عن سلبية المثقف الجزائري أتحدث؟…

عن سلبية المثقف الجزائري أتحدث؟…

بقلم: عبد الحق خالد – كاتب من الجزائر |

“..كذلك فإن نقد المثقف يعني العمل على خلق ثقافة حية، متجددة، فعّالة، من حيث قدرتها على قراءة العالم والمساهمة في صوغه وتشكيله..» من مقال “أزمة المثقــف، فكــر بلا تنــويــر.. وحضور بلا فاعلية” للمفكر السوري علي حرب.

   لا جرم كان الحديث عن الثقافة وهموم المثقف في العالم العـــربي عامة والجزائر خاصة، حديــثا بقــدر ما هــو ممتــع ومثيــر فهــــو حسّــاس وخطيــر، لصعــوبة المشكلة وتعقــــدها مـــن جهــة و لتشابك عنــاصـرها وتـداخلها من جهة أخـــرى، ذلك أنــه إذا كانت الثقافة (باعتبارها مخزون الخبرة الجماعية ورأسمال الممارسة الواعية) وهذا فيمـا أصبـح يشكــل شبه إجماع فـي تعــريفها: هـي ذاك الــزخم مـن المعـارف والفنـون والأفكـار والعـادات والتقـاليـد والأعراف التي تُضفي على مجتمع الخصوصيةَ التي تـُميّزه عن غيره من المجتمعـــات، فنقـــول المجتمـع الأمـــريكي والمجتمـــع اليابــانــي والمجتمع الجـــزائـــري ومجتمــع المــالاوي….الـــخ، (لا يسلّم الأستاذ برهان غليون بهذا التعريف الذي يعتبره ناقصا، فهو يرى أن ما يسمّيه “الــوعي النقــدي” يجـــب أن يتجاوز الثقافـة من داخلها.. فليست الثقافة – يقول- كتلة جامدة من المعارف أو القيم أو الرموز أو العادات أو القواعد، بل هي الآليات والفعاليات المعقّدة والمتباينة التي تسمح بنشوء هذه المعارف وتخلقها… ومتى ما فقدت الثقافة ذلك تحوّلت إلى تراث؟.. أي إلى أثر من آثار الماضي، وتحوّل البحث فيها إلى بحث في التراث؟..). ويكون المثقـف بالتـــالــي، وباختصار، ذاك الإنســان الذي يجسـد سلـوكيا هـــذا الموروث الضخم، معبرا عن شخصية بيئته ثم مجتمعه في أرقى المستويات.. وكونُ المثقف (بالمعنى الكلاسيكي) يعاني آلاما و جراحات، وهذا أمر لا جدال فيه و لا مراء، لا يعفيه من القيام بالمهام التي نصّب نفسه أو نصّبه المجتمع للاضطلاع بها، وهي ولاشك مهام في غاية الأهمية والخطورة أيضا؟

   وأنا لا استسيغ أن يكتفي المثقف باجترار معاناة ذاته أو بإطلالة متعالية من عليائه على واقع الناس من حوله وما يضطرب فيه من تصادمات وتناقضات، وقدره كما هو معلوم، أن يحترق – هو- كي يضيء للآخرين، ذلك أنه حين يعتزل الناس لأنه يحس أنه أطهرُ منهم روحا أو أطيبُ منهم قلبا، أو أرحبُ منهم نفسا، أو أرجحُ منهم عقلا، لا يكون قد صنع شيئا كبيرا.. لقد اختار لنفسه أيسر السبل وأقلّها مؤونة!..

   إن الثقافة الحقيقية: هي أن يخالط الناس هؤلاء مشبعا بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم، وروح الرغبة الحقيقية في تثقيفهم ورفعهم إلى مستواه بقدر ما يستطيع!.

   إنه ليس معنى هذا أن يتخلى عن آفاقه العليا ومثله السامية، أو أن يتملق هؤلاء الناس ويثني على رذائلهم.. إن التوفيق بين هذه المتناقضات جميعا وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد: هو العظمة الحقيقية؟(1)

