لأن “فاقد الشيء لا يعطيه”, لم تستطع الإدارة الأمريكية فهم طبيعة العلاقات الإستراتيجية السياسية والإقتصادية والتحالف القوي, وإرتباط المصير والمسار بين الدولتين والشعبين الإيراني والسوري, المبني على مناهضة ومقاومة المشروع الغربي في الشرق الأوسط, الذي يقوم أساسا ًعلى قيام الكيان الإسرائيلي الغاصب ودعم عدوانه وإحتلاله لأراضي فلسطين بكل ما تمثله من حاضرةٍ تاريخية وقيمةٍ دينية عالية بمقدساتها المسيحية والإسلامية على حدٍ سواء , ناهيك عن إحتلاله للأراضي العربية في عدوان 1967 بما فيها الجولان السوري.
أكثر من أربعين عاما ً للنضال المشترك للدولتين والشعبين الصديقين, تحملا فيها عبء مقاومة الإحتلال الإسرائيلي والمشروع الصهيو-أمريكي , دفاعا ًعن الأرض والسيادة والكرامة والمقدسات, ومناهضة الظلم والطبيعة العدوانية – التوسعية للكيان الإسرائيلي, مع تفاقم حالة الخذلان والإنقسام العربي, والتاّمر والإنحياز الدولي, لدعم وحماية واستمرار الإحتلال الإسرائيلي, ودعم مشاريعه التوسعية في المنطقة.
سنواتٌ من العمل الدؤوب أثمرت وأنتجت نواةً صلبة للمقاومة, ورسمت بتضحياتها وشهدائها نهجا ً تُرجم محورا ً مقاوما ً امتد من طهران إلى دمشق مرورا ً ببغداد وبيروت ووصولا ً إلى غزة والقدس والضفة وكامل الأراضي الفلسطينية المحتلة… محورٌ أثبت فعاليته في تحرير الجنوب اللبناني وبإنسحاب سلطات العدو الإسرائيلي من غزة , وبفرض معادلات الردع التي حاصرت الكيان وأجبرته على إعادة حساباته التوسعية , فإنكفىء نحو حماية وجوده وبقائه عبر بناء الجدران الإسمنتية , واللهاث وراء الإدارات الأمريكية للبقاء في المنطقة لأجل حمايته… ولم يتوقف عن تحريض مسؤوليه على شن الحروب العسكرية على عواصم المقاومة على أمل إسقاطها وتدميرها, والقضاء على جذور وفكر وثقافة المقاومة وعلى الذراع العسكرية لجيوشها ولأحزاب وحركات المقاومة فيها.
ويأتي اليوم من يستغربون وقوف الدولة الإيرانية إلى جانب سوريا !, وكيف لها ألاّ تساعد وتدعم صمود وإنتصار الدولة والشعب السوري في الحرب الإرهابية – الكونية التي فرضت عليها !, وكيف لها أن تتجاهل قساوة الحصار والضغط الرهيب الذي تتعرض له قلعة المقاومة ورأس حربتها ! .. يا لهم من أغبياء إذ لم يستطعوا فهم قيم الوفاء والصدق والأخوة, ولم يروا الكتف على الكتف واليد باليد في أحلك الأوقات وأصعبها, كم يبدو أعداء المقاومة صغارا ً وهم يتحدثون عن ناقلة النفط الإيرانية وهي تشق طريقها نحو شرايين ومفاصل الحركة والحياة للدولة والشعب السوري , حقا ً صدق من قال “فاقد الشيء لا يعطيه”.
فبعد كل ما أُشيع , وكل ما حدث من إحتجازٍ للناقلة الإيرانية, فقد وصلت إلى هدفها وفرّغت حمولتها حيث أرادت وقامت بما يفرضه عليها واجبها الأخوي والأخلاقي , وبدورها السياسي – المقاوم وبدعمها الكامل للدولة والشعب السوري .
إن وصول الناقلة إلى مرافىء سوريا هو نصرٌ لمحور المقاومة وهزيمة أكيدة للإدارة الأمريكية ولشركائها الأوروبيين ولحصارهم اللاشرعي المفروض على سوريا .. ومع ذلك بدأت وسائل الإعلام الأمريكية محاولة ً يائسة للتخفيف من وطأة الهزيمة, بالحديث عن صفقةٍ سرية بين الولايات المتحدة وإيران عبر طرفٍ ثالث , بما يُتيح للناقلة الإيرانية العملاقة تسليم 2.1مليون برميل من النفط إلى الحكومة السورية.
