أحداث كثيرة وخطيرة جرت منذ توقيع اتفاقية أوسلو والمراهنة الفلسطينية على تسوية سياسية تؤدي لـ (حل الدولتين)، وهي تحولات جعلت هذا الحل كما تراه وتريده القيادة الفلسطينية شبه مستحيل لعدة أسباب منها:
1- سياسة الاستيطان التي لم تترك أرضا في الضفة الغربية لقيام الدولة الفلسطينية.
2- توقف عملية التسوية السياسية وتراجع الاهتمام بها عربيا ودوليا.
3- الانقسام الفلسطيني الذي أسس لمشروع دولة غزة وأدى لضعف مؤسسة القيادة الفلسطينية.
4- وصول حكومة صهيونية عنصرية تتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني بل وتنفي وجود شعب فلسطيني كما زعم المتطرف سموترتش.
5- الصراعات العربية الداخلية والتطبيع بين دول عربية وكيان الاحتلال مما أضعف من معسكر الحلفاء الذين قد يدعمون الموقف الفلسطيني وأدى لتجاوز المبادرة العربية للسلام التي كانت تدعم حل الدولتين.
6- انشغال العالم والأمم المتحدة بحرب أوكرانيا وتداعياتها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، كما أن قرارات الأمم المتحدة التي كانت تشكل مرجعية لدولة حل الدولتين بقيت حبرا على ورق.
بالرغم من كل ذلك فإن القيادة الفلسطينية لم تطرح روية أو تصورا ديلا لحل الدولتين وما زالت مترددة عمليا في تجاوز مرحلة الحكم الذاتي التي كان يُفترض أن تنتهي في مايو 1999 وتعلن رسميا عن سيادة الشعب الفلسطيني على أراضي الدولة التي اعترفت بها غالبية دول العالم في عام 2012.
فهل هذا التردد بسبب قناعة من القيادة الفلسطينية أنه ما زال هناك إمكانية لقيام الدولة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس من خلال المفاوضات؟ أم لأنه لم تعد هناك أرض في الضفة الغربية لقيام هذه الدولة؟ أو أن القيادة الفلسطينية تراهن على متغيرات داخل الكيان الصهيوني توصل للسلطة أحزاب معتدلة تقبل بحل الدولتين؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يستحسن الرجوع إلى بداية الحديث عن الدولة الفلسطينية في سياق عملية التسوية السياسية، جيت كانت البداية مع التوجه الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية لتسوية سياسية تعترف فيها المنظمة بإسرائيل والانتقال من الشرعية التاريخية للحقوق السياسية للفلسطينيين والادبيات التي تتحدث عن تحرير كل فلسطين من النهر الى البحر … إلى الشرعية الدولية وقراراتها حول القضية الفلسطينية وهي قرارات غير ملزمة ولا تتطابق مع الحقوق التاريخية للفلسطينيين في كامل أرضهم.
كانت دورة المجلس الوطني الفلسطيني (19) في الجزائر 15 نوفمبر 1988 نقطة فاصلة في الانتقال من الشرعية التاريخية إلى الشرعية الدولية والمراهنة على هذه الأخيرة لقيام الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في خرب يونيو 1967.
ففي هذه الدورة تم صدور ما يسمى (وثيقة الاستقلال) وفيها تم الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية ولكن بصيغة ملتبسة ومشحونة بمفردات ثورية وطنية وعاطفية تخفي ما تهيئ له القيادة لمرحلة ما بعد الإعلان عن (الاستقلال) وهو الاستعداد للتفاوض مع إسرائيل، وهو غموض والتباس وضحه البيان السياسي الذي صدر في نهاية الدورة.
فإن كان إعلان الاستقلال تحدث عن الشرعية التاريخية ولم يُحدد بوضوح الأراضي التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية ولا الوسائل المتبعة للوصول للدولة، فإن البرنامج السياسي المتزامن مع إعلان الاستقلال كان أكثر وضوحا في تحديد مرجعية الدولة وحدودها حيث جاء فيه: ” وانطلاقاً من كل ما تقدم، فإن المجلس الوطني الفلسطيني …. يؤكد عزم منظمة التحرير الفلسطينية على الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، في إطار ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ وأحكام الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة……”
رحبت غالبية دول العالم بهذا الإعلان الذي اعترف بقرارات الشرعية الدولية كمرجعية لحل الصراع بالطرق السلمية وأدرجت الجمعية العامة للأمم المتحدة المسألة الفلسطينية على جدول أعمال دورتها السنوية المنعقدة في جنيف في 13 ديسمبر 1988، وبعد هذا الاعتراف ارتفع عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية إلى 108.
ولكن، الولايات المتحدة وإن رحبت بقبول المنظمة لقرارات الأمم المتحدة، وخصوصاً تلك التي تتضمن الاعتراف بدولة إسرائيل ونبذ العنف، إلا أنها أعلنت عبر وزارة خارجيتها أنها لم توافق على إعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة، بل إنها وظفت قانون المساعدة الخارجية وغيرها من التدابير لثني البلدان الأخرى والمنظمات الدولية عن الاعتراف بدولة فلسطين.
على إثر هذه الدورة للمجلس الوطني تم تسمية الرئيس أبو عمار رئيسا للدولة مع احتفاظه برئاسة منظمة التحرير، ولكن واشنطن التي باشرت حوارات مع المنظمة في تونس رفضت أن تجلس مع أبو عمار بصفته رئيس دولة فلسطين واشترطت حتى تستمر المفاوضات أن يتخلى عن مسمى رئيس الدولة وهذا ما جرى بالفعل، وحتى مع بداية مفاوضات أوسلو فقد نص بيان الاعتراف المتبادل بأن تعترف منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود مقابل اعتراف هذه الأخير بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، كما أن اتفاق أوسلو بحد ذاته لم يذكر بتاتا كلمة الدولة الفلسطينية، وحتى الانتخابات الرئاسية والتشريعية كانت لرئيس سلطة فلسطينية ولمجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي.
