النظام الأخلاقي العربي.. أربعة عشر قرناً من البحث عن البدايات!…بقلم: إدريس هاني

النظام الأخلاقي العربي.. أربعة عشر قرناً من البحث عن البدايات!…بقلم: إدريس هاني

سؤال القيم لا يزال يقدّم نفسه بإلحاح في تاريخنا الذي لا يزال تاريخاً للبحث عن البدايات الصعبة..مازلنا منذ 14 قرناً نبحث عن تلك البدايات لأنّ الكثيرين لم يحسموا بين منظورين للقيم.. ويبدو أنّ المسألة هنا تكمن في أنّ العقل العربي على الأغلب يتراوح بين القيم من حيث هي آثار ومصالح، وبين القيم من حيث هي مبادئ وواجب.. فالمصالح باقية ولكن يُصار إليها بغير أخلاق الواجب، بينما أخلاق الواجب تبقى «تلويحة» سوسيو- أخلاقية فارغة المضمون.
في الغرب حسموا الأمر عبر تاريخ من النقاش حول علاقة الأخلاق بالمصلحة، فكانت المصلحة قيمة ويُصار إليها بوضوح وحسم، بينما ظلت المصلحة في العقل الأخلاقي العربي نقيضاً للقيم أو خارجة موضوعاً عن فكرة الواجب الأخلاقي.. إن كان النّفاق شرطاً لقيام الفضيلة نتيجة تكريس هذه الازدواجية، فهذا هو تماماً ما ذهب إليه نيتشه حيث أصبح النفاق في ذاته قيمة.
يصل الغرب بسرعة وانسجام وحسم باتجاه المصالح.. بات الفضاء القيمي الغربي خالياً من شوائب المسبقات والاعتمالات، فلقد حسموا منذ قرون بأنّ القيم هي مصالح.. ومع أنّ القيم هي أسمى من كل ذلك إلا أنّ ما يجعل «قيمهم تبدو أفضل من قيمنا» هو أنهم حسموا في العلاقة بين الأخلاق والمصالح، بينما لا يزال العقل الأخلاقي العربي لم يحسم وهو إذ يستند إلى قيم كثيرة إلاّ أنها غير منتجة.. النظام الأخلاقي العربي يمجّد في أخلاق الواجب لكنه يمارسها كقيم فارغة بينما تذهب الأغلبية نحو مصالحها بوسائل بالغة التّوحّش.. الذات العربية ونتيجة هذا الصدام بين منظورين للقيم تعاني الهشاشة.. الغرب تفوّق علينا.. هذا التفوق ليس في جوهر القيم بل في تدبيرها.. وقيمنا ما زالت تنتظر شحنات ترقى بها إلى تحقيق قيمة القيم في ثقافتنا.. وأيضاً الحسم بين القيم والمصالح ووضع ذلك في سياق نموذج حضاري حقيقي.
وتبدو قصّة تاريخنا كلّه واقفة عند غياب الحسم.. فحين لم نحسم بقينا في حالة انتظار اللحظة القصوى للبدايات.. هدرنا الطاقة والفرص خلال قرون مضت.. نهضت أمم ومجتمعات حسمت في الموقف من قيمها الجماعية فقطعت مشواراً طويلاً في الإنجاز غير أنّنا ما زلنا في كل عصر نطالب بوضع أسس للنهضة.. والحال أننا ما زلنا لم ننهض تماماً..القيم في الغرب بما أنها موضوع مصلحة هي قضية «نكون أو لا نكون» غير أنّها عندنا – بما أنها مذبذبة بين الواجب والغاية – فإنّها قضية ملتبسة.. إنّ الفضيلة لم تعد نقيضاً للنفاق بينما بات النفاق من شروطها، وهنا مكمن الخطر..لأنّنا لم نحسم منذ 14 قرناً.. فإننا ندفع ضريبة الحلول المؤجّلة.. إنّ انتظاراتنا هي انتظارات تفوق الحاجة إلى تنمية الآراء، بل هي انتظارات تفرض الحاجة إلى تغيير البنية الذّهنية.
نحن ننتظر أن تكون لنا سيادة لكي نعمل.. دستور لكي نتحرر.. دولة لكي ننمو.. تنمية لكي نقوى.. في كل قطاع نحن نهدر ميزانيات فقط لنحقق البدايات المستحيلة.. نقرأ تاريخنا فنجده كله حلماً بالبدايات السعيدة التي لم تتحقق.. مشاريع مُجهضة لأن النفاق على الأغلب يتساكن مع القيم..نفكر في المستقبل حيث حين تتحقق البدايات تقوم قيامتنا.. ويبدو الأمر وكأن ليس لنا تاريخ وحتى المستقبل هو مجرد انتقام من التّاريخ «وعود إلى بدء» ليُسدل السّتار على أمّة في تحسس دائم للبدايات.