   ولكني لن أخوض في تفصيل كل هذا، فقد نال ما يستحق من أرباب الفكر وأعلام الثقافة، لأن الذي أريد أن أطرقه في موضوعنا هنا هو الجانب الآخر من المسألة، أي ما يصحّ أن يطلق عليه، في ظل الانفجار المعرفي والعلوماتي الهائل الذي تشهده كل المجتمعات دون استثناء، “ثقافة الميدان” أو “المنطق العملي”، وواضح أنه شيء آخر غير التحصيل الأكاديمي النظري، إذ يتناول سلبية الفرد الجزائري عامة وسلبية المثقف الذي يقف موقف المتفرج من هذه السلبية فلا يحرك ساكنا! أو هو يشارك في تفشّيها؟.. وهذا الخوف اللاّمبرر الذي يتملكه في كل لحظة وحين فيعيقه عن الحركة ويقتل روح المبادرة فيه!.. وعندما أقول المثقف، مرة أخرى، فإنني أقصد ذلك الإنسان الذي ينشط من أجل تكوين الوعي وتأسيسه، والتقدم به في حقل الفعل البشري(2) فهو إذن ابن بيئته يؤثر فيها ويتأثر بها، وهو بهذا فعّال لا منفعل، أو هكذا يجب أن يكون، فيكون عليه، والحالة هذه، التحرر من تلك الاعتبارات السلبية و المشـاعـــر التـي تـدعــوه إلى التعالي على الأعمال البسيطة و هي في العادة محل احتقار من أمثاله لأنه يراها تحط من قدره بين الناس، و يكون من مهامه بجوار “نقد العقل العربي ونقد العقل الإسلامي” والدعوة  إلى “إعادة تشكيلهما”!! خلق التوتّر المفضي إلى الإبداع، أي تمكين الأفراد من رفض الامتثال (دون أن يعني انتهاج الطريق السهل، طريق المطالبة بالحقوق، وإنما التعويل على ثقافة الجد والاجتهاد، أي اتّباع الطريق الشاق.. طريق أداء الواجبات) وكذا الدفاع عن قيم الحرية والثقة في النفس وإشاعة الحوار والإصغاء للآخر.. فتكون المشاركة في تعليم كبار السن من الأميين، القراءةَ والكتابة للتّغلب على بعض المصاعب التي يواجهونها في تعاملهم اليومي مع مصالح الإدارات والمؤسسات المختلفة.. ومثله الانخراط الجماعي للشباب والكبار في العمل الجمعوي (من المساهمة في تنظيف الحي وتشجيره إلى إقامة التظاهرات العلمية والرياضية والثقافية والترفيهية وغيرها..) كما أن تشجيع الصغار على ارتياد المسرح والنادي والمكتبة العامة وتعليمهم تقديس الوقت واحترام المواعيد وغيرها… كلها تصب في خــانة خـلــق “تقــاليــد ثقافيــة” تحقــق ذاتيـة الإنسان وتسمـو بالأفــراد إلـى مستـوى مشـروع المجتمـع المنشـود؟..     

   وحتى لا أذهب بعيدا فأغوص في الجانب النظري البحت لهذا الموضوع، وقد تجاوزه في رأيي، هذا الواقع الذي لا يختلف الناس في زيادة تدهوره وما تكشّف من سوءاته لاسيما في العقود الثلاثة  الأخيرة، أسوق هذه القصة من صميم الواقع المعيش.

   قــــال لـي صاحبي وهـــو يحــاورني: ذات مساء شتــوي من شهر رمضـــان الفـــارط (كان ذلك زمن كتابة هذا الموضوع) وأنا عائــد إلــى البيت بعـــد عمــل ملــــيء بالتعب و الإرهاق، وجدتني بالمحطة أمام طابور من الحافلات التي اتفقت جميعها على احتقار المواطن المسكين، وكان النظام المعمول به هو نظام الدور، أي أن تنتظر الحافلة اللاحقة دورها حتى تمتلئ الحافلة السابقة عليها وتمضي، ثـم تفتح هي أبوابها للمواطن الذي يكون قد شبع انتظارا.. وإهانة أيضا، لأنه بطريقة أو بأخرى محجور على حريته، إذ هو مضطر أن يخضع لرحمة ومزاج سائق الحافلة، بدل قانون واضح دقيق ينظم العملية، فيركب في حافلة قد لا تريحه أو مع سائق لا يرتاح له، والأدهى والأمرّ أنه عليه أن يبقى منتظرا داخل الحافلة لمدة ساعة، وربما أكثر، جامدا لا يتحرك ولا يجب أن يتأفف؟ .. ومن مساوئ الصدف أن كانت ذاك المساء حافلة كبيرة تعبئ حمولتها من “الغاشي” (وهذا تعبير بذئ نسمعه كثيرا إنما غرضه  ازدراء و احتقار المجموع) و لكن كلما قيل لها هل امتلأتي؟ تقول: هل مــن مـزيـد؟.. حــتى نفــر منها الناس و قصـدوا حافلة صغيرة قـريبة، وفتح القابض الصغير بها الباب للخلق فدخلوا في غير نظام  فرادى  وزمر، فامتلأت بسرعة مدهشة، الأمر الذي أثار حفيظة حُوذيّ (سائق) الحافلة الكبيرة الذي انطلق في سرعة جنونية باتجاه الحافلة الصغيرة تلك، ليوسع الركاب سبا وشتما و أمرا ونهيا، أن انزلوا منها و اركبوا حافلتي صاغرين!.. ثم توجّه صوب السائق المسكين الذي تسمّر في مكانه ليصب عليه جامّ غضبه.. و وجم القوم كأن على رؤوسهم الطير ولم ينبس و لا واحد منهم ببنت شفة..؟ بل راحوا  يسترقون النظر إلى وجوه بعضهم بعضا في صمت جنائزي، وتأزم الموقف أكثر على الأرض بين السائقين، ولا أحد تحرك من “المثقفين” داخل الحافلة أو خارجها، و في هدوء نزلت لأحسم الموقف.. تقدمت من السائق الفائرة أوداجه ولأني أومن بقول الشاعر: 