وهذا غاب مصطلح ومسمى الدولة الفلسطينية ورئيس الدولة من كل الوثاق والمراسلات الرسمية وحل محله مسمى السلطة الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية.
استمر هذا الغياب طوال عهد الرئيس الراحل أبو عمار الذي حاول بعد نهاية المرحلة الانتقالية في مايو 1999 وفشل مفاوضات كامب ديفيد 2 تجسيد قيام الدولة عمليا وتجاوز مرحلة الحكم الذاتي إلا أنه تلقى تهديدات من واشنطن ودول أجنبية وحتى عربية وخصوصا مصر حسني مبارك بأنه في حالة الإعلان عن الدولة ستتوقف عملية التسوية السياسية وتتوقف الدول المانحة عن تقديم المساعدات للسلطة، حتى قيادات من حركة فتح حذروه من الإقدام على ذلك، وبسبب موقف أبو عمار بدأت خلافات فتحاوية داخلية.
في محاولة لإرضاء الفلسطينيين وفي محاولة لوقف الانتفاضة الثانية التي اندلعت في عام 2000 طرحت الرباعية الدولية خطة خارطة الطريق في أبريل 2002 وفيها تم الحديث عن إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة ومنزوعة السلاح في نهاية المرحلة التي حددتها الرباعية للمفاوضات 2005، إلا أن شارون وضع 14 تحفظاً على الخطة واجتاح الضفة الغربية وحاصر الرئيس أبو عمار وتم اغتيال أبو عمار 2004 وجرى الانقسام الفلسطيني 2007 الذي خطط له شارون لوأد أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية تضم الضفة وغزة والقدس.
استمر تغييب الدولة الفلسطينية في عهد الرئيس أبو مازن حتى العام 2012. فبعد الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012 أصدر الرئيس محمود عباس في العام الموالي 2013 مرسومين رئاسيين بتغيير صفته من رئيس سلطة إلى رئيس دولة فلسطين مع الاحتفاظ برئاسة اللجنة التنفيذية للمنظمة، كما أصدر المجلس المركزي في دورته المنعقدة برام الله في أكتوبر 2018، قرارا يؤكد “الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة تجسيد الدولة.
ولكن، يبدو أن هذه الخطوات من الرئاسة ومن المجلس المركزي جاءت متأخرة، حيث اليمين الصهيوني المتطرف وصل للسلطة ويعمل على تصفية الوجود الوطني الفلسطيني، كما أن سياسات القيادة لا تعبر عن موقف إجماع وطني كما أن الانقسام ما زال قائما بل ويتعزز، والسلطة مقيدة بكثير من الالتزامات التي فرضتها اتفاقية أوسلو بالرغم من قرارات المجلسي المركزي، كما أن الوضع الدولي والإقليمي وحتى العربي غير مهيئ للتعامل مع نهج جديد للسلطة الفلسطينية يضعها في مواجهة مباشرة مع دولة الاحتلال.
وأخيرا نؤكد على ما يلي:
1- أن الدولة الفلسطينية ليست منة أو منحة من واشنطن أو إسرائيل أو حتى من الأمم المتحدة بل حق للشعب الفلسطيني مبني على الوقائع التاريخية وحقائق الواقع التي تقول بوجود 14 مليون فلسطيني نصفهم ما زال يعيش على أرضه التاريخية والنصف الآخر في الشتات ينتظر ويعمل من أجل العودة.
2- التسوية السياسية وما انبثق منها من تصور لحل الدولتين هي إحدى محاولات حل الصراع التي لجأت لها القيادة الفلسطينية، وإن فشلت هذه المحاولة فهناك وسائل أخرى من حق الشعب الفلسطيني اللجوء لها، فخيارات القيادة ليست بالضرورة هي خيارات الشعب.
3- إدارة حكيمة للخلافات الداخلية بين مكونات الحالة الفلسطينية ولظاهرة الانقسام، والتوصل لإستراتيجية وطنية جامعة حتى في ظل وجود انقسام جغرافي، فالثورة الفلسطينية المعاصرة انطلقت وفرضت وجودها في ظل الشتات وعدم وجود تواصل بين التجمعات الفلسطينية وبعيدا عن متاهات السلطة والدولة.
4- إن عدم موائمة التوازنات الدولية والإقليمية لأهداف حركة التحرر الفلسطينية يجب ألا يؤدي للاستسلام لمشيئة العدو والتخلي نهائيا عن الحقوق والثوابت، بل على الشعب والنخب الوطنية الحريصة على مصلحة الوطن أن تشتغل على إستراتيجية الحفاظ على الذات الوطنية ودعم مقومات الصمود الوطني، وعلى القيادة الفلسطينية والأحزاب إعادة النظر في استراتيجيتهم وأدوات هذه الاستراتيجية.
5- إن أي (دولة) تنتج عن تسوية سياسية في ظل المعطيات الراهنة أو يتم فرضها وصناعتها بالقوة ليست هي فلسطين بل كيانا مسخا لن يؤدي إلا لضياع الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني ولإثارة الفتنة والحرب الأهلية حول من يحكم هذا الكيان المشبوه سواء كان دويلة غزة أو كانتونات ومعازل الضفة، وهناك فرق بين الدولة الفلسطينية وصناعة دولة للفلسطينيين.