لطالما كانت عناوين حقوق الإنسان, وبرامج المساعدات الإنسانية, ومحاربة الفقر والجوع, ومساعدة الدول الفقيرة, عناوين براقة, استخدمتها الولايات المتحدة والدول الغربية لإخفاء أطماعها, وإستعمالها كأوراق هامة في ملفات مسبقة الصنع, للنيل من الخصوم والأعداء, عبر سياساتٍ لا أخلاقية مزدوجة المعايير, اهتمت بإظهار أناقة الغرب ووجه الحضاري وإنسانيته, في الوقت الذي تُسرق فيه اللقمة من أفواه الدول والشعوب والمحتاجين, للحفاظ على مستوى الرفاهية والراحة التي يحتاجها “المبدعون” لإنتاج المزيد من الشرور, وعلى ديمومة سير المعادلات “القاتلة” بإتجاهٍ واحد.
وما بين مرجعياتٍ ونصوصٍ قانونية أممية, وأخرى لا قانونية ولا شرعية, استثمر الغرب أوراقه المزورة, لحصار الدول والشعوب, ومعاقبتها, واستباحة حدودها وأراضيها, وسرقة ثرواتها, وسط تصفيق نخب المستفيدين, وداعمي الحروب العسكرية والإقتصادية وحروب الطاقة والغذاء وغير حروب, وتحول العالم بفضل شرورهم إلى حقل أشواكٍ لا مكان فيه لزراعة الورود.
ولم يكن لجوء الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي ودوله, إلى استعمال ورقة الحبوب الأوكرانية في استهداف روسيا وأوكرانيا وعشرات الدول الأوروبية والأفريقية أمراً مفاجئاً, واستطاعت إنتاج أزمة حقيقية وإضافية على هامش المواجهة العسكرية مع روسيا, وأوقعت أوروبا والعالم في فخ العوز والفقر وشح الموارد الغذائية والطبية, نتيجة سياسة العقوبات غير المسبوقة التي فرضتها واشنطن وقادة دول القطيع الأوروبي على موسكو.
وعلى خلفية بروباغاندا قيام روسيا “بمنع أوكرانيا” من تصدير ملايين أطنان الأقماح المخزنة في مستودعاتها, وحصارها العسكري لبعض الموانئ الأوكرانية, تم الدفع بهذا الملف كسلاح ليلاحق الدولة الروسية بسمعتها وإنسانيتها و”وحشيتها” بحسب وصف السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد مؤخراً, في حين أنه تم التعتيم على حقيقة حكومة كييف التي حاصرت نفسها بنفسها, وزرعت الألغام البحرية من حولها, لإحراج موسكو ومضاعفة مشاعر الكراهية تجاهها.
لكن موسكو أوجدت الحل, وأبرمت عدة إتفاقيات مع حكومة كييف, برعايةٍ أممية وبوساطة تركية, لمعالجة مسألة إمدادات الغذاء والأسمدة, وكذلك لتصدير الحبوب من موانئ البحر الأسود الخاضعة لسيطرة كييف, بهدف معالجة أزمة الغذاء في البلدان النامية والفقيرة على وجه السرعة, في وقتٍ أكد فيه مدير برنامج الغذاء العالمي، ديفيد بيسلي، العام الماضي, بأن سفن الحبوب الأوكرانية ستحل مشكلة وصول إلى الغذاء في جميع أنحاء العالم، وستعمل على تحسين الوضع في الصومال وإثيوبيا وشمال كينيا والعديد من الدول, وخصوصاً تلك الأشد فقراً وحاجةً.
لكن صحيفة دير شبيجل الألمانية وفي 2 أيلول /سبتمبر العام الماضي فجرت مفاجئة من العيار الثقيل, وتحدثت عن 63 سفينة غادرت الموانئ الأوكرانية, منها 13 فقط كانت تحمل القمح, في حين حملت السفن المتبقية محاصيل فول الصويا وعباد الشمس والذرة، وهي محاصيل تستخدمها أوروبا في أغلب الأحيان كعلف للحيوانات أو لإنتاج الوقود الحيوي , في وقت فُضحت فيه أيضاً جهة تحرك 16 سفينة تحمل535 طناً من القمح والأعلاف, نحو بريطانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية, وهي دولٌ غنية, لا يهددها الجوع, لكنها بحاجة إلى الأعلاف لمواشيها, ناهيك عن فضحية 23/ ب /2022, حيث تم الإعلان عن مغادرة 34 سفينة اقماح بإتجاه أفريقيا, ووصلت إحداها إلى لبنان, وكانت تحمل الذرة (العلف) على عكس ما انتظره اللبنانيون بأن تحمل الأقامح إليهم.
