كيف يمكننا أن نقبل تشويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته؟…بقلم محمد الرصافي المقداد

كيف يمكننا أن نقبل تشويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته؟…بقلم محمد الرصافي المقداد

البعثة النبوية ذكرى عزيزة على قلب كل مؤمن، يرى في صاحبها رسول الله أبي القاسم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، منقذا من الشرك والجهالة والرذالة، وبابا فتحه الله لعباده، ليدخلوا منه إلى مكارم الأخلاق، وينالوا به عنده رفيع الدرجات وعظيم الرحمات، كما قال تعالى بشأن نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1) هذه البعثة التي انبنى عليها الإسلام خاتم رسالات الله سبحانه، لم يسعفها أصحاب السّير، من أتباع خط السلطان الغاشم فأهملوها، ولم يبقى لها مكان مُعتَبَرٌ، عندهم سوى بعض روايات مسمومة، شوّهت حقيقتها تماما.

ما تجدر الإشارة اليه في هذا الخصوص، أن حفاظ الروايات أجمعوا على نقل رواية محرّفة عن البعثة، لم يلتفتوا ولا انتبهوا إلى ما تضمنته من تشويه لحقيقة البعثة، وقيمتها الروحية العالية، اختلقها الرواة لبعدهم عن مصادر التلقي الصحيح والسليم لأحداثها وكيفية وقوعها، فمن تنكّب من منهج أئمة أهل البيت عليهم السلام ثقل كتاب الله وترجمانه وحفظة الدين وبرهانه، وأبواب أحكامه وبيانه، فقطعا لا يهتدي إلى أنوار المعارف المحمّدية، ويتيه وسط مختلقات إسرائيلية، هدفها تخريب عقائد المسلمين، وتشويه صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون أقلّ شأنا من أنبياء بني إسرائيل، بل لو تأملنا في تلك الروايات، خصوصا هذه الرواية، لتبيّن لنا مدى السخافة التي أرادوا إلصاقها بأفضل أنبياء الله، من اصطفاه الله عليهم ليكون حبيبه.

لم تقف الإساءة في هذه الرواية التي نقلها البخاري بطولها في باب واحد (باب التعبير) ووافقه على ذلك أحمد بن حنبل في مسنده، ولم يتحرز ابن كثير في نقلها بطولها في تفسيره، بينما نقلها البخاري مختصرة في أبواب أخرى (2) واستنكف مسلم من نقلها بطولها، فاختصرها كما فعل غيره من الحفاظ (3)

الرواية بطولها:

عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح. ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه- وهو: التعبد- الليالي ذواتَ العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت: ما أنا بقارئ». قال: «فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}» قال: فرجع بها تَرجُف بَوادره حتى دخل على خديجة فقال: «زملوني زملوني». فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. فقال: يا خديجة، ما لي: فأخبرها الخبر وقال: «قد خشيت علي». فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى ابن قُصي- وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ- فقالت خديجة: أيّ ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: ابنَ أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أومخرجيَّ هُم؟». فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا. ثم لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا- حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رءوس شَوَاهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسولُ الله حقًا. فيسكن بذلك جأشه، وتَقَرُّ نفسه فيرجع. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل، فقال له مثل ذلك.(4)

بلا أدنى شك، فإن الوحي الذي ينزل على رُسُلِ الله عليهم السلام، لا يختلف من نبيّ إلى آخر، ذلك أنّ الموكل به من الله سبحانه، هو أمين الوحي الروح القدس جبرائيل عليه السلام، والطريقة التي ذكرتها الرواية، في نزوله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يمكن قبولها بأيّ حال، حتى لو سلمنا بوقوع الغطة الأولى التي قيل أن جبرائيل غط بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما الداعي إلى الغطتين الثانية والثالثة، وهو يعلم يقينا بأنّ ذلك لن يُغيّر من وضعه له شيئا، هذا فضلا عن كونه كملك كريم مكلف بمهمّة أداء وإعطاء، وليس أخذ بقوّة وشدّة وقهر، وفي هذا إساءة لجبريل عليه السلام وتصويره بتلك الفظاظة والغلظة، وأمين الله عارف بمن أُرسل اليه معرفة كاملة، لا تحتاج إلى زيادة، فكيف بما نسبه الرواة إلى جبرائيل أن ينسجم مع أسلوب الوحي وطريقته؟

وتتواصل الإساءة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية فتصوّره فزِعا مرتجفا، لا يدري ما حصل له، كأنّما أصابه مس من الجنّ، مع أن الله سدد رسله بقوله: (لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون)(5) وتستغرق الرواية في ماساتها فتقدّم للقارئ خديجة عارفة بحاله أكثر منه، فتأخذه إلى ورقة بن نفيل المتنصّر فيخبره بخبر الناموس الذي نزل على موسى، فأين النصرانية من موسى وهي رسالة عيسى؟ يخبره بخبر غيبي تمثل في هجرته، فأيّ عقل يصدّق اختلاقات مركّبة تركيبا خبيثا؟

أما أكبر كارثة في الرواية فادعاؤها بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذهب مرارا الى الجبال الشواهق ليتردى منها، كلما انقطع عنه الوحي، بل فيها أنه كان يتخيّر رؤوسها لينتحر منها، فهل بقيت إساءات أكبر وأعظم جرما مما لفقه هؤلاء الرواة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عبّرت في مضمونها أيضا على استخفاف بحقيقة الوحي وروحه القدس، وما يتصل بهما من دور روحاني لا يمكن الإحاطة بألطافه، وأستغرب كيف يرضى البخاري وابن حنبل وابن كثير بنقل رواية في منتهى السقوط والابتذال، أين كانت عقولهم عندما دوّنوها في كتبهم؟

الإساءات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مدونات القوم كثيرة، وفيها دلالة واضحة عن انحرافهم عن ثقل القرآن وترجمانه وحفظة الشريعة أحكاما ومقاصد، جعلهم يقعون في شراك ادعياء العلم والدين فرائس دعوات ضلالهم، ولو أنّهم استجابوا للرسول، في دعوته بالتمسّك بأهل بيته عليهم السلام، ما كان لهم أن يضلّوا عن نهجه من بعده، مهما استدرجهم أعداؤهم إليه من باطل: ( إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (6) لذلك أقول إنّ في مناسبة البعثة النبوية المباركة، فرصة لتعديل المسار بإعادة الاعتبار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفض كل ما من شأنه أن يحطّ من مقامه العالي، وفي نفس الوقت اعتمدا الإسلام المحمّدي من طريق أهل بيته عليهم السلام، خال من الترّهات والأكاذيب.

المراجع

1 – سورة الأنبياء الآية 107

2 – باب كيف بدأ الوحي ج1ص7ح3/كتاب التفسير سورة اقرا ج6ص173ح4953/

3 – مسلم كتاب الايمان باب بدء الوحي ج1ص97ح160

4 – جامع احاديث البخاري كتاب التعبير باب اةول ما بدئ به الرسول من الوحي ج9ص29ح6982 / مسند أحمد بن حنبل مسند عائشة ج43ص112ح25959/ تفسير ابن كثير الجزء 30 سورة العلق

5 – سورة النمل الآية 10

6 – سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص125ح3788/مسند احمد مسند أبي سعيد الخدري ج17ص211ح11131

 

 

 

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023