                             بُـني إن البـرّ شـيء هيّـنُ  **  وجـه طليـق ولسـان ليّـنُ؟

فقد قلت له في أدب ولباقة أيضا: “اسمح لي موسطاش أن أتدخل..” وقبل أن يردّ الرجلُ استرسلت: “.. عهدي بك ناس املاح، فلماذا تفسد صومك بكل هذه “النّرفزة”، والقلق والشّجار، في شيء تافه لا يستحق كل هذا، و..” وقاطعني الرجل، وقد انبسطت أساريره بعد سماعه هذه الكلمات الطيّبة: “والله ما أريد العراك، فقط أردت أن أفهمه وأذكّره بالنظام المعمول به..” وتحلّق الناس حولنا بأعداد كبيرة، فوجدتها فرصة لتمرير رسالة مهمة، وفي صرامة هذه المرة قلت له: إعلم أنه لا أنت ولا غيرك من حقّه أن يُنزل المواطن من الحافلة بعد أن ركبها، هذه واحدة، والثانية أنه من حق هذا المواطن أن يركب الحافلة التي يريدها هو لا التي تريدها أنت أو أيّ كان، فهو يدفع ثمن هذه الخدمة، أوليس من حقه بعد هذا أن يحصل في مقابلها على أقل القليل من حرّية الاختيار؟..”كان الرجل مطأطئ الرأس يصغي باهتمام، كأنه حمل وديع، ولما طلبت منه أن يعود إلى حافلته وينتظر حتى يكتمل النصاب فيمضي على بركة الله، فعل من غير تردّد، وكذلك فعل السائق الثاني الذي طلبت منه الانتظار حتى تبرح الحافلة الكبيرة المكان.. وفُضّ النّزاع وعاد الجميع من حيث أتى، وعدت كما عادوا، ورمـقـني النـــــاس بإعــجــاب غـيـر خـــافٍ واستـقبلـوني استقبـالـهم لفـاتـح عـظيـم..”واش افــريتـها..”، “اخلاص حلّيت المشكل؟..” وأنا أومئ لهم مرة وأجيبهم أخرى: “أن نعم لقد حُلّ المشكل..”، عندها فقط وجد بعضهم الفرصة سانحة للاحتجاج.. “رانا بدراهمنا، واحد ما راه امداير فينا امزية، نركبوا مع من انحبوا احنا، ماش واين ايحبوا هم..”، “.. رانا محناش سلعة، رانا بشر بكرامتنا؟..”(3) وغيرها من الاحتجاجات التي جاوزت الحدّ أحيانا خاصة عند بعض الشباب المتحمسين، وأنا أومئ لهم بأنهم على صواب، وأنه لا يجب أن نسكت على الانحرافات مهما بدت بسيطة متواضعة، لأن الذي يفرّط في القليل لا يُستبعد أن يتنازل على الكثير، وهنا توجّه إليّ أحد “المثيقفين” وهو إطار بإحدى الهيئات العمومية لكي يبدي احتجاجا من نوع آخر، كأنه احتجاج على الاحتجاج، فقد أراد أن يفهمني أنه قام بمحاولات عدة في مواقف مشابهة، ولكنه يئس من النجاح بحجة أنه فــي كــل مــرة كان يجــد نفسه لــوحده يصـــارع “طــاحونة الهواء” – هذا قوله- ولكن الصديق ذاك نسي أو تناسى (في هذا الموقف المشهود أمام جمهرة من الناس) أن هذه الأعمال لا تطلب النجاح في التو واللحظة، لأنها رهن بمدى قدرتنا على الصبر عليها، ونضالنا الدائم والمستمر كي نحوّلها الى جزء من ممارساتنا اليومية ذلك أنها لا تقبل الجزاء أو المقابل، ومقابلها الوحيد هو رضاؤنا بما نعمل وأنه في صالح الفرد والجماعة!..

