لا يختلف إثنان في تقدير حجم الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحادّة التي تعيشها بلادنا تونس هذه الأيام والتي تعود جذورها إلى عقود وليس إلى أعوام، ولكن الإختلاف حاصل لا محالة في تشخيص أسبابها، فالبعض يرى أنّ الفساد هو سبب البليّة، فقد هيمن الفاسدون على مفاصل الدّولة، وتحوّلوا إلى حاكمين فعليّين لمؤسّساتها، وآخرون يُرجعون الأزمة إلى الطّبقة السّياسيّة التي أتت بها ثورة الكرامة حيث أدارت هذه الأخيرة ظهرها لمشاغل البلاد الإقتصاديّة والاجتماعيّة، وسعت إلى التّموقع في أجهزة الدّولة والهيمنة عليها من أجل تصفية حساباتها القديمة مع منافسيها، ويرى آخرون أنّ النّظام السّياسي الجديد هو شرّ البليّة بما أنّه لم ينتج خلال العشريّة الماضية سوى حكومات ضعيفة، مكبّلة ومسلوبة الإرادة ، و مرتبكة ومراوغة، تحاول إيجاد حلول مؤقّتة للأزمات الماليّة والاقتصاديّة، وتسعى جاهدة للبقاء أكثر وقت ممكن في ظلّ هشاشة الحزام السّياسي والائتِلاَفات المساندة لها، وبالتّالي تقف عاجزة عن السّير في الاتجاه المطلوب لإصلاح الأوضاع..
لا تحتاج دولة الغنيمة التي فصّلتها المنظومة السياسية على مقاس مصلحتها، إلى مؤامرة خارجية كي تنهار، فالدولة التي تتأسّس على القمع والفساد والمحسوبية، هي دولة آيلة للسقوط الحتمي، مهما تأخّر زمن هذا السقوط، و يمكننا القول انّ المنظومة الفكرية والسياسية التي قادتها حركة النهضة منذ العام 2011 مع الأحزاب المشاركة معها في الحكم كانت أكبر عملية تحيّل على الشعب التونسي، بما أنّها لم توفّر أو لم تضع شروط التغيير الجذري الذي طالب به التونسيون في عام 2011، وأهمّ غاياته تحقيق الحريّة والعدالة الإجتماعية ، ففي واقع الأمر لم يحصل أيّ تغيير في مستوى إدارة البلاد.. وتظهر عملية التحيّل الكبرى في النظام البرلماني، الذي تم فرضه من قبل جماعة الإخوان في دستور 2014، فهذا النظام لم يعد يخفى على أحد أنّه لا يصلح للتجربة التونسية وأنّه نظام معطّل لدواليب الدولة، بل إنّه نظام يخرّب العمليّة الديمقراطية ويفرغها من معانيها الحقيقية، ومع ذلك تصرّ منظومة الإخوان على التمسك بهذا النظام لأنّها تُدرك أنّها لا يمكنها الإمساك بالسلطة إلاّ من خلاله، وهنا يتّضح أن المصلحة الحزبية هي أولى من المصلحة الوطنية، ولذلك فجوهر النظام السياسي الذي بُنيت عليه منظومة 2011، هو الذي وجب تغييره، ودون أيّ حلول أو حوارات أو توافقات خارج دائرة تغيير النظام البرلماني و تنظيم استفتاء شعبي لتعديل أو تغيير النظام السياسي.. و أمّا من يتحدث عن إنقلاب، فـ”الإنقلاب الناعم”؛ تمّ منذ سنوات ، حين قامت المنظومة السّياسية الفاشلة بإختطاف الدولة بأساليب الخداع ، وتحويل حكم الدولة إلى ملكية خاصة لفئة معينة، ممّا جعل المسار السياسي يزداد تناقضًا وتمزقًا وقابلًا للإنفجار في أي لحظة، وقد عملت وعمدت على خنق العملية الديمقراطية والإجهاز عليها مع الحفاظ على شيء من الديمقراطية الصورية المُزيفة أمام الرأي العام..