كذلك سبق للرئيس الروسي خلال كلمة ألقاها في منتدى الشرق الاقتصادي في مدينة فلاديفوستوك الروسية, اتهامه الدول الغربية “بالتسبب في ارتفاع أسعار سوق الغذاء وبالتالي تفاقم أزمة الغذاء لدى الدول الفقيرة، نتيجة استحواذ الأوروبيين على أغلب صادرات الحبوب الأوكرانية, وأن “3% فقط من كميات القمح التي خرجت من أوكرانيا ذهبت إلى الدول الفقيرة والباقي إلى الدول الغربية”, واتهم الأوروبيين بمواصلة العمل “كمستعمرين”، وأوضح أنهم مستمرون في “خداع الدول الفقيرة”.
في الوقت الذي لم ينفك فيه الأمين العام التأكيد لمجلس الأمن وتزويده بأعداد الملايين من الأشخاص المهددين بالمجاعة حول العالم, ومن يواجهون نقصاً كبيراً في المواد الغذائية.
ومع استمرار تسليح أوكرانيا, وقيامها بقصف جسر القرم, وبالإصرار على متابعة “الهجوم المضاد” رغم فشله, وبتزويد القوات الأوكرانية بالأسلحة والقنابل العنقودية, والصواريخ بعيدة المدى, وتنصل الإتحاد الأوروبي عن تنفيذ وعوده بشأن إتفاقية الحبوب, أعلنت موسكو انسحابها من الإتفاقية, وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أن جميع السفن المتجهة إلى الموانئ الأوكرانية ستُعتبر ناقلات محتملة لشحنات عسكرية اعتباراً من 20 يوليو/ تموز, فيما هرع زيلينسكي لإطلاق مزاعم جديدة, وبأنه نتيجة القصف الروسي على أوديسا تعرضت 60 ألف طن من الحبوب للتلف، وقد كانت كانت معدة لشحنها إلى الصين… لكنه لم يجد أي صدى أو مؤيدين لأكاذيبه.
وكعادته, وجد رئيس الدبلوماسية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الحل ذاته لمعالجة كافة الأزمات والمشاكل, عبر إرسال المزيد من الأسلحة إلى حكومة كييف, لتبريرمواقف الإتحاد الأوروبي العدائية المتجددة يومياً تجاه روسيا بالقول:”طالما يتم قصفهم، يجب أن نوفر لهم أنظمة الدفاع الجوي”.
تدرك موسكو والرئيس بوتين أهمية استمرار العمل وفق صفقة الحبوب, لكنها أرادت الحصول على حقوقها التي نصت عليها الإتفاقفية وحنث بها الغرب, وقد أوضح الرئيس الروسي، أنه يمكن لموسكو أن تستأنف صفقة الحبوب إذا تم الوفاء بكامل الوعود والمبادئ التي تم الإتفاق عليها في هذه الصفقة دون استثناء”, وبأن الشرط الأساسي للعودة هو”استعادة الصفقة لجوهرها الإنساني الحقيقي”, الذي “أضعفته وحرفته” الدول الغربية, وجعلته أداةً للإبتزاز السياسي, ووسيلة لإثراء الشركات المستفيدة والسماسرة في سوق الحبوب العالمي”.
ودعا إلى “رفع العقوبات المفروضة على إمدادات الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية, ولإستئناف تشغيل خط أنابيب الأمونيا في أوديسا, الذي وقف نظام كييف وراء تفجيره وتدميره, كنتيجة لرفض السلطات الأوكرانية ضخ الأمونيا عبره إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرتها, كما أكد استعداد كوسكو إلى توريد الأقماح إلى الدول الفقيرة وخصوصاً في القارة السمراء بالمجان.
في حين يبدو أن لدول أوروبا الشرقية رأي اّخر, وبزعامة بولندا طالبت المفوضية الأوروبية , باسم دول الجوار الأوكراني (بولندا وبلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا), بتمديد الحظر المفروض على توريد الحبوب الأوكرانية إلى الاتحاد الأوروبي حتى نهاية هذا العام, ويطرح السؤال نفسه, هل عادت الحبوب الأوكرانية من جديد لتكون سبباً في المواجهة بين وارسو وبروكسل؟.