   وسكت صاحبي يسألني رأيي: “ما قولك في كل ما سبق؟..” فقلت له: “الحقيقة أن قصتك هذه ما هي إلا غيض من فيض، لأنني من جهتي أستطيع أن أسرد عليك عشرات من هذه المواقف، لكني سأكتفي باثنين منها!“..

   أما الأول منهما فكان مع صاحب مكتبة كبيرة معروفة بقالمة (يبيع الكتب ولا يؤمن بالكتاب) حينما سأله إبني، الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، بعفوية  عن مجلة “مشهورة” للأطفال فردّ الرجل بحدة وانفعال (من غير مراعاة لسنه ولا لوجودي معه): “أنا لا أومن بالمجلات والجرائد، فكلها كذب في كذب؟” وعنــدما تدخّــلت محاولا لفت انتباهه أن الأمر يتعلّق بمجلة عالمية تلطيفا للجو، ردّ عليّ أنا الآخر بأنـه لا يـؤمـن لا بالكُتّاب ولا بقيمة الكتـاب ولا بما حققه الفكر البشري المبدع، كل هذه الأجيال المتعاقبة، من روائع وإنجازات! لأنه، في زعمه، يؤمن بشــيء واحــد فقط، وهنا تناول مصحفا كان على مكتبه وقال: “أنا لا أومن بغير هذا.. لقد قرأت للكثير من المفكرين والفلاسفة.. لكن لمــاذا أضيع الـــوقت في قـــراءة ما لا ينفع؟  كل شيء هنا في هذا الكتاب؟..” مُعلنا بذلك نهاية الحوار.. بل نهاية التاريخ!.

   وأمـا المـوقف الثاني فكان لأحد المصلين من المواطنين البسطاء، و كان من حظّه العاثر، ربمـا، أن أدرك إحدى الصلوات المفروضة متأخـرا فأداها إلى جانب أحد الملتحين (السلفيين) وقد نسي الــرجــل هاتفــه “المــوبايــل” مفتــوحا، فانطلق صوته قويا “مزعجا” أثناء تأدية الصلاة، ولكن محاولات المسكين لإسكاته، تجنبا لإزعاج المصلين، باءت جميعها بالفشل.. فمــا كان من المثقف الملتحي (الـوصي علـى الدين) إلا أن انتظره حتى فرغ من الصلاة، لا ليرفع عنه الحرج ولكن ليصفه بــــ”الحيـــوان”؟.. 

   ثم قلت لصديقي: ألا ترى أن الذين يدخنون داخل الحافلات ويبصقون في الطرقات، ويهدرون الوقت بالساعات ويرمون المخلفات والفضلات في الأماكن العامة، والذين يلوّثون البيئة والماء “بالبلاستيك” ولم تسلم حتى المقابر من قاذوراتهم، وغيرها وغيرها… لا زالوا يفعلون ذلك إلى يوم الناس هذا؟ وغياب “المثقف” في هذه المناسبات بالذات ألغى وجوده من الذاكرة الجماعية، وأعطى الفرصة لتهميشه، فبقي المسكين يلهث وراء انتزاع اعتراف بهذا الوجود من المجتمع كرّة ومن النخبة الحاكمة كرّة أخرى.    

   لذلك فأنا أومن: أن قليلا من الشجاعة الأدبية كفيل بتقويم الكثير من مظاهر السلوك السلبية وربما المنحرفة في حياتنا، وأن “أعظم الإنجازات يتحقق بإتقاننا لأبسط أعمالنا اليومية من غير تدخّل للسلطة أو النظام”.. عندما يضيف جديدا إلى حياة الناس المادية والأدبية.. وهذه هي الفعالية!.. ورحم الله الأستاذ مالــك بــن نــبي الـذي قال: ” أن كل مجتمع أصابت فيه محن الزمن شبكــة علاقاتــه الاجتماعيــة سيــواجــه قطعــا سيئــات الــروح الانفرادية”… ولكن “الـمُثــــيْـــقفين” لا “المثقفين” في بلادي قوم يجهلون؟..    

   

الهــوامـــش:

(1)، (2) للموضوع مراجع : سيد قطب، علي حرب.

(3) الكلمات من العامية الجزائرية، ذكرناها كما قيلت.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023