ماحدث يوم 25 جويلية كان انتصارا للإرادة الشعبية و الرئيس قيس سعيّد يرى في خياره الاضطراري إنقاذاً للبلاد من الإنسداد المؤسساتي المفروض عليها بفعل التعنت الحزبي، وحماية لها من الخطر الداهم في ظل الأوضاع الاقتصادية والوبائية الاستثنائية، وبذلك فهو من وجهة نظره تصحيحًا لوضع غير سويّ يشكّل تهديداً مُحدقاً بكيان الدولة و إستجابة لإرادة الشّعب.. و مصطلح الثورة المضادة أو الإنقلاب على الشرعيّة فهو مصطلح يصف به المحسوبون على جماعة الإخوان كل من لا يدور في فلكهم ولا تتناسب رؤاه مع نظرياتهم ، و هو ينطبق على حقيقة تسلق الإخوان الثورات وسرقتها وإفشالها.. الرئيس قيس سعيّد أعلن إلتزامه الصريح والواضح بالدستور، ولأنه لم يلجأ إلى الجيش أو يقوم بإعتقالات، ولأنه ربط هذه الخطوة بفترة زمنية، مع الحرص على السلمية، ولأنه هو نفسه رئيس منتخب، لا يمكن أن نتهمه بتهمة الانقلاب، فكيف للشخص الذي يحكم أن ينقلب على نفسه؟، لكن ما حدث بالفعل، أنه أوقف المد الإخواني في تونس، فالرئيس قيس سعيّد يعد رمز وحدة الدولة والشعب إنتخبه حتى يمثلهم، فلا يمكن أن يكون صامتا على ما يحدث في تونس..
الدعوات الحالية لتعديل النظام السياسي تؤكد فشل من قام بوضع دستور 2014، ، و تؤكد أنّ نظام الحكم البرلماني المعدل الذي تبنته تونس في دستور 2014، أحدث شتاتاً برلمانياً عمّق الأزمة في البلاد و خلق تداخل معقد في الصلاحيات وتشتيتها.. ، و خلّف عجز في إدارة دواليب الدولة، خلال العشرية الأخيرة..و بالتالي هناك ضرورة في تعديل فصول دستور 2014، بما يضمن نظاماً جمهورياً ديمقراطيّا اجتماعيّا يُؤسّس للاستقرار السياسي ويلبّي طموحات الشعب في الكرامة التي أساسها الحرية والعدالة الاجتماعية، فضلاً عن مراجعة القانون الإنتخابي.. و في ظل غياب المحكمة الدستورية المخرج الأوحد هو تعديل الدستور عبر استفتاء شعبي على اعتبار أن الفصل (3) من الدستور ينص على أن الشعب صاحب السيادة وأنه مصدر السلطات.. و الحديث عن إنتخابات مبكرة قبل تعديل الدستور و دون تغيير النظام السياسي و القانون الإنتخابي يعتبر أمراً عبثيًّا و مضيعة للوقت ، و محاولة بائسة لإعادة إنتاج نفس المنظومة الفاشلة والمفلسة إلى الحياة وهي رميم ، ومحاولة نفخ روح المشروعيّة فيها عمل ساذج للغاية و بمثابة إعادة إنتاج نفس الفشل الذريع.. 25 جويلية 2021 حمل في طياته رسائل متعددة الاتجاهات، تتمحور كلها حول حقيقة واحدة: لا شرعية إلاّ للشعب..
الفصل (3) من الدستور التونسي : “الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الإستفتاء”..
الدستور بشكل عام هو مجموعة من المبادئ الأساسية ، والهدف الأساسي منها هو صياغة قوانين و أنظمة تهدف إلى تطوير البلاد وخدمة الناس جميعا، و بالتالي الدستور ليس وثيقة مقدسة تسعى لترسيخ القديم وعرقلة تقدم المجتمع أو يُفصّل على مقاس مصلحة جهة معينة ، وأي دستور كهذا يجب التخلي عنه خدمة للشعب و لمصلحة تونس.. فالشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات و للرئيس قيس سعيّد مشروعية شعبية ومداً شعبيًّا تزول بموجبهما الشرعيّة الدستوريّة ، و فيما يتعلق بتغيير النظام السياسي هذه الخطوة لا بدّ أن تستند على مشروعية شعبية، وأن يستبقها استفتاء شعبي لتقييم النظام السياسي إن كان ناجحاً أو فاشلاً ، يتوجه به الرئيس للشعب لأخذ رأيه بشأن تغيير المنظومة الدستورية وتعليق العمل بالدستور والذهاب نحو دستور آخر أم لا.. من خلال تنظيم استفتاء شعبي يُسْأل فيه الشعب التونسي عن نوع النظام السياسي الذي يجب اتباعه، و من شأن نتائج الإستفتاء أن توضّح إمّا تعديل الدستور أم تعطيله تمامًا ووضع دستور جديد، و من الضروري أن تتجدد الشرعية السياسيّة على أساس الثقة المتبادلة ، وأن تعود للتونسيين المشروعيّة وسلطة الإختيار لإستفتائهم الحرّ والمباشر على النظام الانتخابي الذي يناسبهم ونظام الحكم الملائم والقيام بالإصلاحات المأمولة بما يُلبي طموحاتهم نحو قيام دولة عادلة تقطع مع الفشل و الفساد .. ولا يمكن الإدعاء بأن هناك شرعيّة دون العودة إلى الشعب ولابدّ من الإنصياع لإرادته لأنّه هو الذي يمنح الشرعيّة برضاه وهو الذى يسحبها .. فالشرعيّة ليست مطلقة بل محكومة برضا الشعب..