وسائل الإعلام هذه تجاهل أو تناست, كافة التصريحات والأحاديث الإعلامية والرسمية الأمريكية عن وصول الحرب على سوريا إلى طريقٍ مسدود, وعن فشل الإدارة الأمريكية في إسقاط الدولة السورية وقيادتها أو بتغيير نهجها وسياساتها وبتحويلها إلى دولةٍ فاشلة عاجزة عن حماية أرضها وشعبها, وبتأمين مقومات ومتطلبات حياة مواطنيها, كما فشلت بمنع إيران من تأكيد حرصها على دعم حلفائها.
وبحسب الروايات الأمريكية, فإن بقاء الناقلة “أدريان داريا1” عدة أيام في البحر الأبيض المتوسط دون تحديد وجهةٍ نهائية, يعود لإنتظارها نهاية المفاوضات الأمريكية – الإيرانية… وتُعلل الروايات سبب إختفاء وإنسحاب الطائرة بدون طيار الإسرائيلية “هيرون سوبر” التي كانت ترصد الناقلة الإيرانية بالقرب من المياه السورية, على أنه الدليل على إبرام الصفقة, الأمر الذي منح الناقلة إمكانية التوجه بحرية نحو ميناء طرطوس.
من السذاجة بمكان أن تلجأ وسائل الإعلام الأمريكية لتأكيد رواياتها إلى كلام وزير الدفاع مارك اسبير وهو يقول: “ليس لدينا خطط للاستيلاء على ادريان داريا 1 وإدارتنا تتفاوض مع إيران بشكل غير مباشر”, فما أسهل التصريح والكذب في إدارةٍ يرأسها دونالد ترامب صاحب الأرقام القياسية في النفاق والكذب, وفي الوقت ذاته تنتشر فضيحة محاولة رشوة القبطان الهندي بـ 15 مليون دولار من أجل تسهيل الإستيلاء الأمريكي على الناقلة, بالتوازي مع بعض التهديدات الرامية لإخافة الإيرانيين ومنعهم من تسليم الشحنة إلى سوريا.
ولا بد من قراءة التناقض في كلام وزير الدفاع الأمريكي, الذي يُثبت عكس ما ذهبت إليه وسائل إعلامه, وحاولت إثبات ضعف إيران ورضوخها لشروط التفاوض السري مع الجانب الأمريكي, مقابل وصول الناقلة إلى سوريا … فقد بات معلوما ً للجميع مدى النجاح الذي حققته إيران بالوقوف في وجه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مياه الخليج, وبقدرتها على إرسال طائراتها بدون طيار وبشكلٍ يومي فوق السفن الحربية البريطانية ودورياتها في مضيق هرمز وقبالة الساحل الإيراني, وهذا بدوره يُثبت قدرة الحرس الحرس الثوري الإيراني على حفظ الأمن في مياه الخليج, وأمن الدولة الإيرانية والدفاع عن مصالحها الإقتصادية وحقها في تصدير نفطها, وهي بمجملها أمورٌ تنفي كل حديثٍ عن أي ضعفٍ أو رضوخٍ إيراني لأي شروط أمريكية تتعلق بناقلة النفط العملاقة.
إن حديث وسائل الإعلام عن مفاوضاتٍ سرية بين واشنطن وطهران, لا يعدو أكثر من محاولة خبيثة ويائسة لإظهار ضعف إيران وإحراجها أمام شعبها في الداخل وأمام سوريا وحلفائها في محور المقاومة, وللإيحاء بأنها مستعدة للتفاوض السري, الذي يزرع الشك فيما بينهم وبإمكانية أن يكون ذلك على حسابهم, كما يسعى لإستعراض العضلات الأمريكية, ولإثبات الإدعاء حيال رغبة إيران واستعدادها للتفاوض من بوابة الناقلة أدريان أو لإستجداء أي حوارٍ مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل أو حتى بعد الإنتخابات الأمريكية في العام 2020.
لم تُثبت الإدارات الأمريكية ولو لمرة واحدة على مدى عشرات العقود, ذكاءا ًعلى حساب الغباء, وموضوعية ً على حساب العنجهية, وحكمة ًعلى حساب التهور والجنون, وبقيت تحتفظ بأسبابها وبكثرة أخطائها وجهلها بطبيعة العلاقات الإستراتيجية والأخلاقية والمبدئية والإحترام المتبادل بين الدول والشعوب, خصوصا ً في الحديث عن الدولتين والشعبين السوري والإيراني , وتبدو عاجزة تماما ًعن فك الشيفرة السورية – الإيرانية.