من السذاجة بمكان اعتبار السياسة الخارجية التركية خلال العقدين الماضيين، وتحديداً مع وجود الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحزب “العدالة والتنمية” في السلطة، نابعة من “براعتهم” في اختيار الطريق الصعب والشائك الذي يسلكونه، والذي لا يخلو من المغامرة والمراهنة والاعتماد الرئيسي على تحرك الجيش التركي خارج الحدود؛ تلك السياسة التي جعلت تركيا دولةً مارقة وخارجة عن القانون الدولي، من دون أن تتعرض لمساءلة دولية وقانونية من مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومن الدول الكبرى القادرة على لجمها وإيقافها عن الانتهاكات التي تقوم بها لخرق سيادة بعض دول الجوار، أو تلك البعيدة عن حدودها، ونطرح السؤال: من هو المذنب الحقيقي؛ العبد أم السيد؟ السكين أم اليد التي تحملها؟
قبيل القمة الأميركية التركية التي عُقِدت في بروكسل بتاريخ 14 حزيران/يونيو الماضي، وضع الرئيس التركي آماله على كسر الجمود والسلبية التي طغت على العلاقات بين البلدين مؤخراً، وخصوصاً مع وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، فقد هلَّلت الصحافة التركية للقمة بشكل غير مسبوق، فيما وصف الرئيس التركي اللقاء بأنه “فرصة للتعاون المثمر والعمل المشترك الذي ستقوم به الدولتان في المناطق التي تتطلب تعاوناً فعالاً، وأنه يمكن حل جميع المشاكل في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة”. يبدو أنه كان يقصد الملف الأفغاني ودخول تركيا على خط الصراع العسكري القادم هناك.
وعلى قاعدة بقاء الحال من المحال، تغيرت لهجة الإعلام التركي في غضون أسبوعين، وبدأ الحديث عما سمي “منصة مشروع الديمقراطية التركية لنشر الدعاية المعادية لتركيا”، والتي تضم “جون بولتون، وجيب بوش، شقيق الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، ووزير الخارجية الإيطالي السابق جوليو أغاتا”، إذ يرى البعض في تركيا أن المشروع يستهدف إطاحة القيادة التركية، حتى لو تسبب ذلك بالفوضى وبزعزعة استقرار البلاد.
ومع اقتراب ذكرى الانقلاب الفاشل في 15 تموز/يوليو، استغلَّت صحيفة “صباح” التركية المناسبة لتقول إن “النخب الأميركية “فعلت كلّ شيء لإطاحة إدارة الرئيس إردوغان”، وإنّه “سيتم استخدام أعضاء في منظمة غولن الإرهابية مرة أخرى لتحقيق الأهداف نفسها”، في نهج مماثل لاستخدام المعارض الروسي أليكسي نافالني، وخصوصاً مع استمرار حملة الاعتقالات الداخلية لـ”المتورطين” في محاولة الانقلاب، الأمر الذي سيتيح لأميركا والاتحاد الأوروبي اتخاذ بعض الإجراءات ضد الحكومة التركية تحت ستار “حقوق الإنسان”.
إضافةً إلى ذلك، ورداً على اعتراف بايدن بـ”الإبادة الجماعية للأرمن”، وعلى وضع تركيا في لائحة “الدول المشاركة في تجنيد الأطفال”، ازداد عدد التقارير المنشورة في الصحافة التركية، والتي “تنتقد سياسات الولايات المتحدة بدعم المنظمات الإرهابية واستخدامها لأغراضها الخاصة، وبأنها تتجاهل تركيا”؛ العضو الوحيد الذي يقاتل “داعش” في “التحالف الأميركي لمكافحة الإرهاب”، وفق تقارير الصحافة التركية.
تدرك تركيا – إردوغان جيداً أن الرئيس بايدن لم يكن ليوفر منذ سنوات مناسبة لانتقاد الأداء التركي والتعبير عن دعمه لتغيير القيادة التركية، حتى قبل حملته الرئاسية وأثناءها، وقال سابقاً: “يجب عزل تركيا في شرق البحر المتوسط”، ودعا إلى “دعم المعارضة الداخلية” (أحزاب المعارضة الكردية) والاستفادة من بعض عناصر القيادة التركية الحالية لـ”هزيمة إردوغان”.
هل تسعى إدارة بايدن لإطاحة حكومة إردوغان، عبر دفعها إلى أداء دورٍ عسكري قيادي في الساحة الإقليمية والدولية؟ وهل يكون ثمن بقاء إردوغان على رأس السلطة إقحام الجيش التركي في كل الصراعات الإقليمية والدولية، ويترتب عليه خوض المعارك في العراق وسوريا وليبيا والسودان وأفريقيا وأفغانستان بتكليفٍ أميركي، والأصح بأوامر أميركية؟ وإلى أي مدى ستمضي واشنطن في استغلال جشع وأطماع تركيا والرئيس إردوغان والعثمانية الجديدة؟
لن نكشف سراً في الحديث عن تركيا الدولة الأطلسية وصاحبة الموقع الاستراتيجي، وفي القول إنها تحتل المرتبة الثانية في تشكيل أكبر خزان عسكري لحلف الناتو، وإنها صاحبة العلاقات الاستراتيجية مع الكيان الإسرائيلي وذراعه العسكرية لمحاصرة الشرق الأوسط ومياهه ونفطه وثرواته، وتشكل إحدى أذرع الكماشة لتطويق سوريا والمقاومة اللبنانية والضغط على العراق وإيران وروسيا وغيرها من الدول، فهل تستغني واشنطن عن أداتها التركية؟ وهل تبدو مهتمةً بجلب رئيسٍ تركي جديد مسالم وناعم الوجه؟
كذلك، لا نكشف سراً إذا قلنا إن تركيا تؤدي دوراً رئيسياً في الضغط على الدول الأوروبية لصالح الولايات المتحدة، وباتت تشكل تهديداً كبيراً لكلّ الدول والأنظمة العربية والأفريقية والآسيوية، الأمر الذي يدفع روسيا ودول المحيط الأوراسي والصين والأوروبيين والعرب وغيرهم إلى خطب ودها على حساب مجابهتها، وقبول توسيع نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ومضيق البوسفور، وخططها لتعديل الجغرافيا الطبيعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية للمنطقة، من خلال بناء قناة إسطنبول والتحكم في مضيق الدردنيل؟
لا يمكن النظر إلى المظهر الخارجي للعلاقات الأميركية التركية من دون مراقبة السياسات الفعلية لأنقرة واعتمادها على إيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين التركية العثمانية والطورانية، وعلى إخوان الدرجة الثانية في الفرع العربي للجماعة، لاستحضار المقاتلين المأجورين ورفد الجيش التركي بـ”الإرهابيين” الذين يعملون وفق أجندة استخباراتها، ويقاتلون في أي أرضٍ تختارها، ويُقتلون وتتم تصفيتهم عندما تدعو الحاجة.
بات من الواضح لجوء الولايات المتحدة إلى استخدام تركيا أداةً بالوكالة وعصا غليظة لحل المشاكل الجيوسياسية التي تواجهها، من خلال حاجتها الماسّة إلى جعلها رقماً صعباً في لعبتها المزدوجة الخفية، عبر توريطها وتوريط إردوغان شخصياً في صراعاتها ومخططاتها لتحقيق أهدافها وإعادة رسم الخرائط العالمية؟