يبدو «الشاطر» من خرج من دائرة الشاهد والشهيد على انتحارات الحقيقة وانحطاط القيم.. التعايش مع هذا التركيب الهجين الذي جعل منظومة القيم تجد حلاّ لأزمة تحقيق قيمة القيم.. ليس في القيم نفسها بل في النّفاق.. فقيمة القيم في منظومة الأخلاق العربية بمعظمها هي بالفعل النّفاق الذي يعيد توزيع القيم ويراقب نشاطها ويتحكم في مساراتها.. حين يُقال: إنّ هناك نفاقاً، فهذا يعني أن القيم نفسها تُدار بنفاق، وذاك هو أوج المفارقة الإثيقية (أي المفصلية) في ثقافتنا.
في أكثر المحطّات التّاريخية كنّا نخطئ الطريق نحو البدايات الصحيحة.. أكثر المحطّات التراجيدية في تاريخنا اتخذت شكلاً عقلانياً وديمقراطياً.. وكأننا ديمقراطيون في التدمير الذّاتي فحسب.. أسقط كثيرون النبوّة بالرّأي.. العدالة بالشورى.. المقاومة بالثورات الهجينة.. الحقيقة بديمقراطية الرأي الآخر.. الصّدق بحرّية النفاق.. ينهار الكيان والمشروع ثم يعانق الكثيرون التّفاهة والتخلف والاستبداد في انتظار منعطف جديد لتحيين فعل التدمير الذّاتي بمقولات قد ترقى في النظر إلى الحكمة العالية، بينما في العمل تنزل إلى دهاليز النّفاق.. ثم نتساءل عن سرّ الانسداد الكبير.. وعن البيئة الفاسدة.. وعن تمأسس النّفاق وعن الهشاشة!.
تستغلّ الإمبريالية – بما أنها الوريث والمستوعب لكلّ معضلات عالم التّخلّف – تستغل الأخلاق ليس من جهة إعلان الحرب ضدّها، بل من خلال استغلال هشاشة المنظومة القيمية.. ونسأل: ما هي تجليات هذه الهشاشة؟.. نقول: العجز عن تحقيق القيمة المركزية أو قيمة القيم.. العجز عن حلّ الأزمة بين المبدأ والمصلحة.. عن تمثّل فلسفة أخلاق بديلة.. تخترق الإمبريالية بنية أخلاقنا وتستغل أزمة القيم فتعمّق الشرخ بوسائل دقيقة.. لم تعد توجد مساحات ممنوعة على الإمبريالية وأذرعها الكبرى والصغرى والأصغر.. فالإمبريالية تعمل وفق نسق هرمي تفصيلي يخترق الجينات وقد أصبح هو جزء من جزيئات الماء الذي نشربه:(H₂Oi)..الـ(i) هنا ترمز إلى الإمبريالية بوصفها باتت مكوّناً أساسياً للماء الذي يحيا به كلّ شيء.. عنوان العصر هو السيطرة.. ابتلاع العالم في خططها الخفية والأخفى.. نستهين بالأشياء لأنّ الخيط الرفيع الرابط بين المبتدأ والخبر لا يدركه من تنكّر لقيمة تأويل ما بطن وما استبطن..إنهم لا يقنعوننا بترك القيم بل بإعادة توزيعها على جغرافيا متشظّية من المفاهيم وتحت إشراف النّفاق التداولي.. في مثل هذا الوضع الخطير ليست مشكلتنا فيما يظهر من عوارض السّقوط، بل إنّ مشكلتنا تكمن في التساكن المزمن لدى الكثيرين بين الأخلاق والنفاق بسبب غياب الحسم.. والحسم يتطلب وجود القيمة الرابطة لعصب المنظومة القيمية كلها أي الوفاء، والوفاء يقتضي فهماً للقيم يرقى بها إلى نموذج قيم الفرسان.. نذكر مرةً أخرى بأننا نبدو بلا تاريخ لأننا ما زلنا نتحسس البدايات.. وقد أضعنا قيم الفرسان.. والنّفاق احتلّ محل القيمة المركزية.. التخلف موجود لأنّ المصلحة نبلغها بانتهازية وخرق سافر لمنظومة الأخلاق.. نحن في انتظار.. ومن ينتظر فقط من دون برنامج لا تاريخ له..لأنّ التاريخ هو مجال للفعل الصحيح.
هذه التراجيديا – التي تبدو مستمرة يأنس بها العقل العربي – هي نفسها سبب الانسداد الأكبر الذي جعلنا أمّة تنتظر.. وهناك من لا ينتظر لكنه يستفيد من «بارادايم» ازدواجية المعايير والفوضى واختلال المعايير والعمى الذي ضرب البصر والبصيرة في زمن ليس تاريخياً.. بل هو فسحة فارغة يحددها قانون القصور الذّاتي قبل العودة إلى حيث المبدأ التراجيدي..!.

*كاتب من المغرب

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023