهلية في عام 1958 و تدخلت أمريكا عسكريا ردا على التدخل المصري، كما استمرت الحرب الأهلية حتى الآن بالرغم من خروج قوات المنظمة بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982، بالرغم من ذلك حمل البعض المنظمة المسؤولية عن الحرب الأهلية!!!.
في حرب الخليج الثانية 1990 تم اتهام المنظمة بمناصرة العراق وتم محاصرتها ماليا وقطع التواصل معها وخصوصا من دول الخليج وهو الحصار الذي عجَّل بذهاب المنظمة نحو التسوية السلمية وتوقيع اتفاق أوسلو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من القضية الفلسطينية التي كان يُراد شطبها.
خلال الخلافات الأخيرة بين دول الخليج حاولت القيادة الفلسطينية الوقوف موقفا محايدا بين المحور الذي تقوده قطر والآخر الذي تقوده السعودية والإمارات، إلا أن حيادها لم يمنع أن تقوم قطر بدعم حركة حماس ومساندة انقلابها ضد السلطة ولم يمنع الإمارات من مساندة محمد دحلان الذي يقود انشقاقا وتمردا على حركة فتح والرئيس أبو مازن.
مع الحرب الحالية في أوكرانيا وهي حرب عالمية حتى وإن كانت ساحتها العسكرية المباشرة حتى الآن مقتصرة على أوكرانيا، يواجه الفلسطينيون موقفا لا يُحسدون عليه. صحيح أن مواقف روسيا تجاه الفلسطينيين أفضل من مواقف الدول الغربية وللروس فضل على الفلسطينيين يعود لزمن الاتحاد السوفيتي وأن الفيتو الروسي في مجلس الأمن كان في كثير من المواقف مفيدا للفلسطينيين، وصحيح أن مواقف أوكرانيا رئيسا وحكومة معادية للفلسطينيين و متحيزة كثيراً للكيان الصهيوني، ولكن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي والسلطة الوطنية ليست منظمة التحرير الفلسطينية.
ضمن الواقع القائم الآن فإن روسيا دولة في مقابل تحالف غربي يفوق الخمسين دولة وفي هذه الدول جاليات و سفارات ومصالح فلسطينية، كما أن ما تقدمه دول الغرب من دعم مالي للفلسطينيين يفوق كثيراً ما تقدمه روسيا، مع إدراكنا أهداف الغرب من دعمه السلطة وشروط الدعم بينما الدعم الروسي القليل بدون ثمن سياسي، كما أن القيادة الفلسطينية الملتزمة بعملية السلام لا يمكنها أن تعادي دول الغرب بما فيها أمريكا لأن أي عملية تسوية سياسية لن تكون إلا بموافقة وحضور أمريكا والغرب ولا تستطيع روسيا أن تحل محلهم.
الضغط الذي تمارسه دول الغرب على القيادة الفلسطينية لإدانة الغزو الروسي غير مقبول وغير أخلاقي لأنه يستغل حاجة الفلسطينيين للمساعدات الغربية، ولأن الغرب يتصرف بازدواجية المعايير وبشكل لا يخلو من عنصرية، فإن كانت روسيا تغزو أوكرانيا في انتهاك واضح للقانون الدولي كما يقول الغرب فإن إسرائيل غزت دول عربية في حرب 1967 وما زالت تحتل كل فلسطين بالإضافة إلى الجولان السورية، كما غزت أمريكا أفغانستان والعراق ولم تقف دول الغرب نفس الموقف الذي تقفه تجاه الغزو الروسي، وهذه ازدواجية في المعايير لأن الاحتلال مرفوض ولا يجوز إدانة احتلال دولة غربية مسيحية والصمت على احتلال دولة عربية أو إسلامية!.
فإلى أي مدى تستطيع القيادة الفلسطينية الصمود في وجه الضغوط الغربية؟ الأمر متروك للقيادة الفلسطينية التي نتمنى عليها البقاء محايدة قدر الإمكان مع إدراكنا أن حيادها قد لا ينقذ الفلسطينيين من مغامرة ما تقوم بها إسرائيل إن تطور الصراع وتوسعت الحرب وامتدت خارج حدود أوكرانيا.
وفي هذا السياق فإن حرب أوكرانيا ترسل رسالة خطيرة مفادها أن العالم محكوم بالقوة وموازينها وبالمصالح، وأن لا قدرة للشرعية الدولية على كبح جماح أي دولة كبرى تسعى لتغيير الواقع بالقوة، وبالتالي فكما أن روسيا تجتاح أوكرانيا وسبق ذلك اجتاحت القرم، وكما أن أمريكا اجتاحت أفغانستان والعراق، والجيش التركي غزا أراضي سورية وعراقية، والجيشان السعودي والإماراتي يقاتلان في اليمن، و قطاعات من الجيش والميليشيات الإيرانية متواجدة في اليمن والعراق وسوريا … فما الذي يمنع إسرائيل أن تستغل الوضع الراهن لتقوم بعملية كبرى على الجبهات التي تعتبرها مصدر تهديد لها كإيران أو سوريا أو لبنان أو على الجبهة الفلسطينية كأن تُعلن ضم الضفة أو تهجير جماعي للفلسطينيين وقد لمح قادة إسرائيل في الأيام الأخيرة باحتمال ضم غور الأردن، مستغلة انشغال العالم بما يجري في أوكرانيا؟.
إن كانت قيادة منظمة التحرير حذرة في موقفها فإن فصائل فلسطينية، وخصوصا حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، قد يكون لها مواقف مغايرة، مثلا إن دخلت إيران في جبهة الحرب إلى جانب روسيا أو استغلت إسرائيل حرب أوكرانيا لتوجيه ضربة لإيران فماذا سيكون موقفهما؟ صحيح، إن حركة حماس الإخوانية تتميز بالبراغماتية وللإخوان علاقات تاريخية مقبولة مع الغرب وعلاقات باردة مع روسيا بالرغم من زيارات متعدد لقيادات حمساوية لروسيا، ولكن أيضا لها علاقات قوية مع إيران وخصوصا في الجانب العسكري، وكذا الأمر مع الجهاد الإسلامي، وسيكون الأمر أكثر إرباكا بالنسبة لحركة حماس إن انحازت إيران إلى جانب روسيا واصطفت قطر وتركيا إلى جانب الغرب… . فهل سيسارع الفلسطينيون لاتخاذ موقف موحد بخصوص ما يجري استباقا لتداعيات غير محمودة للحرب على الجميع؟ نأمل ذلك.
Ibrahemibrach1@gmail.com