قراءة في الانسحاب الامريكي من الاتفاقية النووية مع إيران

الدكتور بهيج سكاكيني |

المأساة للشعب الامريكي والاحتقار “لاكبر” دولة في العالم ان يعلن من عاصمة الكيان الصهيوني أن الولايات المتحدة ستنسحب من الاتفاقية النووية مع إيران وسيفرض عقوبات جديدة على إيران، وذلك قبل ان يعلن ترامب رسميا في كلمته عن هذا من واشنطن.

يأتي الانسحاب الامريكي من الاتفاق النووي تلبية لدعوة المتصهينين في الادارة الامريكية والكونغرس الى جانب المحافظين الجدد الذين وقفوا ضد الاتفاقية منذ البداية والذين كانوا وما زالوا يحثون الادارة الامريكية بالعدوان على إيران غير آبهين بتداعيات هذا العدوان على المستوى الاقليمي أو الدولي كما حدث سابقا عند الغزو الامريكي على العراق عام 2003 والتي ما زالت المنطقة والعالم يعاني من تبعياته.

ويأتي الانسحاب أيضا  تلبية للدعوات الاسرائيلية والسعودية على وجه الخصوص وكلاهما بذل أقصى جهوده الدبلوماسية والسياسية قبل توقيع الاتفاقية مع إيران ودفعت السعودية بعشرات المليارات لفرنسا على وجه التحديد من خلال عقد صفقات لشراء السلاح وعقود تجارية لكي تقوم فرنسا بالدور المعطل للتوقيع على الاتفاقية ولغاية آخر دقائق قبل التوقيع نهائيا عليها.

الانسحاب أيضا يأتي لان ترامب يريد ان يبقي على “البعبع” الايراني لان إدارته رأت في ذلك خير وسيلة لمزيد من حلب أبقار الخليج الواحدة تلو الاخرى والحصول على مئات المليارات الى الخزينة الامريكية والابقاء على المجمع الصناعي العسكري الامريكي والطبقة السياسية المرتبطة به بصحة جيدة نتيجة العقود وصفقات الاسلحة والرشاوي والسمسرة  الى جانب الحصول على مئات المليارات لتحديث البنى التحتية الامريكية المتهالكة. ولقد قالها ترامب صراحة قبل وبعد إنتخابه ان الدول الخليجية عليه أن تدفع العجز في الخزينة والذي يبلغ ما يقارب 19 ترليون دولار.” لن ندفع سنجعلهم يدفعون ذلك”.

والانسحاب موجه ضد دول الاتحاد الاوروبي فالادارة الامريكية أو بالاحرى الدولة العميقة تريد ان تبقي المنطقة في حالة عدم الاستقرار لكي تبقي أوروبا تحت المظلة الامريكية وتبقيها مهددة في امن الطاقة وحرمانها من الصفقات والمعاهدات التجارية والاقتصادية أبرمتها مع إيران والتي ستعود عليها بعشرات إن لم تكن المئات من المليارات لدول الاتحاد الاوروبي. ولكون الولايات المتحدة تسيطر على الكثير من التعاملات البنكية في العالم حيث الدولار الامريكي هي العملة المتداولة فإن الولايات المتحدة تستطيع ان تفرض عقوبات على البنوك والشركات التي تتعامل مع الاسواق والشركات الايرانية الخاصة والعامة منها. وها نحن نرى ترامب يعطي مهلة زمنية معينة للشركات التي أبرمت إتفاقيات تجارية واقتصادية مع ايران وضرورة الالتزام بنظام العقوبات الامريكية والا فإن عليها ان تتحمل تبعات ذلك. وربما ردود الفعل الاوروبية تدلل بشكل واضح تفهمها الى أنها مستهدفة من هذا الخروج وهذا ما يمكن استنتاجه من البيان المشترك الذي صدر من فرنسا والمانيا وبريطانيا بأنها متمسكة بالاتفاق النووي مع إيران. ,أكد الاتحاد الأوروبي أنه “ما زال مصرًا على الحفاظ على الاتفاق”، وأنه سيعمل على الحفاظ على مصالحه الاقتصادية”. هذا الى جانب محاولات رؤساء هذه الدول في محاولة إقناع ترمب بعدم الخروج من هذه الاتفاقية التي أخذت ما يقرب من 12 عاما من المباحثات للتوصل اليها. و اعتبرت الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية ا​لسياسة​ والأمنية ​فيديريكا موغيريني أن “​الاتفاق النووي​ مع إيران هو أحد الإنجازات الكبرى للدبلوماسية الدولية”. كما وناقش البعض من الرؤساء الاوروبيين فرض عقوبات جديدة على إيران كحل وسط حتى لا تخرج الولايات المتحدة منها لكن دون جدوى. ويبقى السؤال هنا هل ستستطيع الولايات المتحدة جر الاتحاد الاوروبي مرة اخرى الى مواقفها المتشددة نحو إيران كما سبق وأن جرت دوله الى أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن أم ان أوروبا ستقف مدافعة عن مصالحها بالدرجة الاولى السياسية والاقتصادية؟ هذا ما ستسفر عنه الفترة القادمة.

