في عام 2005 دمر الإعصار «كاترينا» مدينة نيواورليانز الأميركية، وخلّف 1800 قتيل، وشرّد أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، بعد انتهاء الإعصار، وفي إطار إعادة الإعمار، قال أحد أغنى مقاولي الولاية: «أظن أننا أمام صفحة بيضاء تخولنا البدء من جديد، مع هذه الصفحة البيضاء، تأتي فرصٌ كبيرة جداً».
بالفعل جاءت تلك الفرص للشركات الكبرى من خلال تخفيض الضرائب، وتقليص الإجراءات، وتوفير يد عاملة رخيصة من المنكوبين الذين فقدوا مصدر رزقهم، ووضع أنظمة أمان جديدة تحمي المدينة من الأعاصير في المستقبل، لقد تُرجم كل ذلك إلى مليارات الدولارات التي تدفقت على حسابات الشركات الرأسمالية الكبرى في البنوك.
في سريلانكا عام 2004 وبعد أن دمر إعصار «تسونامي» قرى الصيادين الشاطئية، كانت إعادة الإعمار فرصة للمستثمرين لبناء منتجعات سياحية فخمة، حرمت الصيادين من الوصول إلى البحر، وهو ما عبّرت عنه حكومة سريلانكا بقولها: من خلال ضربة عنيفة للقدر، قدمت الطبيعة إلى سريلانكا فرصة فريدة من نوعها، وسيولد من رحم هذه المأساة مقصد سياحي ذو مستوى عالمي.
لكن المأساة ستزيد من مأسويتها بالنسبة للصيادين الذين حُرموا من مصدر رزقهم.
لا تبدو مصطلحات مثل إعادة الإعمار، أو الدول المانحة، غريبة على منطقتنا، فقد تعودنا سماعها بعد كل كارثة تحل بالأمة، الفرق الوحيد أن كوارثنا لا يد للطبيعة فيها كما كان الحال في نيواورليانز أو سريلانكا، بل كانت بفعل الدول الرأسمالية وأدواتها في المنطقة.
يقول «المنظّر الأكبر» للرأسمالية ميلتون فريدمان في كتابه «الرأسمالية والحرية»: «وحدها الأزمة، سواء أكانت واقعة أم منظورة، تحدث التغيير الحقيقي… على حد اعتقادي تكمن وظيفتنا الأساسية في تطوير بدائل للسياسات القائمة، وأن نبقي هذه البدائل متوافرة، حتى تحين اللحظة التي يتحول فيها المستحيل سياسياً، إلى حتمية سياسية».
في العراق الذي عاش أزمة الحرب والاحتلال منذ عام 2003، تعمُّ ثمة تظاهرات في الشوارع، ويصرخ المتظاهرون بطلب حقوق قد يبدو غريباً للوهلة الأولى عدم توافرها في بلد يبلغ دخله من النفط حوالى 6 مليارات دولار شهرياً، على مدى 16 عاماً من الاحتلال ومشاريع إعادة الإعمار، بلغ دخل العراق من تصدير النفط ما يزيد على تريليون دولار، لكن المواطن العراقي ما زال يعاني نقص المياه الصالحة للشرب، والكهرباء، وفرص العمل، وكلها مشاريع لا تحتاج سوى بضعة ملايين من الدولارات، لكن الاحتلال وسياسة إعاقة التنمية التي انتهجتها سلطات الاحتلال ودعم الفاسدين حرم العراقيين منها، فبقيت الأزمة قائمة لاستغلالها سياسياً من الإمبريالية الغربية، عند الحاجة، ضد هذا الطرف أو ذاك.
في فلسطين المحتلة، عاش الاحتلال الإسرائيلي نوعاً من الاستقرار حتى عام 1988 وجاء انطلاق الانتفاضة الفلسطينية ليشكل أزمة عميقة لكيان الاحتلال، تدخلت الدول الرأسمالية لتحول الأزمة إلى فرصة، فكانت محادثات السلام، التي سُوّقت على أنها «الحل الأمثل» للقضية الفلسطينية. على أرض الواقع حصل مزيد من الشركات العقارية الكبرى على عقود لبناء مستوطنات إسرائيلية جديدة في الضفة الغربية، وازداد عدد المستوطنين من 107 آلاف عام 1992 إلى 200 ألف مستوطن عام 2000. وعلى عكس ما تشيعه «إسرائيل»، ويقبله الكثير من العرب ولاسيما جماعات «الإسلام السياسي»، فإن الدافع الرئيس للاستيطان ليس دينياً «استعادة أرض إسرائيل» بل إن 70% من المستوطنين اختاروا العيش في الضفة الغربية لأسباب اقتصادية، تتمثل في تشجيع كيان الاحتلال، ورخص أسعار الشقق، والقروض الميسرة، ووجود كبريات المراكز الصناعية في مناطق الاستيطان، مثل «بركان وكوني شمرون» في محيط القدس، و«مشور أدوميم وإيرز» في مستوطنات غلاف قطاع غزة.
في كل الكوارث والأزمات لعبت الدول الرأسمالية دور الرأسمالي المستثمر الذي يؤمن المال الكافي لتشكيل «وحدة رأسمالية الكوارث» ثم يقوم بتحويل نفسه من صانع للأزمة إلى أكبر زبون يحتاج خدمات هذه الوحدة، على شكل تمويل للحروب ثم مساعدات إنسانية، وشركات حماية أمنية، وبرامج إعادة الإعمار.
يدّعي علماء الاقتصاد الرأسماليون أن السوق الحر قادر على ضبط نفسه من خلال قوانينه الخاصة التي تعتمد أساساً على مبدأ العرض والطلب، وأن آليات السوق التي تضبط هذين العاملين «تحقق الاستقرار الاقتصادي» الذي يعدّ المدخل إلى تحقيق «الاستقرار السياسي»، لكن التاريخ الرأسمالي، نفسه، يخبرنا أن الرأسمالية التي ازدهرت منذ مطلع القرن التاسع عشر، عاشت أزمات ارتبطت بتطورات الاقتصاد الرأسمالي نفسه كـ «الثورة التقنية» وثورة الاتصالات والثورة الرقمية»، وأن كل هذه الأزمات ترافقت بتفوق الإنتاج على الاستهلاك، أي تفوق العرض على الطلب بشكل عجزت آليات السوق عن تعديله، لذلك فإن الدول الرأسمالية التي تدّعي أنها «تجاوزت» مرحلة الاستعمار الكولينيالي، غير قادرة على تجاوز هذا العجز، هذا إذا افترضنا جدلاً أنها معنية بذلك التجاوز، فالتخلي عن عقيدة التوسع الاستعماري، يعني تراكم المنتجات، وتالياً زيادة العرض وهبوط الأسعار، وهو ما يقود إلى الانهيار الحتمي للنظام الرأسمالي، ولتجنب هذا الانهيار لا بد من استغلال الكوارث وشن الحروب.
يقول مايك باتلز، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية: «قدّم لنا الخوف والفوضى فرصة ذهبية». لقد تبنت الرأسمالية هذه «العقيدة» لتجنب التسلسل الكارثي للأحداث، وأصبح لزاماً على «السيد» الرأسمالي، في كل مرة تهتز فيها الأسواق، استدعاء قادة أجهزة الاستخبارات، والصراخ في وجههم … اصنعوا كارثة!
*كاتب من الأردن