يبدو أن بولندا التي تحاول إثبات نفسها كوريث لحلف وارسو, وتتصدر مواقف زميلاتها في الحلف السابق, وتفضح نفسها ونواياها وبأنها دولة متضررة, وسط تهديدات رئيس وزرائها ماتيوز مورافيكي, بفرض قيود على الصادرات البولندية في حال عدم تدّخل المفوضية الأوروبية , في الوقت الذي طالب فيه وزير خارجية المجر ببدء بالمفاوضات وتسوية النزاع الأوكراني عبر الدبلوماسية وأنه على “المجتمع الدولي” توفير السلام لأوكرانيا وليس الأسلحة , دعوة قد تبدو لصالح أوكرانيا والسلام , لكنها في جوهرها , تحمل مراهنة على مفاوضات أو تسوية قد تفضي إلى تقسيم أوكرانيا , وتقليص قدراتها وإمكاناتها كافة.
فقد تناولت وسائل الإعلام البولندية الأسبوع الماضي, حجم واردات الحبوب والمواد الخام الأوكرانية إلى بولندا خلال العام الماضي، وتضاعفها بشكل كبير للغاية مقارنة بالعام 2021, واعتبرته يشكل تهيداً للحكومة البولندية بعدم قدرتها على حماية مزارعيها, وهي ذات المشكلة التي دائماً ما كانت تقلق الإتحاد الأوروبي ومستقبل العلاقة مع أوكرانيا, وتضعه أمام خيارين إما مساعدة أوكرانيا أو مساعدة اقتصاد دوله.
يمكن اعتبار المتضررين من حجم الواردات الأوكرانية لمادة القمح وغيرها, أنهم من المهتمين بوقف العمل بصفقة الحبوب, وقد يذهبون إلى أبعد من ذلك, ويدعمون تدمير قطاع الزراعة الأوكراني برمته, فيما قد تجد المفوضية الأوروبية نفسها مضطرة إلى تمديد الحظر المفروض على تصدير الحبوب الأوكرانية, لإرضاء دول حلف وارسو السابق, أم أنها ستفضل إرضاء أصحاب رؤوس الأموال الخارجية وأوليغارشيي أوروبا وأمريكا, الذين يستثمرون الأرض والحرب في أوكرانيا, كالشركات الأمريكية متعددة الجنسيات، والمصارف التجارية والصناعية الكبرى في أوروبا ؟.
لقد سمح النفاق الأوروبي بمساعدة أوكرانيا وزيلينسكي على الحرب والقتال, من أجل الموت فقط, وليس من أجل الرفاه ونمو الإقتصاد, يبدو أنهم مع هزيمة كييف والناتو وبروكسل, فقدوا حاجتهم للرئيس زيلينسكي, وهذا يفسر المشهد في قمة ليتوانيا, عندما وقف وحيداً منبوذاً مهرجاً حزيناً وغاصباً, وهو يقرأ معادلات لم يكن يتوقعها من ذي قبل, وأن من يدعمون حربه اليوم, هم من يحلمون بتدمير أوكرانيا, ومن يرفضون عضويتها في الناتو.
بات واضحاً أن عواصم الشر في “العالم الغربي المتحضر” تخطط للحروب وتفتعل الأزمات من أجل تحقيق غاياتها وأطماعها ومضاعفة مكاسبها, دون أن تأبه للأزمات والتداعيات والاّلام التي تصيب الدول والشعوب, وتسعى تحت العناوين المزيفة لحل مشاكلها الغذائية على حساب الدول الفقيرة, ويتظاهر قادتها بالإهتمام بشعوب البلدان الفقيرة، وبإنقاذهم من الجوع, فيما تتكفل وسائل إعلامهم بإخفاء حقيقتهم وإجرامهم, وبتحويلهم إلى أبطال يستحقون تخليد أسمائهم.
الوسوماوكرانيا ميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
هوكستين ينسف القرار 1701.. مؤتمر باريس للدعم أم للتهويل والرشوة ؟… بقلم م. ميشال كلاغاصي
نجحت وسائل الإعلام الأمريكية والفرنسية بتعميم مصطلحات جديدة لتوصيف تحركات الموفد الأمريكي إلى لبنان عاموس …