والانسحاب عن الاتفاقية يأتي بعد عدة محاولات فاشلة للادارة الامريكية في زعزعة الاستقرار والاوضاع الداخلية في إيران إما عن طريق عمليات إرهابية أو عن طريق تحريك الشارع الايراني وخاصة قطاع الشباب منه مستغلة الاوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة لهذه الفئة والتي تضررت بشكل كبير من نظام العقوبات الاقتصادية التي خضعت لها إيران من قبل الولايات المتحدة و “المجتمع الدولي” لعقود من الزمن. وكانت الادارة الامريكية تأمل في ان تتوسع حركة الاحتجاجات التي شهدتها بعض المناطق لتشمل العديد من المدن على غرار الثورات الملونة في أوكرنيا وجورجيا وغيرها من الدول والتي دعمت من قبل أجهزة المخابرات الامريكية ووزارة الخارجية. والخروج يأتي بعد فشل الادارة الامريكية في محاولات تحجيم الدور الايراني في المنطقة الذي اصبح وازنا ومؤثرا ولا يمكن تجاوزه عند السعي لايجاد حلول سياسية للبؤر الملتهبة في المنطقة وخاصة سوريا واليمن وما يدور على الساحة العراقية.

والانسحاب عن الاتفاقية يأتي ليبعد الانظار عما يرتكبه الكيان الصهيوني من مجازر تجاه الشعب الفلسطيني في غزة وفي الوقت الذي نرى التطبيق الفعلي على الارض لصفقة القرن التي أعلنتها هذه الادارة لتصفية القضية الفلسطينية وحرف بوصلة الصراع في المنطقة وإنشاء التحالف الاستراتيجي بين بعض الدول العربية وخاصة الخليجية منها والكيان الصهيوني والذي قطع شوطا كبيرا في هذا المجال بالتذرع بالخطر والتهديد والتوسع الايراني. ولنذكر أولئك الذين يضعون رأسهم في التراب مثل الزرافة ونقول ان صفقة القرن تطبق على الارض منذ فترة فالادارة الامريكية اسقطت ما كان يسمى “بحل الدولتين” وهي لا ترى الاستيطان اليهودي السرطاني خطرا على تحقيق “السلام” طبعا بالمقاييس الامريكية. لا بل فإنها مؤيدة للاستيطان السرطاني ولا تجد حرجا في ذلك، ,هي قد إعترفت بالقدس الموحدة العاصمة الابدية للكيان الصهيوني وسيتم نقل السفارة رسميا بعد أيام قلائل والادارة لا تعترف بحق العودة لفلسطينيين وتسعى مع بعض الدول العربية الى توطينهم في الدول المتواجدين بها أو مساعدتهم ضمن برامج وترتيبات وتشجيعهم على الهجرة. وهي ايضا قد أوقفت الفتات التي كانت أمريكا تقدمه الى “الانروا” وعملت وما زالت على تدمير مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان من خلال المجموعات الارهابية، وهي تضغط على السلطة الفلسطينية وتهدد بقطع المعونات المادية التي تقدم لها.

والانسحاب عن الاتفاقية يأتي في فترة زمنية تشهد تراجعا واضحا للدور الامريكي وتأثيره في العديد من المناطق في هذا الكون الفسيح بعد فترة امتدت على مدى ما يقرب من ربع قرن وذلك منذ انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي. الولايات المتحدة فشلت في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن كما فشلت في أمريكا اللاتينية وخاصة في سياسة “تغيير النظام” في فنزويلا كما وفشلت في ترهيب كوريا الشمالية وفشلت في تطويع إيران من خلال نظام عقوبات إقتصادية صارم لعقود من الزمن مما فرض عليها فتح قناة تفاوضية معها حول برنامجها النووي لسنوات طويلة توجت في النهاية وبعد ما يقرب من 12 سنة بتوقيع الاتفاقية النووية بين إيران والستة الدول الكبرى. ويمثل الخروج الان من الاتفاقية النووية مع إيران محاولة يائسة لارجاع حركة التأريخ الى الوراء فالمستهدف الان هو اكبر بكثير من البرنامج النووي الايراني. المستهدف هو الدور والنفوذ والمكانة الاقليمية الوازنة لأيران في المنطقة ودعمها للمقاومة الفلسطينية واللبنانية المتمثلة بحزب الله ودعم سوريا وصمودها في وجه العدوان الكوني عليها. والمستهدف أيضا هو التحالف والعلاقات الاستراتيجية المتنامية بين إيران وروسيا والصين  الى جانب محور المقاومة. والخروج عن الاتفاقية هو محاولة لضرب هذا التحالف وضرب محور المقاومة. ولا شك ان الولايات المتحدة ومن خلال خروجها تريد التمسك بالنظام العالمي أحادي القطب المتهالك مع بروز قوى على الساحة الدولية التي بدأت تزعج الولايات المتحدة لانها تقوم بالتقويض التدريجي للهيمنة التي تمتعت بها أمريكا طويلا عبر سنوات.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023