لقد نجح الشعب التونسي ، بحكمة و عقلانية ، في تجاوز منعرجات أكثر تعقيدا ضمن مخاض الثورة، وهُم اليوم مطالبون بإستحضار الذكاء التونسي وروح التعايش ، للعبور مجدّدا بسلام نحو المستقبل ،من أجل المصلحة العامّة، وقطع الطريق أمام التدخلات الخارجيّة التي تبحث عن أجنداتها الخاصّة، ولو بإشعال النيران في بيوت الآخرين وحرقها بمن فيها، لذلك نكرّر للمرة الألف أنّ مصير الوطن في كل مكان يقرّره أبناؤه الصادقون وحدهم، والفاعلون من خارجه لا يصنعون سوى التمدد في الفراغ و الدفع بالبلاد إلى الفوضى و الإنهيار بمساعدة أجندات داخلية ، فهم باعوا ضمائرهم وأصبحوا يواجهون الشعب، واليوم وضعهم أصبح صعبا للغاية لأن الشعب التونسي قرر ألاّ يكون لهم أي وزن في الشارع و لفظهم من الحكم.. و الشعب التونسي يريد أن يكون هناك شخص واحد مسؤولاً أمامه ويكون في مواجهته..
إنّ مسؤوليّة السير بالبلاد نحو برّ الأمان ستكون على كاهل الرئيس قيس سعيّد و الوطنيين الصادقين، من الأحزاب و المنظمات الوطنية ، و الحقوقيين، إذ عليهم الإدراك أنّ آثار المعركة الدائرة رحاها الآن ومآلاتها البعيدة لن تكون بين قيس سعيد وراشد الغنوشي، ولا بين الإسلاميين والليبراليين واليساريين، لكنها في واقع الحال رهان وجودي بين الإستبداد والديمقراطية، بين الحريات والتسلطية الشموليّة، بين قوى التغيير الجديدة ومنظومة الدولة العميقة المتكلّسة..ولن يكون هناك طرف مهزوم وآخر رابح في حال الفشل في حماية المسار الديمقراطي، بل سيكون الجميع خاسراً لا محالة ، وقبلهم جميعاً ستكون تونس هي الخاسر الأكبر، بجعلها معرّضة لكل المخاطر المتربّصة بها في نفق المجهول..لصالح مساعي التخريب، التي ستكون تونس بلداً وشعباً أول الخاسرين فيها، (لا قدر الله) ..
اِنتهى وقت الكلام الفارغ، وينبغي أن يبدأ عهد الكلام الجدّي، الذي من المفترض أن يكون هو البوصلة التي تقود إلى بناء وطن ديمقراطي حداثي، تسوده الكرامة والعدل والمساواة.. و الإسراع باتجاه تحقيق الإصلاح والتغيير و تصحيح المسار والتخلص من مافيات الفساد وقياداتها التي أمسكت بشرايين الدولة، التي يتباكى البعض على هيبتها ، بعد أن اسقط هؤلاء المتباكون والمتحدثون أنفسهم هذه الهيبة عن طريق الإستنجاد بالخارج ضد إرادة الشّعب و السيادة الوطنية و ضد سيادة تونس و شعبها ..، و على الرئيس التدخل لوضع حدّ لهذه المهزلة ووضع النقاط على الحروف، ووضع خارطة طريق تقود إلى بناء وطن ديمقراطي جديد ونظام سياسي جديد يرتكز على سيادة الشّعب والفصل الحقيقي بين السلط واستقلالية السلطة القضائية و تشكيل حكومة تتحمل مسؤولية المرحلة القادمة .. سيادة الرئيس، فلتعلن عن شخصية تراها قادرة على تشكيل و قيادة حكومة جديدة حسب رؤيتكم لشكلها و هندستها و تعبّر عن إرادة الشعب ، الوضع أصبح ينذر بكل المخاطر ، و لم يعد هناك مجال لإطالة التجاذبات التي تزيد من تعميق الأزمة..، أطرح رؤيتك يا سيادة الرئيس إنّ لقيت الدعم السياسي و المدني و الشعبي فليكن الأمر كذلك… لقد آن الأوان لتحقيق إرادة الشّعب و لإسكات خونة الداخل و إنتهاكات القوى الخارجية التي تتدخل في الشأن الداخلي التونسي.. آن الأوان يا سيادة الرئيس لتأخذ قرارك ..تونس وشعبها اليوم في حاجة لرجل دولة أقسم على حفظ أمانة الشعب … آن الأوان سيادة الرئيس!! ..
عاشت تونس حرّة مستقلّة ذات سيادة
عاش الشعب التونسي صاحب السيادة